الليبرالية: أنواعها، تناقضاتها، وانقلاب دورها المعاصر

January 2nd 2021 | كتبها

 

الليبرالية وأنواعها وتناقضاتها وانقلاب دورها المعاصر*

 

إبراهيم علوش – طلقة تنوير 73

 

حول الرأسمالية والليبرالية:

كان النظام الإقطاعي هو النظام السائد في أوروبا الغربية في القرون الوسطى، وقد استمرت بقاياه حتى القرن الثامن عشر والتاسع عشر في بعض البلدان الأوروبية الغربية، وكانت من سمات النظام الإقطاعي الاجتماعية استناده إلى نظامٍ طبقيٍ يقسّم المجتمع إلى لوردات ونبلاء ورجال دين لا يتساوون مع عامة الشعب، لا سيما طبقة الفلاحين التي تشكل الجزء الأساسي من عامة الشعب.

ترافق صعود الرأسمالية في أوروبا الغربية مع تزايد التجارة، ومن ثم الثورة الصناعية التي قلبت موازين الاقتصاد والمجتمع والسياسة؛ ففي حيز الاقتصاد، انتقل مركز الثقل من الزراعة إلى الصناعة؛ وفي حيز المجتمع، انتقل مركز الثقل السكاني من الريف إلى المدينة؛ وفي حيز السياسة، انتقل مركز الثقل من الإقطاعيين والكنائس إلى أصحاب المصانع وأصحاب رأس المال، وإلى رجال الدولة الحديثة، الدولة القومية المركزية التي قامت بعدما شعر أصحاب المصانع ورأس المال بضرورة توحيد السوق القومية؛ وفي حيز الثقافة، انتقل مركز الثقل من رجل الدين إلى المثقف الحديث (ولم تحدث مثل هذه النقلة في مجتمعنا العربي لأننا لما ننجز عملية الانتقال إلى الحداثة).

لم يحدث الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي سلمياً أو بسلاسة، بل اقتضى قروناً من الصراعات الدموية والسياسية والثقافية، وحتى الدينية، بين الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تمثل النظام الإقطاعي من جهة، وحركات الإصلاح البروتستنتي التي كانت تمثل البرجوازية الصاعدة.

لا بد من التشديد هنا على أن مصطلح “برجوازية” لا يعني طبقة الأغنياء بالمطلق في أي عصر، بل يعني طبقة التجار الكبار والصناعيين الذين نشؤوا مع تبلور النظام الرأسمالي من رحم النظام الإقطاعي، أي أن المصطلح هو نتاج تطور تاريخي محدد يرتبط بسكان المدن في العصور الوسطى الذين كانوا حاضنة الرأسمالية الأولى في ظل النظام الإقطاعي، وكلمة برجوازية مشتقة من bourg أو burg ومنها جاءت كلمة bourgeois أي ساكن المدينة، ومنها bourgeoisie ، أي طبقة البرجوازيين (وأصل الكلمة عربي بالمناسبة، وتعني “برج”).  ولا يصح إطلاق وصف “برجوازي” على الأغنياء في العصر الإقطاعي أو العبودي (السابق للإقطاعي) أو على المجتمعات التي لم تدخل مرحلة التحول الرأسمالي في آسيا وإفريقيا.

الرأسمالية نظام يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (المصانع والأصول المادية عامة)، وعلى الإنتاج السلعي (أي الإنتاج لا للاكتفاء الذاتي للمنتِج أو للقرية، بل للسوق ككل)، وعلى هيمنة السوق (بمعنى أن قوة العمل مثلاً تصبح سلعةً خاضعةً للبيع والشراء، وهذا اسمه العمل المأجور، الذي يُباع ويُشترى أسوةً بأي سلعة).

الإقطاع بصفته نظاماً يربط الفلاحين بالأرض (نظام القِنانة)، وبصفته يمثل تفتتاً سيادياً وقانونياً يفرض عشرات المكوس والضرائب والقوانين المختلفة بحسب الإقطاعيات المنتشرة على أرض أمة من الأمم، مثلاً ألمانيا في بداية القرن التاسع عشر كانت تتألف من أكثر من 500 إمارة ودويلة ودوقية إلخ… مثّل عائقاً أمام الرأسمالية من ناحيتين: أ – حرية الناس في الانتقال للعمل في المدن في المصانع والمؤسسات الرأسمالية الصاعدة، و ب – حرية البضائع ورأس المال في الانتقال من إقطاعية أو إمارة إلى أخرى إلا بعد دفع الكثير من الضرائب المتعددة وإلا بعد الانصياع لقوانين وتعليمات قد تكون متنافرة أو لا عقلانية، وهو ما شكل عائقاً كبيراً لتوسع السوق.

كان الإقطاعي يحكم مستنداً إلى “حق إلهي” ما يُعد التشكيك فيه نوعاً من “الكفر” و”التجديف”، وكان الظل الأعلى للنظام الإقطاعي، وهو الكنيسة الكاثوليكية، يتخذ طابعاً دينياً، وكان البشر في ظل الإقطاع والكنيسة مجرد “رعايا”، لا مواطنين، وكانت “حقوق” الإقطاعيين والنبلاء ورجال الدين حقوقاً تستند إلى ألقابٍ موروثة تُعد بحد ذاتها “تميزاً” جاء عبر “حق الولادة” القائم على منظومة يصعب فيها الصعود الاجتماعي، أي تحسين الإنسان لوضعه الاجتماعي، إلا من خلال الصدف، أو التدخل الإلهي، ومن هنا الروايات الكثيرة في تلك المرحلة مثلاً عن الأمير الذي أحب ابنة قرية وتزوجها، أو عن ابن القرية الذي تتيح له الصدف وفروسيته أن يتحول إلى أمير، إلخ…

الليبرالية هي الرد الأيديولوجي للبرجوازية الصاعدة على منظومة الألقاب الموروثة الإقطاعية والامتيازات الأرستقراطية، وهي تتمحور حول التركيز على الفرد، وحقوق الفرد، ومركزية “الإنسان” (اقرأ: الفرد) في العالم، وعلى تساوي المواطنين أمام القانون، وحرية الحركة والتنقل والتعبير، والأهم، حرية الملكية الخاصة وعصمتها، وبشكلٍ عام، أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات أمام الدولة-الأمة Nation-state التي تمثلهم.

فكرة الدولة-الأمة على المقدار ذاته من الأهمية هنا مثل فكرة الحرية الفردية في تلك المرحلة التاريخية من الصراع بين الإقطاع والرأسمالية، ولم تكن تؤخذ الأولى (الحرية الفردية) من دون الثانية (تأسيس دولة قومية موحدة)، فالثورة الفرنسية عام 1789 مثلاً، كنموذج أعلى للثورة البرجوازية ضد الإقطاع، تضمن برنامجها نقطتين أساسيتين: أ – المواطنة والحريات الفردية، ب – حق تقرير المصير، المستمد من سيادة الشعب على أرضه، نقيضاً لسيادة النبلاء والكنيسة والإقطاعيين.

الرأسمالية طرحت منذ البداية، في مواجهة التفكك الإقطاعي، شعاراً تعبوياً يصب في مصلحتها، وفي مصلحة عامة الناس في آنٍ معاً، وهو: Laissez faire et laissez passer، وهو يعني “دعه يعمل، ودعه يمر”، وهو تعبير فرنسي يعود إلى القرن السابع عشر، وتم تعميمه في القرن الثامن عشر من قِبل الاقتصاديين الفرنسيين.

تعبير ليبرالي Liberal مشتق من كلمة Liber اللاتينية، وتعني “حر”، وفي مواجهة الإقطاع كان ذلك يعني ضرب منظومة الامتيازات الإقطاعية والكنسية على حساب عامة الشعب عموماً والفلاحين خصوصاً، فالحرية الفردية لا تُطرح بالمطلق، بل تطرح كبرنامج لطبقة برجوازية ناشئة ونظام رأسمالي صاعد في مواجهة طبقة النبلاء والكنيسة وملاكي الأراضي الطفيلية، وفي مواجهة منظومة إقطاعية آفلة، والهدف من طرح مسألة الحرية الفردية كان تفكيك المنظومة الإقطاعية، وارتباط الفلاح بالأرض، وحق التاجر والمستثمر بالعبور عبر إمارات الإقطاعيين، وإحلال منظومة أخرى رأسمالية محلها، لمصلحة الطبقة البرجوازية الحديثة في النهاية.

شعار الثورة الفرنسية Libertéégalitéfraternité، أي “حرية، مساواة، أخوة”، الأساس فيه هو الحرية والمساواة، أما الأخوة فهي للاستهلاك، فشعار الحرية يعني التحرر من القيود الإقطاعية والكنيسة الكاثوليكية التي كانت تعيق التراكم الرأسمالي أساساً (قبل أن تقوم تلك الكنيسة بتحول لمسايرة الزمن)، وشعار المساواة يعني الإطاحة بمنظومة الرتب والألقاب الإقطاعية والكنسية الموروثة والمكفولة بـ”حق إلهي” مزعوم، ولأن النظام الإقطاعي في فرنسا رفض التأقلم مع متطلبات التطور التاريخي، فقد تمت الإطاحة به بعنف ودموية، ونشأت من لدن الثورة الفرنسية علمانية متشددة، أما في بريطانيا في المقابل، في القرن السابع عشر، قبل أكثر من 150 عاماً من الثورة الفرنسية، فقد تم الوصول إلى تسويات تاريخية، بحيث تبقى الملكية صورياً، وبحيث يكون الملك أو الملكة هو الرئيس الرسمي للكنيسة البروتسانتية، الدين الرسمي للبلاد، بموجب قانون سنه البرلمان البريطاني عام 1701،  اسمه الـ Act of Settlement.  ومن البديهي أن هذا تحول إلى مسألة صورية في بريطانيا مثل الملكية ذاتها.

في الخلاصة، كان الطرح الليبرالي البرجوازي في بلدان أوروبا الغربية في تلك المرحلة طرحاً تقدمياً، بمعنى أنه كان طرحاً يخدم التطور التاريخي وتحرر الإنسان في التخلص من ربقة النظام الإقطاعي، وهو ما أتاح تأسيسَ دولٍ قوميةٍ مستندةٍ إلى مبدأ المواطنة على أنقاض التفكك الإقطاعي والسلطة الكنسية العابرة للقوميات، ولكن القوة الدافعة للطرح الليبرالي كانت الطبقة البرجوازية الصاعدة، وسنأتي لاحقاً لأبعاد نشر المفاهيم الليبرالية المستندة إلى مرجعيات فردية في أممٍ لم تحقق وحدتها القومية بعد، أو بلدانٍ برسم التفكيك، مثل بلدان الأمة العربية، ومن دون البعد الآخر للثورة الفرنسية وهو حق تقرير المصير (والوحدة) للأمم.

حمل نابليون بونابرت معه رسالة الثورة الفرنسية إلى أمم أوروبا في بداية القرن التاسع عشر، أما الحرب العالمية الأولى عام 1914 فقد أسفرت عن انحلال أربع إمبرطوريات عابرة للقوميات تحمل بقايا إقطاعية في جوهرها، منها الإمبراطورية العثمانية، وكان الطرح الليبرالي العربي والإسلامي، كما تجلى في مشاريع النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد ربط بين الحريات الفردية وتحقيق مشروع نهوض قومي أو مشروع تأسيس دولة وحدة عربية، وقبلها كان ذلك هو مشروع إبراهيم ابن محمد علي باشا عندما جاء من مصر إلى بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ يركز كثيرون على مشروعه الوحدوي، من دون أن ينتبهوا إلى أن إبراهيم باشا كان يحمل معه أيضاً مشروع دولة المواطنة العابرة للملل والنحل، فقد كان إبراهيم باشا بكل معنى الكلمة نابليون العرب.

حول العلاقة بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاجتماعية:

تتخذ الليبرالية معانيَ مختلفةً على الصعد الاقتصادية والسياسية، فهي على الصعيد الاقتصادي حرية العمل والاستثمار والبيع والشراء من دون قيود، وحق الملكية الفردية وحصانتها، وهي على الصعيد السياسي حرية التعبير والاجتماع، وحق التساوي أمام القانون، واستقلالية القضاء، والانتخاب الحر لممثلين للشعب ينوبون عنه في تقرير شؤونه، وهي الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لضمان منع الاستبداد، وهي تربط مشروعية الحكم برضا المحكوم، كما أن الليبرالية تعني على صعيد الفلسفة السياسية اعتبار الفرد مرجعية الحق والباطل والصح والخطأ وعدم تدخل الدولة أو المجتمع فيما يراه الفرد مناسباً له إلا بمقدار ما يمكن أن يضر به الآخرين.

على الرغم من أن جذور المفاهيم الليبرالية تمتد عميقاً في تاريخ الفكر والفلسفة إلى اليونان والشرق، فإن ذلك لا يهم كثيراً في الواقع، لأنها لم تتخذ صورة فلسفة شائعة تمثل مصلحة طبقة اجتماعية محددة في مرحلة تاريخية محددة إلا مع صعود الرأسمالية، وهي مرحلة عصر التنوير الأوروبي Age of Enlightenment، وكان الفيلسوف السياسي الأبرز المعبر عنها هو البريطاني جون لوك John Locke (1632-1704) الذي ما برحت أفكاره تُعد المرجعية الأولى للفكر السياسي الليبرالي الكلاسيكي.

قبل الدخول في الفرق بين الليبرالية السياسية من جهة والليبرالية الاجتماعية من جهةٍ أخرى، لا بد من تحديد الفرق بين الليبرالية السياسية من جهة والليبرالية الاقتصادية… وهو جوهر التناقض الذي زرع انشقاقاً عميقاً في التقليد الليبرالي وصولاً إلى تاريخنا المعاصر.

الليبرالية السياسية، كما جاء آنفاً، تنطلق من مفهوم دولة المواطنة، وحرية التعبير والاجتماع والإعلام، وممارسة المواطنين لسيادتهم على أرضهم من خلال ممثلين منتخبين، وحقهم بالتصويت العام، وبأن يحاكَموا محاكمة عادلة أمام قضاء مستقل وغير متحيز، ومحو الامتيازات الأرستقراطية (المرتبطة بالإرث الإقطاعي والكنسي).. ولننتبه جيداً إلى أن محور الليبرالية السياسية فيما يتعلق بعلاقة المواطن بالدولة هو فكرة المساواة، أي تساوي الحقوق والواجبات.

الليبرالية الاقتصادية، بالمقابل، تركز على حقوق الملكية وقدسيتها، والأسواق الحرة، والتجارة الحرة، والاستثمار غير المقيد، وباختصار، حق رأس المال في أن يفعل ما يريد، وهو جوهر فكرة الحرية في الفكر الليبرالي: مصلحة الطبقة البرجوازية.  أما الحديث عن حرية المواطن في أن يأكل ويشرب ويلبس ويعيش كما يريد في حياته اليومية فلم يعد يُطرح اليوم إلا في مواجهة القيود الدينية والاجتماعية المحافظِة، وما عدا ذلك فإنه نوعٌ من ذر الرماد في العيون.

التناقض الذي نشأ في رحم الفكر الليبرالي، بعد انتصار الثورات البرجوازية في أوروبا الغربية، كان بين فكرة الحرية (الاقتصادية أساساً) من جهة، وفكرة المساواة (السياسية والاجتماعية أساساً) من جهةٍ أخرى.  فـ”الحرية الاقتصادية” في ظل النظام الرأسمالي أفضت إلى نشوء طبقة برجوازية تملك من الإمكانيات والسلطات والنفوذ والتأثير والقدرة على التحكم بمخرجات النظام السياسي ما كان يحلم به الإقطاعيون والنبلاء حلماً، وهو ما حوّل شعار المساواة أمام القانون إلى أضحوكة في ظل تصاعد الفقر والبؤس والبطالة والأزمات الاقتصادية والتفاوت الطبقي في النظام الرأسمالي.

من هنا شكّلت النزعة الاشتراكية، لا سيما في فرنسا في القرن التاسع عشر  (كما مثلها الفلاسفة سان سيمون وفورييه وبرودون)، حتى قبل تبلور الفكر الماركسي، استمراراً تاريخياً لشعار المساواة في الثورة الفرنسية، ولكنه استمرارٌ اقتضى الانتقال من نقطة مرجعية إلى أخرى، أي من مرجعية الفرد إلى مرجعية الجماعة، وهذا شكل تحولاً في المنظور الفلسفي ذاته أفضى إلى اعتماد منظور أولوية مصلحة الجماعة على الفرد، وهو جوهر الفكر الاشتراكي، المناقض بالتعريف لليبرالية.

أنصار الحرية الفردية المطلقة في الاقتصاد من الليبراليين تحولوا إلى “محافظين”، كما في بريطانيا، أو كما في حالة الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وهناك حالة أكثر تطرفاً هي الـ Libertarianism التي تنادي بالحرية الاقتصادية وانسحاب الدولة تماماً من الاقتصاد والمجتمع إلا بصفتها دولة حارسة، أي لممارسة الأمن والدفاع والقضاء، وهنالك صيغة أكثر تطرفاً من هؤلاء هي الدعوة لانسحاب الدولة حتى من الأمن والدفاع والقضاء وتسليم كل تلك الوظائف للقطاع الخاص، وهذا التيار له نفوذه وتأثيره، وهو يدعو لخصخصة السجون والشرطة والأمن إلخ… وتسليم كل تلك الوظائف للقطاع الخاص، وثمة تجارب لخصخصة السجون في الولايات المتحدة، وبالطبع فإن الشرطة أو الحراسة الخاصة، ومن ثم الجيوش الخاصة، هي جزءٌ من هذا التوجه، الذي عممته العولمة عسكرياً فيما بعد من خلال الشركات المرتزقة الخاصة، مثل شركة “بلاكووتر” الأمريكية، وشركة “سادات” التركية.

الليبرالية الاجتماعية هي تيار في الفكر الليبرالي يحاول مصالحة مفهومي الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، وبالتالي فإن لديه منظرين ومفكرين يجادلون بأن الحديث عن المساواة، من دون تحقيق شروطها، يحول الفكرة الديموقراطية إلى هراء، فلا معنى للحديث عن الحرية وتساوي الحقوق في ظل التهميش الاجتماعي والاقتصادي، ولهذا يرون أنه لا بد من تدخل الدولة لتحقيق تلك الشروط عبر التعليم المجاني والطبابة المجانية ودعم الفئات الأقل حظاً والأكثر تهميشاً في المجتمع وتأهيلها لكي تتمكن من ممارسة حقوقها التي ينص عليها القانون، ومن هؤلاء الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة، والأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في أوروبا الغربية، وهؤلاء قد يتساهلون مع تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق هدف المساواة، وقد يتقبلون بدرجات متفاوتة فكرة الاقتصاد المختلط، ولكنهم ليسوا اشتراكيين، بل يعودون في النهاية إلى جذورهم الليبرالية، على عكس الاشتراكيين الذين انقلبوا على المرجعية الفردية إلى مرجعية جمعية.

الشق الكبير في الحياة السياسية في الغرب، على صعيد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، هو بين هذين التوجهين، وهو ما يوصف خطأً باليمين واليسار في الغرب، أو في الكيان الصهيوني بين الليكود وحزب العمل سابقاً، ولهذا فإن تعبير ليبرالي في السياسة بات يُحفظ في الغرب اليوم لهذه الفئة (الساعية لمصالحة فكرة المساواة الاجتماعية مع فكرة الحرية الفردية)، أما الليبراليون المتطرفون في الاقتصاد على حساب المساواة السياسية فيعدون محافظين.

الليبراليون في السياسة في الغرب باتوا يشددون اليوم على التعددية الثقافية وحقوق الأقليات واحتقار الحس القومي وإعلاء شأن التجارة الدولية كأداة لتحقيق السلام الدولي، وهو خط الإدارة الأمريكية في ظل بِل كلينتون أو أوباما، وهؤلاء يتبنون المدرسة “النيوليبرالية” في السياسة الدولية، أما الجمهوريون فيتبنون المدرسة “الواقعية الجديدة” في السياسة الدولية.

الخط الليبرالي الجديد ازدهر مع ازدهار فكرة العولمة، وعبور الحدود، وتجاوز القوميات، ولكن مع انتصار الصين في لعبة العولمة، ارتد الغرب إلى مدرسة “الواقعية الجديدة”، التي تركز على الأمن القومي، والتي يمثل ترامب رمزها الأبرز اليوم، ولكن هذا خارج موضوعنا هنا.

كلاهما في النهاية يستند إلى مرجعية الفرد، التيار المحافظ، أو “الواقعي” (وكيسنجر من أبرز منظريه)، أم التيار الليبرالي الاجتماعي، الذي يحاول التخفيف من وطأة الرأسمالية وإفراطها وأزماتها الاقتصادية بشيء من تدخل الدولة في الاقتصاد، من خلال الضريبة التصاعدية وفرض فكرة المسؤولية الاجتماعية على الشركات الكبرى وما شابه، ولكن الليبرالي مرجعيته فردية في النهاية، بمعنى أن ما يصح وما لا يصح يُقاس أولاً بمصلحة الفرد المجرد، الذي يُسمى فلسفياً “حقوق الإنسان”، أي حقوق الإنسان الفرد.

المرجعية القومية أو الاشتراكية بالمقابل هي حقوق الجماعة، حقوق الأمة، أو حقوق الطبقات الشعبية، والمرجعية الوطنية هي حق الوطن، والعبرة ليست في أن الليبراليين يرفضون بالمطلق حقوق الجماعة، ولا في أن القوميين أو الاشتراكيين يرفضون بالمطلق حقوق الفرد، بل في تحديد الأولويات، أي هل تأخذ حقوق الجماعة الأولوية أم حقوق الفرد في القانون والسياسة؟

وهذا هو بالضبط ما يفرق ما بين الليبرالي وغير الليبرالي اليوم، وإعطاء الأولوية للحق العام هو ما يجعل المرء قومياً أو اشتراكياً، وإعطاء الأولوية للحقوق الفردية هو ما يجعل المرء ليبرالياً.

في الولايات المتحدة مثلاً حدث أن تم تبرئة أو تخفيف الحكم على متهمين، ألقي القبض عليهم بالجرم المشهود متلبسين، والدماء تسيل على أيديهم، وفي أيديهم سلاح الجريمة، لأن الشرطي الذي ألقى القبض على المتهمين، في خضم معركة دموية معهم، سقط فيها زملاؤه قتلى وجرحى إلى جانبه، نسي أن يقرأ لهم كمتهمين حقوقهم الفردية المعروفة باسم Miranda Rights: You have the right to remain silent. Anything you say can and will be used against you in a court of law.  You have the right to an attorney.  If you can’t afford an attorney, one will be appointed for you.   إلخ…

يبقى ما سبق نقطة خلاف بين الليبراليين السياسيين/الاجتماعيين من جهة والمحافظين من جهة أخرى تعكس ذاتها في الكثير من الأفلام الأمريكية، وقد شكلت مادة لردة فعل محافِظة على الليبراليين الاجتماعيين، ولكن كذلك يمكن أن تجد مثلاً أن البث التلفزيوني للبرامج المعهودة توقف لأن قطة وقعت في بئر، ليصبح الخبر العاجل هو تغطية عملية إنقاذ القطة إعلامياً، وهو ما يمكن أن يستمر ساعة أو ساعتين، لتتوج النهاية السعيدة بتصفيق الجمهور المتابع لعملية إنقاذ القطة… وهذه ليست سفاهة، بل نتيجة طبيعية للتركيز على الحق الفردي على حساب الحق العام.

أما إذا تحدثت عن قضية شعب، عن قضية فلسطين مثلاً أو السكان الأصليين للولايات المتحدة الذين أبادهم المستعمرون الأوروبيون، أو عن مليون أو مليوني عراقي قضوا بالعقوبات الأمريكية على العراق، أو عن حصار سورية اليوم، أو السطو الأمريكي على نفط شرق الفرات وغازه، فإن ذلك يصبح قضية “خلافية” شائكة ليس من الذوق بشيء طرحها في اللقاءات الاجتماعية.  وتلك هي النتيجة الطبيعية للفكر الليبرالي.  ولنلاحظ هنا كم من مثقفينا ويساريينا العرب يتبنون مرجعيات ليبرالية في الجوهر.

خلاصة الفكر الليبرالي في نهاياته المنطقية، كما لخصها الشاعر السوري أديب إسحق في القرن التاسع عشر، هي:

قتلُ امرئٍ في غابةٍ        جريمةٌ لا تغتفر

وقتلُ شعبٍ آمنٍ            مسألة فيها نظر

وكما صاغت الفكرة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق مارغريت ثاتشر في مقولتها الشهيرة: There is no such thing as society.  There are only individuals.

أي لا يوجد شيء اسمه مجتمع.  ثمة أفرادٌ فحسب.

مشكلة طرح الفكر الليبرالي في ظروف بلدان الوطن العربي:

الليبرالية الاقتصادية في دول الجنوب والشرق عموماً، وفي الوطن العربي خصوصاً، المعروفة اختصاراً باسم “النيوليبرالية”، أي الليبرالية الجديدة، باتت تعني اليوم ترك الحبل على الغارب للشركات عابرة الحدود لكي تتغول كما تشاء، وبيع القطاع العام لها، وإعفاء الدولة من أي مسؤولية اجتماعية، وإحلال الاستيراد محل الإنتاج المحلي، والسماح للاحتكارات بأن تعصر المواطن للقطرة الأخيرة، والتخلي عن مشروع التنمية المستقلة بذريعة الاندماج في الاقتصاد العالمي، وإلقاء العبء الضريبي على المواطن من خلال زيادة ضريبة المبيعات فيما يتم تخفيض الضرائب على الأرباح والدخول المرتفعة.

ومع نشر فكر العولمة وتزايد البرامج التي تطرحها المؤسسات الدولية في الوطن العربي، لا سيما دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني، انتشر في الوطن العربي خطان أحدهما يركز على الليبرالية الاقتصادية، والآخر يركز على الليبرالية السياسية، وكلاهما يكمل الآخر، تماماً كما في الغرب، وكلاهما يشترك بصفة أساسية هي استناده للمرجعية الفردية الصرف في حالة الليبرالية الاقتصادية، أو المرجعية الفردية في الحياة الاجتماعية (أي أن يعيش الفرد كما يحلو له) المخففة بدور اجتماعي للجمعيات غير الحكومية الممولة أجنبياً (بديلاً للدولة)، حتى لو ظهر أنهما مختلفان في المظهر.

المشكلة السياسية في الحالتين هي تجاوز المرجعية الجمعية، كطرف نقيض للمرجعية الفردية، سواء كانت حقوق الأمة (السيادة، القرار المستقل، التحرر) أم حقوق الطبقات الشعبية (الحق بعيشٍ كريم، حق تأمين الحاجات الأساسية، الحق بالتحرر من الاستغلال).

المشكلة الأخرى في الطرح الليبرالي في ظروف البلدان التي لم تحقق وحدتها القومية هي أنها تربط ذلك الطرح بتجاوز الانتماء الوطني والقومي في مواجهة الدول المستقلة وحركات التحرر الوطني، وليس بتكريسه في مواجهة الإقطاع والكنيسة كما كانت عليه الحال مع الليبرالية الأولى في أوروبا الغربية، وبالتالي فإنه يصبح جزءاً من مشروع التفكيك، وفي ظروف الوطن العربي، يصبح الطرح الليبرالي جزءاً من مشروع “الشرق أوسطية”، وبالتالي فإنه يصبح في الوطن العربي جزءاً من تكريس مرجعية الفرد على حساب الهوية والانتماء الوطني والقومي، أي من مشروع اقتلاعه من جذوره.

لو كنا قد أنجزنا عصر النهضة والتنوير والثورة الصناعية، ولو كانت المناطق والقبائل والطوائف قد اندمجت في بوتقة دولة قومية واحدة، تقوم فيها العلاقة على ميزان بين الدولة والمواطن المنتمي بشكلٍ تامٍ وطنياً وقومياً، لأصبح للطرح الليبرالي سياقه المنطقي، أما قبل تحقيق مشروع النهضة والوحدة والتحرر القومي، فإن الطرح الليبرالي يصبح أداة تفكيك، وبالتحديد، أداة لتذرر التراكم المدني الذي حققناه عبر مسيرة مشاريع النهضة العربية المتحققة منذ القرن التاسع عشر إلى شذرات فردية تمارس غربتها في قواقعها الفردية، وهو جوهر أزمة المثقفين العرب المفتقدين للانتماء الوطني والقومي اليوم.

الحديث عن مقياس فردي للحق والباطل والصح والخطأ في مجتمعنا العربي المعاصر الذي لم يحقق اندماجه الاجتماعي على أسس المواطنة القومية أولاً، وجعل الدولة، بالمطلق، عدواً للحقوق الفردية، يؤسس للانسلاخ عن الوطن والهوية، وعن التراث وأي مشروع جمعي بشكلٍ عام، كما أنه يؤسس لإضعاف الحياة الحزبية والسياسة عموماً مع سعي “الأفراد” لأن يكونوا “مستقلين”.

لسنا ضد الحقوق الفردية، ولا نتدخل فيما يخص الفرد عندما لا يكون له بعد وطني أو قومي أو اجتماعي، ولكن ما يجري تأسيسه اليوم هو تكريس تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ اجتماعياً، على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، لا على مستوى علاقة فئات من المجتمع بالدولة فحسب، مع العلم أن جماعة “الحقوق الفردية” يغوصون كثيراً في مسائل حقوق “الأقليات” الحقيقية والمخترعة.

في الخلاصة، أجهض الغرب بالعنف والتآمر كل محاولة عربية لتحقيق النهضة العربية، من مصر إلى العراق إلى سورية إلى غيرها، وبالتالي فإن التطور الطبيعي من الإقطاع للرأسمالية انقطع عندنا، فلا خيار إلا قيام قوة راعية بتحقيق المشروع النهضوي، قوة مركزية، من فوق، تماماً كما حاول محمد علي باشا أن يفعل في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكما فعل بطرس الأكبر في روسيا.  وهذه القوة ليست سوى الدولة صاحبة مشروع النهضة القومية.

*هذه الورقة نسخة موسعة من الجزء المتعلق بالليبرالية في مقالة “مسألة الليبرالية الحديثة في كلمة الرئيس الأسد في جامع العثمان”

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=4341983195818882&id=100000217333066

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.