ثمة بديل لوصفات صندوق النقد الدولي الانتحارية

March 8th 2010 | كتبها


 

من تجربة هيوغو شافيز الاقتصادية المظفرة في فنزويلا

 

د. إبراهيم علوش

 

[ملاحظة: هذه الدراسة الصغيرة نشرت على حلقتين في اليوم السابع، الملحق الأسبوعي للعرب اليوم الأردنية، في 3/10/2005، وفي 10/10/2005).

 

كم رئيس دولة في العالم الثالث يسعه اليوم أن يقف أمام العالم، كما وقف الرئيس الفنزويلي هيوغو شافيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 15/9/2005 ليتحدى أمريكا وحلفاءها، لا بالموقف السياسي الصلب فحسب، بل بإنجازات اجتماعية واقتصادية حقيقية لحكمه؟!

 

وكان مما جاء في الأجزاء الاقتصادية لخطاب شافيز أمام الجمعية العامة، وهي الأجزاء التي أهملتها الصحافة العالمية:

 

“يستطيع الشعب في فنزويلا، في سبع سنوات فقط من الثورة البوليفارية، أن يدعي لنفسه اليوم إنجازات اجتماعية واقتصادية مهمة”.

 

“فقد تعلم القراءة والكتابة مليونٌ وأربعمائة وستة آلاف فنزويلي، ونحن الفنزويليِّن خمسٌ وعشرون مليوناً بالمجمل.  وبلادنا ستعلن خلال أيام منطقة محررة من الأمية.  وقد أصبح ثلاثة ملايين فنزويلي، بعد أن استثنوا من النظام التعليمي سابقاً بسبب الفقر، جزءاً من نظام التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي”.

 

“وبات سبعة عشر مليوناً من الفنزويليِّن –  أي سبعون بالمئة من السكان تقريباً – يتلقون العناية الصحية الشاملة، ومنها الدواء، للمرة الأولى في حياتهم، وخلال بضعة سنوات، سيتمكن كل فنزويلي من الوصول مجاناً لرعاية صحية ممتازة”.

 

“ويتم إيصال أكثر من مليون وسبعمائة ألف طن من الأغذية لأكثر من اثني عشر مليون إنسان بأسعار مدعومة من الدولة، أي لنصف الشعب تقريباً، ومليون كامل من هؤلاء يتلقون تلك الأغذية بشكل مجاني تماماً، لأنهم يمرون بمرحلة انتقالية.  وقد تم خلق أكثر من سبعمائة ألف وظيفة جديدة في اقتصادنا، وهو ما قلل معدل البطالة عندنا تسع نقاط مئوية كاملة”.

 

“وقد حدثت هذه الإنجازات في خضم عدوانين خارجي وداخلي، تخللهما انقلاب عسكري وإغلاق كامل لصناعة النفط نظمتهما واشنطن.  حدث هذا بالرغم من المؤامرات، وبالرغم من الأكاذيب التي تنشرها وسائل إعلام قوية ضدنا، حدث في ظل تهديد الإمبراطورية وحلفائها الدائم لنا، حتى أنهم دعوا لاغتيال رئيس دولة علناً.  فالبلد الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه المرء أن يدعو لاغتيال رئيس دولة هو الولايات المتحدة.  وكانت تلك حالة قس اسمه بات روبرتسون، مقرب جداً من البيت الأبيض، إذ دعا لاغتيالي شخصياً، وما زال روبرتسون طليقاً: ذلكم هو الإرهاب الدولي!”

 

وقد آثرنا أن نقتطف هذه المقاطع من خطاب شافيز الأخير في الأمم المتحدة لأنها تظهر نجاح عملية البناء الداخلي في ظل تهديد شديد وتدخلٍ سافرٍ من قبل”الإمبراطورية”، وهو التعبير الذي يستخدم في أمريكا الجنوبية لوصف الولايات المتحدة الأمريكية، مع العلم أن النهج الاقتصادي الذي تتبناه حكومة شافيز، منذ وصلت السلطة في أواخر التسعينات، يقوم على جعل الاقتصاد في خدمة الشعب، بدلاً من جعل الشعب في خدمة الاقتصاد.  فالتجربة الفنزويلية الناجحة اقتصادياً تمثل خطراً حقيقياً على النموذج الليبرالي الجديد الذي تحاول واشنطن والمؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أن تسوقه لشعوب العالم عامة، والثالث خاصةً، باعتباره النموذج الوحيد القابل للحياة بعد انهيار النموذج السوفياتي أساساً لأسباب اقتصادية، فالنموذج السوفياتي لم ينهر نتيجةً لحرب مثلاً.

 

على العكس من ذلك، جاءت الثورة البوليفارية في فنزويلا منذ انتخب شافيز هناك عام 1998، ثورة ضد برامج التصحيح الاقتصادي التي فرضت على فنزويلا، ضد خصخصة القطاع العام وبيعه للأجانب بأبخس الأثمان، ضد تغول الشركات متعدية الحدود والفنزويليِّن المتعاونين معها  على المجتمع باسم تحرير السوق والتجارة، ضد تهميش الفقراء اقتصادياً وسحق الطبقة الوسطى في الوقت الذي تزداد فيه الثروات ويقال للشعب أن الأمور بأحسن حال لأن التصحيح الاقتصادي “يأخذ مجراه”.

 

الثورة البوليفارية تسمى هكذا طبعاً تيمناً بسيمون بوليفار الذي حرر أغلب أمريكا اللاتينية من الاستعمار الإسباني في بداية القرن التاسع عشر ودعا وعمل لتوحيد أمريكا اللاتينية.  فالدعوة البوليفارية هي دعوة وحدوية في أمريكا اللاتينية تماماً كالدعوة للوحدة العربية عندنا.  ولأن التنمية والحرية الحقيقيتين لا يمكن أن تتحققا في العالم الثالث إلا على في سياق مشروع قومي مناهض للإمبريالية، كان لا بد لمشروع التنمية الاقتصادية الفنزويلي أن يكون أيضاً مشروعاً وحدوياً من الطراز الأول، مشروع تنمية مقاتل متصادم مع “الإمبراطورية” أثبت نفسه في الميدان بالرغم من العراقيل التي توضع يومياً في طريقه، فبات لذلك نموذجاً بديلاً لدول العالم الثالث يستحق الدراسة والعناية.  إنه المشروع الذي نقدمه في هذه السطور: المشروع التنموي الوحدوي على النمط الفنزويلي الشافيزي.  وقد تم ترسيخ البعد الوحدوي في النموذج الفنزويلي بإعادة تسمية البلاد رسمياً في الدستور الذي أقر عام 1999: جمهورية فنزويلا البوليفارية.

 

وتمثل النزعة الوحدوية بحد ذاتها، عدا النموذج التنموي البديل، تحدٍ مباشر لهيمنة “الإمبراطورية” على أمريكا الجنوبية، سواءٌ أتت من فنزويلا أو من البرازيل أكبر أقطار أمريكا اللاتينية التي تختزن نفس النزعات الوحدوية، فلنا أن نتخيل فقط حجم التوتر الذي تثيره تجربة هيوغو شافيز برمتها في الجهاز العصبي للنخبة الحاكمة في واشنطن والمؤسسات الاقتصادية الدولية والشركات متعدية الحدود وهو يتوجه لوضع يده بيد البرازيل، هذا غير مواقف شافيز السياسية المعروفة التي لن نركز عليها في هذه المعالجة، وعلى رأسها موقفه العلني الفريد مع العراق طبعاً، مع العلم أن شافيز نفسه لا بد أنه يدرك جيداً أن انشغال “الإمبراطورية” بالعراق وأفغانستان من أهم العوامل التي تسهم بإنجاح تجربته!

 

هل النفط وارتفاع سعره هو السبب؟

 

 يسعى الكتاب المناهضون لفكرة وجود طريق اقتصادي أخر غير طريق الليبرالية الجديدة لأن يعزوا نجاح التجربة الفنزويلية لتوفر النفط بكثرة في فنزويلا ولارتفاع سعره مؤخراً.  وهم يقولون أن تجربة فنزويلا الاقتصادية الناجحة في ظل هيوغو شافيز لا تعني العالم الثالث بشيء لأنها تجربة فاشلة، حسب زعمهم، لولا توفر النفط في فنزويلا.  ويشير هؤلاء لامتلاك فنزويلا لأكبر احتياطي نفطي في الشطر الغربي من الكرة الأرضية، وقد كانت تنتج ثلاثة ملايين برميل من النفط يومياً يخطط الآن لرفعها إلى 3،6 مليون برميل، وهي رابع أكبر مصدر للنفط للولايات المتحدة الأمريكية، بينما السعودية ثالث أكبر مصدر للنفط لأمريكا، والمكسيك ثاني أكبر مصدر، حسب أرقام العام 2005 حتى الآن.  كما أن فنزويلا تجلس، فوق ذلك، على ثروات معدنية كبيرة من البوكسيت المستخدم في إنتاج معدن الألمنيوم، ومن الفحم والحديد والألماس والذهب.  لذا، لا يصح أن نسقط تجربة فنزويلا على أية دولة غير فنزويلا حسب زعم هؤلاء السادة، خاصة عندما تكون أسعار النفط مرتفعة كما في العام 2005، حتى بالنسبة للنفط الفنزويلي الثقيل (الأقل جودةً والأرخص سعراً بالتالي من النفط العربي الخفيف).

 

يرتعب كثيرون بالفعل من جاذبية التجربة الفنزويلية لشعوب أمريكا اللاتينية والوسطى، وجاذبيتها لشعوب العالم الثالث، وعلى رأسها الشعب العربي بالطبع، خاصة من جاذبيتها بالنسبة للشعوب التي لا تستفيد كثيراً من ثرواتها النفطية والمعدنية.  فهل صحيحٌ الادعاء أن تجربة هيوغو شافيز الاقتصادية غير قابلة للتعميم؟

 

الحقيقة أن مثل هذا الإدعاء يصدر عن اعتبارات أيديولوجية ترتبط بخوف الليبراليين الجدد من نموذج اقتصادي بديل، بدأ يثبت نجاعته على الأرض، أكثر من ارتباطها بفحص وتدقيق علميين للوقائع.

 

فالوقائع هي أن ثلثي الشعب الفنزويلي، عندما وصل هيوغو شافيز للحكم كان يعيش تحت خط الفقر، بالرغم من طوفان فنزويلا على بحر من الثروة النفطية والمعدنية.  فإذا كان النفط قد لعب دوراً في تحسين معيشة الفنزويليِّن اليوم بالرغم من وجوده سابقاً، فما ذلك إلا لأن شافيز بدأ ينفق عائداته على شعبه ومشروعه التنموي، بدلاً من ذهاب عائداته لطغمة حاكمة فاسدة وشركات متعدية الحدود.  وهذا الاستنتاج قابل للتعميم خارج حدود فنزويلا.  فمن الواضح أن ملايين الفنزويليِّن الذين كانوا يعانون من الجوع والأمية والبطالة قبل شافيز لم يفدهم نفط بلادهم شيئاً من قبل!  ففنزويلا تتشابه هنا مع باقي دول العالم الثالث باستشراء البطالة والفقر والجوع والأمية…

 

وقد كان الفساد أيضاً مستشرياً في البلاد من قبل إلى درجة أن كبار المسؤولين الحكوميين كانوا ينهبون المال العام ويهربونه للخارج ليتباكوا بعدها على قلة الاستثمار في الاقتصاد الوطني ويقترضوا من الخارج!! وقد كتب أحد الاقتصاديين الأمريكيين في نهاية الثمانينات أن أموال “المستثمرين”  الفنزويليِّن في الخارج كانت تفوق الدين العام الفنزويلي بكثير.  وما زالت معركة شافيز مع الفساد مستمرة كأحد شروط إبقاء رأس المال الوطني وطنياً، وهذا قابل للتعميم خارج فنزويلا…

 

وعلى سيرة الدين العام، ورث هيوغو شافيز من الإدارات السابقة ديناً عاماً ضخماً بلغ عشرات المليارات من الدولارات.  وما زال الدين العام عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني الفنزويلي، المديون الذي يقال لنا أنه ثري، حيث يقدر الدين العام الخارجي ب 27،7 مليار دولار، والدين العام الداخلي ب 15،3 مليار دولار، أي ما يبلغ مجموعه بالمجمل 43 مليار دولار من الدين العام حسب أرقام عام 2005، وتكلف خدمة  الدين العام سنوياً بضعة مليارات من الدولارات كأقساط وفوائد، وهي عدة مليارات من العائدات النفطية والمدخرات التي كان يمكن أن تذهب لتنشيط الاقتصاد.  فنحن نتحدث هنا عن معجزة اقتصادية في فنزويلا إذن، يمثل نجاح مشروعها التنموي بالرغم من الدين العام الضخم تجربة غنية قابلة للتعميم في العالم الثالث.

 

من ناحية أخرى، يعبر الإدعاء القائل بأن النفط وارتفاع سعره هو سر نجاح التجربة التنموية الفنزويلية عن جهلٍ مدقع بوقائع وأرقام الاقتصاد الفنزويلي في عامي 2004 و2005، عندما بدأت تظهر النتائج الملموسة لمشروع شافيز.  فما بين تموز/ يوليو 2003 وتموز/ يوليو 2004، ازداد إنتاج القطاع الصناعي الفنزويلي (غير النفطي) ما بين الربع والثلث حسب القطاع، وقد أتت هذه الزيادة من القطاع الخاص، لا من شركة النفط الفنزويلية التي تملكها الحكومة مثلاً.  وقد جاءت زيادة الإنتاج في قطاعات الألبسة ومنتجات الخشب والسيارات والآلات و المعدات الكهربائية، أما القطاع الصناعي الوحيد الذي لم ينمو بنسبة الربع إلى الثلث، بل أقل من ذلك بكثير، فقد كان قطاع التعدين والمعادن الذي نما بضعة نقاط مئوية فقط، ربما بسبب سيطرة الشركات الأجنبية عليه.  وكذلك نمت مبيعات المفرق أو التجزئة أكثر من الربع عن العام السابق، خاصة السيارات والأطعمة وغيرها، بسبب ازدياد القوة الشرائية لعامة الشعب.  وبالنسبة للعام 2004، نما القطاع الخاص عامةً بنسبة 18،6 بالمئة، ونما القطاع العام بنسبة 11 بالمئة.

 

ولا بد أن المؤسسات الاقتصادية الدولية تعرف أن الصادرات غير النفطية الفنزويلية ستتجاوز ثماني مليارات من الدولارات عام 2005، وهي نسبة لم تعرفها فنزويلا في تاريخها، حسب تقرير نشر في 18/9/2005، وتتكون هذه الصادرات من المعادن والمنتجات الكيماوية والقطع الألكترونية والبلاستيكيات والمنتجات الصناعية والزراعية، بعد أن كانت فنزويلا قبل شافيز تعتمد على الخارج للحصول على أغلب غذائها.

 

ولعل الدليل الأهم على عدم اعتماد نجاح تجربة هيوغو شافيز الاقتصادية على النفط وعائداته بالقدر الذي يدعيه خصومه هو قيام أمريكا من خلال الموالين لها في فنزويلا بفرض الشلل الشامل على القطاع النفطي الفنزويلي بضعة أشهر في مرحلة ما في العامين 2002 و2003، مما أفقد البلاد أكثر من سبعة مليارات دولار من العائدات النفطية.  وكان ذلك على خلفية المعركة الرهيبة التي استعرت وقتها ما بين القطاعات الشعبية من جهة، وفئة رجال الأعمال الكبار المرتبطة مصالحهم ب”الإمبراطورية” والشركات متعدية الحدود من جهة أخرى.

 

فنحن نتحدث عن مشروع تنموي حقيقي إذن، يقوم على تغيير ميزان القوى لمصلحة الشعب داخل المجتمع الفنزويلي نفسه لا على مجرد طفرة نفطية عابرة.  ومع أن الطفرة النفطية شكلت عاملاً مساعداً بلا أدنى شك، يبقى الأساس المشروع التنموي الذي عرف كيف يستفيد منها.  وتوجد أمثلة كثيرة على دول نفطية لم تنمُ قطاعاتها غير النفطية بنفس الطريقة التي نمت فيها في فنزويلا في ظل الطفرة النفطية، بل تم رفع أسعار مشتقات النفط على شعوبها من قبل الشركات الأجنبية التي تسوقه.  ولم نرَ مثل هذا في نيجيريا الغنية بالنفط، ولم نره في المكسيك المجاورة، ولا في الدول العربية النفطية، بل تسابق فنزويلا الزمن لخلق اقتصاد متطور وعادل اجتماعياً لا يعتمد أداؤه على سعر النفط في البورصة العالمية.

 

وليكن واضحاً أن شافيز يدعم القطاع الخاص، خاصة الصغير والمتوسط الحجم، وأن القطاع الخاص الوطني غير المرتبط بالخارج ازدهر في ظله أكثر من أي وقت مضى، كما رأينا من أرقام نمو القطاع الخاص أعلاه، ولكن شافيز احتاج لينجح مشروعه التنموي أن يفرض على القطاع الخاص الالتزام بالضرورات الاجتماعية والمشروع القومي، بينما تقوم الليبرالية الجديدة على إخضاع المجتمعات والأمم لحاجات الرأسمال.

 

وبالطبع، لم يعجب توجه شافيز شريحة كبار التجار والمتمولين والمستثمرين وكبار المسؤولين الحكوميين الذين ترعرعوا في بيئة نهب البلاد وإبقائها بالفقر المدقع بالتعاون مع الأجانب،    فتنطحت تنظيماتهم مثل  Fedecamaros وهو أهم تجمع للمستثمرين الكبار، ومثل Consecomercio وهو أهم تجمع لكبار تجار المفرق، لمقارعة حكم شافيز بالأداة الاقتصادية والمالية التي يملكونها لإسقاطه سياسياً.  ووصل بهم الأمر للتآمر مع الولايات المتحدة وحكومة خوسيه ماريا أزنار السابقة في إسبانيا للقيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب شرعياً هيوغو شافيز.  فتدخل الشعب في الشارع ضد الانقلابيين وأعاد شافيز بالقوة إلى سدة الحكم.  بيد أن  المعركة السياسية والاقتصادية لم تنتهِ بعد عودته للسلطة.  وتمكن شافيز في النهاية من استخدام قوة الدولة وقوة الشارع  لتحجيمهم سياسياً واقتصادياً، دون أن يقضي عليهم.  وفقط عندما تم له ذلك، وتحقق الاستقرار السياسي نسبياً واستتب له الأمر، بدأ المشروع التنموي ينطلق نحو آفاقه الرحبة وبدأ يؤتي ثماره.  وكان شافيز وأنصاره قبل ذلك يضطرون لبذل الكثير من الجهد والوقت في حربهم الداخلية مع كبار المستثمرين والتجار المرتبطين بجهات خارجية، على حساب المشروع التنموي الوحدوي.

المعركة الشرسة للسيطرة على القرار الاقتصادي المحلي:

 

عندما استلم هيوغو شافيز رسمياً مقاليد الحكم في فنزويلا في نهاية التسعينات، كان قد ورث اقتصاداً يعاني من الفقر والبؤس وانعدام المساواة، وتمكن في فترة قصيرة نسبياً من تحسين ظروف الشعب المعيشية من خلال سياسات الإصلاح الزراعي، وتسهيل الإقراض للمؤسسات الصغيرة، والقيام بمشاريع ضخمة لتوسيع وتحسين التعليم الحكومي والصحة العامة وتوزيع الغذاء على الفقراء، كما برز جزئياً من خطاب شافيز في الأمم المتحدة في 15/9/2005.

 

وكانت الأزمة الاقتصادية قد استشرت في البلاد منذ أواسط الثمانينات بسبب انخفاض أسعار النفط وارتفاع معدلات الفائدة في بلدٍ يعتمد أساساً على تصدير النفط والاقتراض من الخارج.  وقد فاقم من الأزمة استشراء الفساد وهيمنة طغمة حاكمة مرتبطة بالشركات متعدية الحدود تتعامل مع وطنها كبقرة حلوب لا يعنيها من أمرها إلا ما تدره عليها من قشدة يمكن تهريبها لحساباتها المصرفية في الخارج سواء عبر نهب القطاع العام أو القطاع الخاص، ولا يمكن الزعم أبداً أن النهب يتم فقط عبر القطاع العام.  وكانت هذه الصيغة تتم في ظل التبعية للولايات المتحدة، أو “الإمبراطورية”، كما يسميها الفنزويليون.  كما كانت تتم على مدى عقود في ظل تداول السلطة في البلاد، بشكل “ديموقراطي” تماماً، ما بين حزبين كبيرين مسيطرين أحدهما اشتراكي-ديموقراطي من نمط الأممية الثانية، والثاني مسيحي محافظ، ولم يؤثر على النخبة الحاكمة، بشقيها المحلي والأجنبي، أي الحزبين استلم الحكم…

 

وفي عام 1988، سلم الرئيس الأسبق كارلوس أندرياس بيريز رأس البلاد لبرنامج التصحيح الاقتصادي الذي وضعه صندوق النقد الدولي، فبدأت سواطير الخصخصة وتخفيض الإنفاق العام وتحرير الأسعار وتخفيف القيود على عمل الشركات الأجنبية تنهال على جسد الاقتصاد الفنزويلي، وبدأ يشعر بألمها الفقراء أولاً، ومن ثم باقي شرائح المجتمع.   وإذا كان تخفيض الأجور والمقاييس المرعية العمالية والصحية والوظيفية والبيئوية هو ما يجتذب المستثمرين الأجانب، فما الفائدة من الاستثمار إذا كان سيجعل حالة معظم الشعب تزيد سوءاً؟!

 

ولكن فوضى الاقتصاد، متى انفلت، لا تصيب الفقراء فحسب…  فقد واجه رافييل كالديرا، الرئيس الذي سبق شافيز مباشرة، هروباً عارماً لرأس المال المحلي بسبب أزمة أصابت القطاع المصرفي في البلاد، مما أدى إلى انهيار البوليفار، عملة البلاد، وازدياد التضخم (أي انخفاض  القوة الشرائية للبوليفار) 71 بالمئة عام 1994 وحده.  ولإنقاذ الدولة، سحب قرض بقيمة مليار و400 مليون دولار من صندوق النقد الدولي عام 95 بشروط تعجيزية جديدة: المزيد من الخصخصة.  هذه المرة ازداد الاستثمار الأجنبي، وترافق ذلك مع ارتفاع أسعار النفط، وبدا كل شيء جميلاً على الورق، ولكن الفقر والفاقة والأمية كانت، في نفس الوقت، في ازديادٍ أيضاً.

 

كان ذلك الوضع الذي ورثته حكومة شافيز عام 1999، وقد قامت استراتيجيتها ابتداءً على تحسين مستوى المعيشة مع محاولة عدم تخويف المستثمرين في القطاع الخاص.  ولكن الجميع أدرك أن رياح التغيير الجذرية تلفح وجوههم بعدما انتصر شافيز بالانتخابات جهاراً نهاراً وانهار الحزبان المهيمنان منذ عقود على النظام السياسي اللذان يدعي أحدهما المسيحية، والأخر الاشتراكية وولاؤهما الحقيقي لأمريكا والشركات الكبرى … وهكذا، قررت قوى الشر الملتئمة من كاراكس عاصمة فنزويلا إلى واشنطن “الإمبراطورية” أن تطيح بشافيز باستخدام سلاح النفط ضده.

 

وكانت واشنطن والشركات الكبرى والنخبة المحلية تملك الكثير من النفوذ داخل شركة النفط الفنزويلية الحكومية المنهوبة على مدى عقود، وكانت نقابة العمال فيها تحت سيطرة القوى المضادة عملياً، فتم افتعال أزمة اقتصادية في نيسان/ أبريل 2002 توجه انقلاب دعمته أمريكا، وقد ترافق تمرد رجال الأعمال المرتبطين بالخارج مع إضراب شامل أحدث الشلل التام في تصدير النفط مما كلف البلاد بالمجمل في النهاية ما بين 7 و8 مليار دولار، حسب المصدر.  وأثر قطع النفط على كل قطاعات الاقتصاد، كما أن حكومة شافيز لم تصلها أية عائدات طوال فترة الإضراب.  فقد كانت حرباً خليقة بأن يفكر بها رجال الأعمال المرتبطين بالخارج، إنها الحرب لإفلاس الدولة.

 

المكتب الاستشاري الاقتصادي التابع للجمعية الوطنية الفنزويلية (مجلس النواب) قدر خسائر قطاع النفط الأولية وحدها بحوالي 3،7 مليار دولار، وقدرت خسائر القطاع غير النفطي على المدى القصير بحوالي 1،19 مليار دولار.  وكادت الحكومة بعدها أن تعجز عن دفع أقساط وفوائد تبلغ خمسة مليار دولار كانت مستحقة على دينها العام الخارجي.  وكاد هذا يودي بالبوليفار عملة البلاد، وقدر محللو العملات الأجنبية أن البوليفار سينخفض إلى 2000 بوليفار مقابل الدولار في نهاية 2003، وانخفضت احتياطات النقد الأجنبي حوالي 900 مليون دولار فقط خلال ثلاثة أسابيع مع هروب رأس المال المحلي للخارج.  كانت حكومة شافيز تنزف بكل ما للكلمة من معنى، ولكنها كانت تدرك أيضاً أن مصير البلاد يتوقف على ثباتها تحت الشدة، وشافيز رجل مبدئي، والمبدئي الحقيقي، كما قال كاسترو مرة، كالذهب الحقيقي، كلما حككته، كلما لمعَ.

 

وكانت واشنطن ونخبة القطاع العام والخاص المحلية المرتبطة بالخارج قد اعتقدتا أن شافيز على وشك التهاوي، فأقدمتا على خطيئة الانقلاب ضد رئيس شرعي منتخب في 11/4/2002، واستلم السلطة بيدرو كارمونا استانغا لمدة 48 ساعة وهو رئيس أهم تجمع لتجار المفرق Consecomercio، وأعلنت واشنطن دعمها للانقلاب قائلةً أن “الحصول على أعلى نسبة من الأصوات ليس وحده كافياً للتمتع بالشرعية”!  نزل الشعب إلى الشارع، وتحركت قطاعات  الجيش الموالية لشافيز، وأعادوا رئيسهم المنتخب بالقوة للسلطة، وتراجعت واشنطن عن دعمها للانقلاب، ولكن المعركة مع المضربين في قطاع النفط بقيت مستمرة، وكذلك مع كبار رجال القطاع العام والخاص المرتبطين بالخارج.

 

وقد أثبت شافيز أنه على قدر عالٍ من الحكمة وضبط النفس، فلم ينجرف للقيام بمجزرة مثلاً بعد العودة للحكم، بل قام بمجموعة إجراءات موضعية محسوبة جيداً لتحجيم كلاب واشنطن، مراعياً الالتزام بالقانون والدستور في كل ما قام به، وكان من تلك الإجراءات الوصول لاتفاق مع معارضيه بأن يجعلوا الشعب حكماً بينهم في صيف 2004، وأن يخضع شافيز لاستفتاء وقتها حول ما إذا كان الشعب يريده أن يستمر أم لا، أما اقتصادياً، فقد قام شافيز بما يلي خلال الفترة التي سبقت الاستفتاء:

 

1)    فصل 18 ألف إداري وفني وعامل في شركة النفط الفنزويلية، أي حوالي 30 بالمئة من القوة العاملة، من أنصار قوى الثورة المضادة.  وكان هؤلاء يعتقدون أنهم محصنون من الطرد لأن الشركة لن تسير بدونهم، وبالفعل انخفض إنتاج الشركة كثيراً بعد فصلهم بعد أن كان ثلاثة ملايين برميل يومياً قبل فصلهم، وعاد وارتفع إلى 2،4 مليون برميل يومياً، ويقال أنه تجاوز سقف ال3 ملايين برميل اليوم، وأنه على وشك الارتفاع إلى 3،6 مليون برميل يومياً، ولكن وسائل الإعلام الغربية تشكك بذلك.

 

2)    فرض قيود مشددة على التداول بالدولار على أن يتم البيع والشراء فقط من خلال هيئة حكومية تعرف باسم Cadivi كانت تبيع الدولار بشروط محددة بسعر 1598 بوليفار للدولار الواحد، بينما كان السعر في السوق السوداء 2500 بوليفار.

 

3)    فرض حد 2000 دولار لمرة واحدة في السنة للفنزويليين الراغبين بالسفر للخارج، ومعظم الفنزويليِّن أصلاً أفقر من أن يفكروا بالسفر للخارج أو من أن يملكوا ألفين دولار، فهذا الإجراء، مثل القيود على تحويل العملة، كان يهدف لمنع تسرب رؤوس الأموال المحلية للخارج.

 

وقد جن جنون المستثمرين والتجار الكبار من القيود التي فرضت على تحويل البوليفار إلى دولار، واتهموا شافيز بأنه يحاول الانتقام منهم لدعمهم الانقلاب ضده، وليلاحظ القارئ الكريم أن تلك الإجراءات جاءت ضمن سياق صراع سياسي، ولم تفرض قبل التمرد على شافيز، وقد خففت كثيراً في العام 2005، دون أن تلغى، وكان وزارة المالية الفنزويلية قد بدأت تبيع الدولار بشروطها من خلال سندات داخل فنزويلا في آب/ أغسطس 2003 على أن لا يسمح لأية مؤسسة أن تشتري أكثر من خمسين مليون دولار من السندات، وعلى أن لا يسمح للبنوك الكبرى وبيوت المضاربة ككل بشراء أكثر من عشرين بالمئة من تلك السندات، لتكون بمتناول العامة والمستثمرين الصغار.

 

وتعتبر مثل هذه القيود في الحكمة الاقتصادية التقليدية، النيوليبرالية، إجراءات انتحارية، ولكن الحقيقة هي أن القيود على أسعار الصرف، وتحويل العملة، في دولة عالم ثالث مثل فنزويلا، كانت واحدة من الطرق القليلة المتاحة للدولة لمنع هرب راس المال المحلي ضمن سياق الحملة السياسية لتكسير الاقتصاد المحلي والعملة المحلية لإسقاط شافيز.  وهذه القيود، ضمن حدود معينة، قد تكون مفيدة لدول العالم الثالث لمنع المستثمرين والبنوك الدولية من تحويل فنزويلا إلى كازينو أو ماخور تخضع ظروف حياته لتقلبات مزاجهم الاستثماري، وهو الدرس نفسه الذي تعلمته دول جنوب شرق آسيا في الانهيار المالي الذي وقع فيها في ربيع عام 1997.  وإذا كانت البنوك الكبرى والمستثمرون الأجانب هي الرابح الأساسي من أزمة القطاع المصرفي في فنزويلا عام 1995، إذ حملوا أرباحهم السريعة وتركوا البلاد، فإن الرابح الأساسي هذه المرة كان الشعب.

 

نعم، تقلص الاقتصاد الفنزويلي كثيراً في العام 2003، لا بل كان معدل نموه بالسالب، بالتحديد 7،7 بالمئة بالأحمر، ولكن مقاليد القرار الاقتصادي انتقلت عملياً لأيدي تحالف الفقراء والطبقة الوسطى والتجار والمستثمرين المحليين غير المرتبطين بالخارج في ظل حكومة شافيز، فتم بذلك وضع أساس النهوض العظيم بالاقتصاد الذي تلا في عامي 2004 و2005.  ولكن بشائر الخير، بالرغم من الركود الذي أوقعه بالاقتصاد عمداً تمرد رجال الأعمال والبيروقراط المرتبطين بالخارج في عامي 2002 و2003، بدأت تظهر في العام 2003 نفسه.  فمع تدفق عائدات النفط لخزائن الدولة وليس لجيوب الفاسدين، بالرغم من انخفاض الإنتاج اليومي بسبب فصل الفنيين، ومع القيود على تحويل العملة، ازدادت احتياطات النقد الأجنبي بمقدار تسعة مليار دولار مع نهاية عام 2003، وبدلاً من الانهيار الذي توقعه “الخبراء” العباقرة على شاشة الCNN، انتصر شافيز، وصمد البوليفار، وتماسك الاقتصاد.  كانت ثمة جراح عميقة بدون أدنى شك، ولكن كان ثمة نصر عظيم أيضاً يكفي لوضع البسمة فوق الجرح، ومن يسعى للانتصارات الكبرى، يتعلم دفع الأثمان الكبرى، ومن يحب الجنة، يتعلم أولاً حب الموت…

 

وبعد انكماش قدر بسالب 7،7 بالمئة عام 2003، وانكماش أخر قبله قدر بسالب 8،9 بالمئة عام 2002.  أصبحت نسبة النمو 17،3 بالمئة عام 2004، مع أن المصادر الأمريكية تشكك بهذا الرقم الذي يقول بعضها أنه أقرب ل12 بالمئة، وهي تبقى نسبة مهولة بأية حال، لكن موقع السي أي إيه على الإنترنت يضع نسبة النمو في فنزويلا عام 2004 عند 16،80 بالمئة (ويقول مثلاً أنها كانت 5،1 بالمئة في الأردن في العام نفسه، أو في ليبيا النفطية 4،9 بالمئة).

 

وفي عام 2004 في فنزويلا أيضاً، نما قطاع البناء 32،1 بالمئة، وقطاع المؤسسات المالية والتأمين 26،6 بالمئة، والنقل والتخزين 26،4 بالمئة، والتجارة وخدمات الصيانة 25،5 بالمئة، والتصنيع 25،4 بالمئة، والتعدين 11،8 بالمئة، والاتصالات 10،2 بالمئة، والكهرباء والماء 6،9 بالمئة.  وقد قصدنا أن نورد هنا نسب النمو في القطاع الخاص المحلي في ظل حكومة شافيز، ومن المتوقع أن تكون نسب النمو هذه بنفس المستوى عام 2005 أو أعلى.

 

وكنا قد أشرنا كيف وصلت الصادرات غير النفطية إلى أعلى معدل لها في تاريخ فنزويلا عام 2005، وهي التي تقلصت بشدة في العامين 2002 و2003 بفعل التخريب.

 

ولكن النجاح الأهم لشافيز لا ينعكس بالأرقام، بل بانعكاس تلك الأرقام على تحسن نوعية الحياة بسبب تبني شافيز لقضايا الناس: محو الأمية، والتعليم والصحة، وتأمين الوظائف، والتزام الدولة بتأمين الحد الأدنى من الدخل والغذاء، خاصة بعد أن بدأت الحكومة الفنزويلية بتوجيه جزءٍ متزايدٍ من عائداتها النفطية والضريبية للإنفاق الاجتماعي.  وقد كان هذا بلا شك من العوامل التي ساعدت شافيز على الانتصار نصراً مدوياً في الاستفتاء على استمراره في الحكم في 15/8/2004، بالإضافة للاستقرار السياسي الذي تمكن من فرضه، وازدياد الاستهلاك والاستثمار، وارتفاع أسعار النفط، وزيادة الإنفاق الاجتماعي.  هذا مع العلم أن احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي الفنزويلي وصل في شهر 9/2005 ما يعادل 31،7 مليار دولار، وتوفر احتياطي كافي من العملة الصعبة من المقاييس الرئيسية التي يعتمدها صندوق النقد الدولي نفسه في تقييم مدى الاستقرار الاقتصادي في دولة ما.

 

الخطوط العريضة لمشروع شافيز الاقتصادي:

 

يمكن تقسيم مشروع شافيز الاقتصادي إلى عدة عناصر متكاملة، بعضها يرتبط بتنشيط الاقتصاد على المدى القريب، وبعضها يرتبط  بتنمية وتطوير الاقتصاد وتغيير بنيته جذرياً لمصلحة الفئات المسحوقة على المدى البعيد، وبعضها يرتبط ببرنامج تحقيق وحدة أمريكا اللاتينية والوسطى على المدى الأبعد لخلق اقتصاد عملاق ووزن جنوبي مقابل لوزن “الإمبراطورية” الشمالية على صعيد القارة الأمريكية، وعلى الصعيد العالمي بأسره.

 

أولاً: على المدى القصير – على النقيض من تعليمات المؤسسات الاقتصادية الدولية، وضعت حكومة شافيز على عاتقها مسؤولية النهوض بالاقتصاد هنا والآن من خلال ما يلي:

 

1)    تنشيط الاقتصاد من خلال زيادة الإنفاق العام – فمن ناحية اقتصادية محضة، وبغض النظر عن الفوائد الإنسانية والسياسية لتحسين مستوى المعيشة، فإن زيادة القوة الشرائية بيد عامة الناس يفيد التجار والمستثمرين في النهاية، ويحرك الاقتصاد، ولذلك كان يعتبر الإنفاق الحكومي أحد أهم عوامل النمو الاقتصادي في أية دولة حتى سيطر النيوليبراليون على أقسام الاقتصاد في الجامعات الغربية والمؤسسات الاقتصادية الدولية.  ففي عام 2005 مثلاً، ازداد الإنفاق العام 38 بالمئة عن سابقتها، وهو ما لا يمكن فصله عن معدل نمو اقتصادي وصل إلى 9،3 بالمئة حتى شهر 9 / 2005 فقط، ولكن ما يهمنا بالتحديد من الإنفاق العام هنا هو البرامج الاجتماعية، وقد خصص صندوق من ستة مليارات دولار في فنزويلا لهذا الغرض.  ومن المفهوم أن زيادة الإنفاق ليست مجرد إجراء تقني في فنزويلا، بل تمثل جزءاً من مشروع جعل الموارد النفطية والمعدنية أداةً للتغيير الاجتماعي.  فالإنفاق العام يمكن أن يحفز الاقتصاد، في سياق أخر، ولكن بتوجيهه نحو أشياء غير بناء المنازل لأصحاب الدخل المحدود مثلاً أو تحسين الصحة والتعليم جذرياً لعامة الشعب، أو دعم المحروقات التي يستهلكها الناس.

 

2)    محاربة الفساد والتهرب الضريبي بقسوة – حيث اعتبرت حكومة شافيز هذه المسألة ضرورية لتكسير مراكز القوى المعادية داخل الدولة، ولوقف التهرب الضريبي من قبل الشركات متعدية الحدود بعد أن كانت تنهب البلاد بلا حسبٍ أو رقيب.  مثلاً، جاء في تقرير إخباري يوم 7/10/2005 أن حكومة شافيز أمرت بإغلاق عددٍ من مكاتب الشركات متعدية الحدود في فنزويلا لمدة تتراوح ما بين يوم ويومين ريثما يتم التدقيق في سجلاتها المالية التي أظهرت عددا من المخالفات الضريبية.  ومن هذه الشركات IBM  و Microsoft ، ومنها شركات تصنيع الهاتف النقال مثل: Nokia,  و Ericsson و Siemens.  ومنها مصنعو قطع السيارات Bosch Rexroth، ومنها شركة تجميع السيارات هوندا موتورز.  ومن المتوقع أن تفرض عليها مصلحة الضرائب الفنزويلية غرامات كبيرة بسبب تهربها من الضرائب، هذا غير متابعة عدد من الشركات النفطية الأجنبية لجمع مليار دولار من الضرائب القديمة المستحقة.  وعلى صعيدٍ أخر، ما زالت المعركة ضد الفساد المحلي على أشدها، ومن الطبيعي أن لا تكون مثل هذه المعركة ممكنة أصلاً دون نزع السلطة السياسية من الفاسدين الذين لن يقاوموا أنفسهم بأنفسهم.

 

3)    تصحيح العلاقة مع الشركات متعدية الحدود، من خلال رفع المعدلات الضريبية عليها، حسب القطاع الذي تعمل فيه، مثلاً في بعض الحالات من 34 بالمئة (لم تكن تجبى جيداً إصلاً) إلى 50 بالمئة، وفي بعض الحالات من واحد بالمئة ضرائب على الأرباح إلى 16،6 بالمئة، وفي عام 2001، سن قانون جديد يفرض ضريبة 30 بالمئة من الأرباح على المستثمرين الجدد، ولأن الاقتصاد مزدهر، والفرص الاستثمارية كبيرة، فإن الكثير من تلك الشركات، خاصة في القطاع النفطي، لا تهرب، بل يأتي المزيد منها رغبةً بالاستثمار في فنزويلا.  ويشار هنا أيضاً أن الحكومة الفنزويلية تعيد التفاوض حول الامتيازات القديمة التي كانت تتمتع بها تلك الشركات، وتعمل على زيادة حصة الدولة في المشروعات الجديدة.  فالأولية هنا هي حقوق الشعب لا حقوق المستثمرين الأجانب.

 

4)    تطوير البنية التحتية في البلاد على طريق تصنيعها ورفعها إلى مصاف الدول المتطورة، ومن ذلك مثلاً، مليار دولار رصدت لمشاريع المواصلات، كتوسيع نظام قطارات الأنفاق Subway وسكة قطار لربط العاصمة بضواحيها الجنوبية.  ومن المعروف أن الإنفاق على البنية التحتية يخفف كلفة النقل والاتصال، وبالتالي يخفف كلفة المقايضات للمشروعات الاقتصادية، كما أنه يؤمن الوظائف الجديدة (إذا كان يعتمد على العمالة المحلية)، وبالتالي المزيد من القوة الشرائية بيد الشعب.

 

5)     إخضاع القطاع الخاص للاعتبارات الاجتماعية، مثلاً، فرض على البنوك أن تقبل بعض الإشراف من الدولة للحد من قصص المحسوبية في القروض، خاصة للتدقيق في التجاوزات التي يتم بموجبها إعطاء قروض لمن هم غير قادرين على سدادها.

 

ثانياً: على المدى الطويل – وضع كارلوس لانز، المهندس الأساسي لإصلاحات شافيز الاقتصادية، وهو مقاتل يساري سابق وأستاذ جامعي حالياً، نموذجاً اقتصادياً يقوم على مبدأ “المشاركة” و”المجتمع التعاوني” يستهدف نقل المزيد من السلطة والثروة للفئات المهمشة دون الوقوع في نموذج الملكية البيروقراطية المركزية للدولة، ويسعى هذا النموذج لإحداث تنمية ذات محرك داخلي، تحقق العدالة الاجتماعية، وتنقل الاقتصاد الفنزويلي إلى مصاف الدول المتطورة في آنٍ معاً.  وتقوم هذه التجربة على:

 

1)    استخدام عائدات النفط في تأسيس وتمويل آلاف التعاونيات الصغيرة الزراعية والصناعية والتجارية التي تعمل بعدها وتنجح أو تفشل بجهدها الذاتي حسب قوانين السوق ودون إشراف الدولة المباشر، ولكن ضمن خطتها العامة للتنمية.  وهناك عدد من المصانع المغلقة أو الفاشلة التابعة للدولة سابقاً التي تم تحويلها للتعاونيات، وبدأ هذا النموذج يؤتي أكله بتصدير فنزويلا للغذاء بعد أن كانت تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد الغذاء.  وبدأت تصدر السلع الصناعية بعد أن كانت الصناعة فيها ضعيفة.  ولننتبه هنا أن الدولة لا تدعم المشروعات الفاشلة، بل تساعد بإطلاق التعاونيات فحسب، وتدعمها لتأسيس المصانع الجديدة، ويبدو أن هذه المصانع تسير بشكل جيد حتى الآن.

 

2)    مساعدةُ الدولةِ العمالَ بشراء حصص في الشركات التي يعملون فيها لإعطائهم صوتاً في الإدارة.

 

3)    إيجاد بديل استراتيجي للاعتماد على النفط، من خلال مشروع تنمية صناعية، وتقليل الاعتماد على تصدير النفط إلى الولايات المتحدة، مع العلم أن فنزويلا تملك شركة CITGO في الولايات المتحدة لتوزيع النفط هناك، وهي شركة مقرها هيوستن في ولاية تكساس، ولكنها ليست شركة توزيع مشتقات نفطية تملكها فنزويلا فحسب، بل أن مصافيها مصممة لتكرير النفط الفنزويلي الثقيل بالذات.

 

4)    احترام القطاع الخاص ودعم رجال الأعمال الذين يعملون ضمن إطار الاستراتيجية الاجتماعية والوطنية.

 

5)    القيام بإصلاح زراعي حقيقي من خلال تحويل ملكية الإقطاعيات الكبيرة إلى التعاونيات والفلاحين.

 

6)    القيام بجهود حقيقة لرفع نوعية القوة العاملة في البلاد، أولاً من خلال محو الأمية، وثانياً من خلال رفع سوية التعليم بكل مراحله، وقد أنفقت فنزويلا 4،5 مليار دولار على التعليم في السنوات الأخيرة فقط.

 

ثالثاً: مشروع شافيز الوحدوي في أمريكا اللاتينية- هنا لم يرفع شافيز شعاراً وحدوياً فحسب، بل أتبعه بمخطط سياسي واقتصادي للدفع باتجاه الوحدة عملياً في أمريكا اللاتينية.  وكان من ذلك:

 

1)    وضع مشاريع لمد أنابيب نفطية إلى كولومبيا وبنما والبرازيل.

 

2)    تصدير النفط إلى عشر دول في أمريكا الوسطى بأسعار تفضيلية مخفضة.

 

3)    الدفع جدياً باتجاه إقامة مجمع نفطي عملاق حنوب أمريكي باتجاه التخلص من الشركات النفطية متعدية الحدود.

 

4)    تصدير النفط الفنزويلي إلى كوبا مقابل 13 ألف طبيب كوبي وآلاف المعلمين والمدربين الرياضيين وغيرهم، وهو ما يساعد بحل مشكلة الشعب الفنزويلي الصحية والتعليمية، ويساعد بحل مشكلة الشعب الكوبي الاقتصادية والنفطية، وقد اشتكت المراجع الأمريكية أنها لا تفهم تفاصيل العلاقة التجارية ما بين فنزويلا وكوبا لأن تفاصيلها غير معلنة.

 

5)    العمل على تقليل الاعتماد التصديري على الولايات المتحدة من خلال تعزيز الصلات مع الصين والهند وروسيا والبرازيل، وتعزيز العلاقات العسكرية مع روسيا والبرازيل وإسبانيا.

 

6)    تأسيس محور الخير الذي يقوده شافيز مع لولا دي سيلفا في البرازيل وكاسترو في كوبا، في مواجهة محور الشر الذي تقوده الولايات المتحدة، ويجدر الانتباه أن مرشحون متحالفون مع شافيز بدرجة أو بأخرى وصلوا للسلطة في البرازيل والإكوادور والأرجنتين.

 

7)    الضغط باتجاه تبني دول أمريكا اللاتينية في مؤتمرها المنعقد في أوائل شهر 12 / 2004 حوالي 32 مشروعاً للبنية التحتية لربط أجزاء أمريكا اللاتينية ببعضها البعض.

 

8)    دعم ثوار كولومبيا المجاورة في مواجهة الوجود العسكري الأمريكي – والرجاء الانتباه – والعسكري والأمني “الإسرائيلي” لدعم الحكومة التابعة للولايات المتحدة هناك.

 

ولا يغطي ما سبق كل مناحي التجربة الاقتصادية الفنزويلية، ولكنه يسعى لأن يعطي القارئ العربي لمحة عامة عنها.  وأهم ما في هذه التجربة الرائدة أنها تعتمد على قواها ومواردها الذاتية، وأنها تختبر نموذجاً جديداً في إدارة الاقتصاد يجعل الإنسان والشعب أولويته الأولى، نموذج يدرك جيداً العلاقة العضوية ما بين النهضة والتنمية من جهة، والتخلص من التبعية للإمبراطورية من جهة أخرى، ويدرك جيداً العلاقة العضوية ما بين التنمية والوحدة والأسواق الكبرى.  فليس من مشروع تنموي في العالم الثالث إن لم يكن وحدوياً، وليس من مشروع نهضوي إن لم يكن مناهضاً للإمبريالية.

 

وهو مشروعٌ ما برحت تحيق به مخاطر موضوعية وخارجية مثل تربص القوى المعادية الخارجية والداخلية في الظلام لهذه التجربة الرائعة وغيرها من المخاطر، ولكن لا بد من الاعتراف، بغض النظر عما سيحدث في المستقبل، بأنه مشروعٌ متميز ذو ملامح عالم ثالثية خاصة به، مشروعٌ يحتوي عناصر قابلة للترجمة على الأرض في أمريكا اللاتينية وخارجها، في الدول النفطية الغنية-الفقيرة وخارجها، مشروعٌ يسعى أن يسلم القرار الاقتصادي والسياسي للشعب وأن يرفع مستوى معيشته وأن يفك تبعية الاقتصاد للشركات متعدية الحدود، دون الوقوع في مطبات الملكية البيروقراطية المركزية لوسائل الثروة والإنتاج التي ساهمت بإسقاط التجربة السوفياتية.

 

وتنبثق التجربة الفنزويلية من القاعدة تحت رعاية “الحلقات البوليفارية” التي تنتشر في كافة أرجاء المجتمع والأحياء والمصانع والقرى لتنشر الفكر الوحدوي البوليفاري المناهض للإمبريالية.  وفي ظل تهديدات “الإمبراطورية” المستمرة للتجربة الفنزويلية، وجاذبيتها المتصاعدة لدول أمريكا اللاتينية، تعبئ فنزويلا نفسها للمواجهة أيضاً، خاصة بعدما رشحت تقارير عن “خطة بالبوا” لغزو فنزويلا.  وقد أدخل شافيز التدريب العسكري إلى المدارس، وبدأت في عهده عملية إعادة كتابة التاريخ الفنزويلي من أجل إعادة كتابة المستقبل، والقلم بيد، والبندقية باليد الأخرى، وهي تجربة من الحري بنا أن ندرسها جيداً كعرب، وأن ندعمها وأن نبني أفضل العلاقات مع روادها بما يفيد كل المستضعفين في الأرض.

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.