هل جاءت التوراة من جزيرة العرب؟

January 6th 2021 | كتبها

 

ناجي علوش –  طلقة تنوير 73

 

(مراجعة ناجي علوش لكتاب د. كمال الصليبي المنشورة في مجلة “الوحدة” الشهرية، العدد 24 – أيلول/ سبتمبر 1986، ونعيد نشرها اليوم بمناسبة تغلغل التطبيع في شبه جزيرة العرب، لكيلا يكون لمثل ذلك التطبيع “أساساً توراتياً” أيضاً، بحسب مزاعم البعض)

 

إن الدكتور صليبي يطرح هذه القضية في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب”، ويطرحها مؤكداً على أن التوراة جاءت من هناك، لا باعتبار أن النصوص انتقلت أو اقتبست، بل باعتبار أن المكان الذي تتحدث عنه التوراة هو منطقة عسير في الجزيرة العربية (؟) لا فلسطين.

هنا يطرح علينا الدكتور صليبي إشكالية لم تطرح من ألفي سنة، أو يزيد، ويصطدم طرح هذه الإشكالية بدراسات وأبحاث عديدة، كتبت في تواريخَ مختلفةٍ، وبقناعات رسخت مع القرون، بأن التوراة كُتبت عن فلسطين، وإن لم تكتب كلها في فلسطين.

فعلام استند الدكتور صليبي في طرحه؟  وماذا يعني تأكيد أطروحات الدكتور صليبي؟

ولكن قبل الإجابة على هذين السؤالين، نود أن نؤكد على التالي:

أولاً: أن الكتاب جهدٌ جاد، اقتضى دراسات ومراجعات تستحق الاحترام. فالكاتب لم يُعد دراسة التوراة فحسب، ولم يدقق في ترجمتها فقط، بل درس جغرافية شبه جزيرة العرب دراسةً جادة، وقام بزيارة دراسية للأماكن التي اعتقد أنها المكان الجغرافي للتوراة.

ثانياً: أن الكتاب مسعى علمي لتخطي المألوف، ولإعادة النظر في تاريخ التوراة وتاريخنا عموماً.  وهي خطوة جادة تستحق التقدير، لأن كثيراً من مؤرخي العرب عودونا أن ينقلوا من دون أن يناقشوا ويحللوا، وأن يسلموا بالمعلومات المتداولة من دون تمحيص.  أما هذا الكتاب فيخرج عن المألوف، لا ادعاءً ولا عفواً، بل بمحاولة دراسية جادة.  اتسمت بالجرأة، إلى جانب الجدية.

ثالثاً: أن الكاتب لم يغفلْ، في مقدمة الطبعة العربية، مناقشة الجانب السياسي من الموضوع، “لأن يهود اليهود ليسوا استمراراً تاريخياً لبني إسرائيل، ليكون لهم شيءٌ يُسمى حقوق بني إسرائيل، وذلك سواءٌ كانت أرض بني إسرائيل أصلاً في فلسطين، أم في غير فلسطين” (ص. 13).

وسنحاول الآن، وبعد هذه المقدمة، الإجابة على السؤالين السالفي الذكر.

يقول المؤلف في أول مقدمة الطبعة العربية: “هذا الكتاب بحثٌ في جغرافيا التوراة على أسسٍ جديدة.  وخلاصته أن البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين، بل في غرب شبه الجزيرة العربية بمحاذاة البحر الأحمر، وتحديداً في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن. وبالتالي، فإن بني إسرائيل من شعوب العرب البائدة، أي من الشعوب الجاهلية الأولى. وقد نشأت الديانة اليهودية بين ظهرانيهم، ثم انتشرت من موطنها الأصلي، ومنذ وقتٍ مبكر، إلى العراق والشام ومصر، وغيرها من بلاد العالم القديم” (ص. 11).

ويضيف المؤلف بأن “استعراض الدراسات والأبحاث الضخمة التي أنتجها علماء الآثار والباحثون التوراتيون، خلال السنوات المائة الأخيرة، يلفت النطر إلى أمر في غاية الغرابة، وهو أمرٌ حريٌ بالمتابعة.  ففي حين أن تاريخية عدد من الروايات التوراتية بقيت عرضةً للنقاش الحاد، فإن جغرافية هذه الروايات استمرت معتبرة من المسلمات”.

ويضيف المؤلف أن “الأراضي الشمالية للشرق الأدنى قد مُسحت وحفرت من قبل أجيالٍ متوالية من علماء الآثار… لكنْ لن يُعثر في أي مكانٍ كان على أثرٍ واحد يمكنه أن يوصف جدياً على أنه يتعلق بالتاريخ التوراتي” (ص. 50).

ولقد قرر الدكتور صليبي أن يقلب المألوف، “وبدلاً من أخذ جغرافية التوراة العبرية كمسلمة، ومناقشة صحتها كتاريخ”، يقول د. صليبي: “سآخذ تاريخيتها كمسلمة وأناقش جغرافيتها” (ص. 53).

فعلام استند د. صليبي في هذا كله؟  لقد استند، كما يقول، على: “أن الأكثرية الساحقة من أسماء الأماكن التوراتية، ما زالت موجودة إلى اليوم، بشكلٍ أو بآخر، في غرب الجزيرة العربية، وفي ذلك ما يثبت صحتها” (ص. 16).

ويضيف الدكتور صليبي: “من بين أسماء الأماكن الـ130 الواردة في لوائح عزرا ونحميا والمحددة بقرب غرب شبه الجزيرة العربية الواردة أعلاه، هناك أماكن قليلة قد تبقى غير مؤكدة.  وبالمقابل، ليس هناك إلا قلة ضئيلة جداً من هذه الأسماء نفسها، حُددت بأماكنَ موجودةٍ في فلسطين.  وربما كانت هذه الأسماء أربعة فقط، وهي بيت لحم ولد ونبو وأريحا” (ص 174).

ويقدم الدكتور صليبي، استناداً إلى ذلك، مقارنات بالأسماء، ويجد تماثلاً في حالات كثيرة، وتشابهاً في حالات أخرى، ويلجأ في بعض الأحيان إلى مقارنات تعتمد على قبول فكرة تحريف الكلمات.  ويشير د. صليبي إلى أن ثلاثة آلاف سنة مرت، شهدت تغييرات لغوية وتحولات في اللهجات المحلية، “لهذا، فلا عجب أن الأسماء التوراتية شهدت بعض التحريف خلال ذلك، بل أن المدهش فعلاً، هو أن الأسماء قد بقيت، في أكثرها قابلةً للتمييز في زيها العربي الراهن” (ص. 61).

ولكن هل يكفي أن نعتمد الأسماء دليلاً على تحديد الجغرافيا التاريخية؟

إن الوطن العربي مليءٌ بالأسماء المتماثلة، أو المتقاربة.  وهذا ناتجٌ عن كون سكان الوطن العربي شعباً واحداً.  وقد اعتادوا أن يسموا أماكن سكنهم الجديدة بالأسماء القديمة، ولذلك، يقول د. صليبي، “لا يستبعد أن يكون عددٌ من الأماكن في المنطقتين على السواء، قد سُمي أصلاً بالأسماء نفسها، وخصوصاً حيث كانت الأسماء تدل على مظاهر طوبوغرافية أو مائية أو حياتية بيئية معينة، أو كانت تتعلق بعبادة الإله نفسه.  وفي الثقافة التقليدية، كما في اللغة، لم تكن الشام والجزيرة العربية متباعدتين في أي زمنٍ من الأزمنة” (ص. 36).

وما دام الأمر كذلك، فلماذا يجزم د. صليبي بأن جغرافية التوراة في جزيرة العرب؟  وهل درس أسماء الأماكن في فلسطين، دراسته الأماكن في الجزيرة، ليتأكد من عدم وجود أسماء كثيرةٍ تتماثل أو تتشابه مع الأسماء الواردة في التوراة؟

إن قراءة قاموس الكتاب المقدس (منشورات مكتبة المشعل في بيروت – الطبعة السادسة 1981) تدل على أن هناك كثيراً من الأسماء التوراتية التي ما تزال موجودةً في فلسطين.

ولقد زادت من قناعتنا قراءة قاموس الكتاب المقدس، وكتاب الدكتور صليبي، بأن وطننا ما يزال بحاجة إلى مسحٍ جغرافيٍ وتاريخي، لأننا ما زلنا لا نملك المعلومات الكافية في هذا المجال.  ويكفي أن نشير إلى أن قاموس الكتاب المقدس عرّف “حردة” بالتالي: “اسمٌ عبري، ربما كان معناه برد” (1)، أو قرية جاء منها ناباط أبو يربعام، وربما جاء منها يربعام نفسه (1 ملوك 11: 26)، وربما كانت هي “دير غسانة بالقرب من عين حردة، على مسافة 15 ميلاً جنوبي غرب شكيم” (قاموس الكتاب المقدس، ص. 541).

أما الدكتور الصليبي فيقول: “حردة البلدة موطن يربعام في جوار فرت، وهي اليوم الصدرة (صدرة، مع أداة تعريف، كما هي في العبرية)، وهي أيضاً في منطقة الليث” (التوراة جاءت من شبه جزيرة العرب، ص. 119)!

إلا أن قاموس الكتاب المقدس انتهى إلى أن هناك قرية اسمها حردة في فلسطين إلى الشمال من رام الله، وأن هذه القرية أقرب إلى المكان المقصود، وما يزال اسمها حردة حتى الآن.  ويذكر الأستاذ قسطنطين خمار اسم حردة على أنها قرب نابلس (أسماء المدن والمواقع والمعالم المعروفة في فلسطين حتى 1948 – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص. 145).  وذكرها الأستاذ مصطفى مراد الدباغ في قرى رام الله باسم سُردا (بلادنا فلسطين – الجزء الأول: القسم الأول، دار الطليعة، ص. 244).

هذا وحردة قرية تقع على الطريق العام بين رام الله وبيرزيت، على بعد أربعة كيلومترات من رام الله شمالاً (وطريق بيرزيت- رام الله كان الوالد، رحمه الله، يعرفها جيداً ويسيرها على الأقدام في صباه في طريقه إلى المدرسة كل يوم – إبراهيم علوش).

وهناك دلائل تشير إلى تعسفٍ في ربط أسماء الأماكن بالأقوام، حتى أن د. صليبي يعتبر الحثيين قوماً من الجزيرة العربية، ويشير إلى “الحاثة في منطقة الليث والقوا في زحال ألمع… ووادي حثي في زهراه، وآل حثاحيث في اقسم…” (ص. 261)، بينما الحثييون شعبٌ معروف، ووجوده (كاحتلال) في سورية ثابتٌ تاريخياً، وهناك إشارات إلى وجود جاليات منه في فلسطين، وهو شعب هندي أوروبي.

إذن، ما زلنا بحاجة إلى مسح جغرافي: لنتعرف إلى أسماء المواقع المأهولة والمهجورة، ولنعرف أماكن القرى والمدن التي زالت من الوجود.  ويدل كتاب د. صليبي على توافر معلومات هامة في هذا الصدد عن الجزيرة العربية، وخاصةً المملكة السعودية، فمتى تتوافر المعلومات الحديثة عن أنحاء الوطن العربي الأخرى؟

هل يعني هذا أننا نؤكد أن التوراة جاءت من فلسطين، وأنها لم تكن من جزيرة العرب؟

إننا هنا نود أن نعلن اتفاقنا مع د. صليبي، بأن التوراة جاءت من جزيرة العرب، لا لأن الأسماء الواردة في التوراة موجودةٌ في الجزيرة،، فهذا موضوعٌ آخر، بل لأن هنالك مجموعة حقائق تؤكد هذه الحقيقة، ومنها:

1 – أن التوراة تؤكد، بغض النظر عن رأينا ورأي العلم فيها، من حيث أنها تاريخ، أن إبراهيم كان آرامياً تائهاً خرج من أور الكلدانيين إلى حران، ومنها إلى شمال سورية، ومن ثم إلى فلسطين، فمصر، فالعودة إلى فلسطين، والموت فيها.  وأن أولاده وأحفاده لم ينقطعوا عن مصر وحران، وظلوا يتزوجون ويتاجرون ويهاجرون مع سكان هذين الموقعين.  أما إسماعيل، وأمه هاجر المصرية، فقد سكنا جزيرة العرب.  وبالتالي، فإن التوراة لم تعزل بني إسرائيل عن الجزيرة ووادي الرافدين ووادي النيل.  وهكذا، ولد موسى في مصر، وتزوج من مديان، إلخ… (المعنى هو استحالة فصل فلسطين عن وادي النيل ووادي الفرات والجزيرة العربية وسورية، كما يدرك القارئ النبيه، وبالتالي استحالة الحديث عن إنتاج فلسطيني قُطري للتوراة – إ. ع).  وتظهر التوراة العبريين على أنهم قلة، من عهد إبراهيم حتى دخول فلسطين، بقيادة يشوع، وأنهم مستضعفون.  ويثبت تاريخ بني إسرائيل في فلسطين، كما يقدمونه، على أنهم ظلوا أقلية، وظلت فلسطين عامرة بجماعات أخرى، تذكرها التوراة، وحتى “أورشليم” عينها، لم تكن “عبرية” كلياً، أو يهودية تماماً، في أي يومٍ من الأيام.

2 – أن اللغة التي تسمى عبرية، سواءٌ كانت الآرامية التي “دونت بها الأقسام الأساسية من التوراة، أو الكنعانية السابقة عليها”، كانت، كما يقول د. صليبي، “عبارة عن لهجة من لغة “سامية”، كانت منتشرة في الأزمنة التوراتية في أنحاء مختلفة من جنوب شبه الجزيرة العربية وغربها، ومن الشام، بما فيها فلسطين” (ص. 29)، وكانت هذه اللغة تعرف بلغة كنعان (ص. 244).  وقد شوشت هذه الحقيقة كثيراً من الباحثين الذين اعتبروا العبرية لغةً مستقلة، ولم يعرفوا أنها جزءٌ من لغة كانت تسود الجزيرة ووادي الرافدين والشام ووادي النيل، إن لم نقل الوطن العربي الحالي كله.  ويتضح مثل هذا التشوش لدى باحثين مثل إمانويل فيليكوفسكي، مؤلف كتاب رمسيس الثاني، وكتاب شعوب البحر وعصور الفوضى، وكتبٍ أخرى.

ويشير مؤلف كتاب رمسيس الثاني إلى أن “النتيجة المقبولة عموماً هي أن الكلمات العبرية (الواردة في نصوصٍ مصرية يذكرها) اكتسبها المصريون من سكان كنعان، وأن سكان فلسطين ما قبل الإسرائيليين، الذين يقال عنهم أحياناً أنهم من أصلٍ سامي (سفر التكوين 18:9) تكلموا لغةً سامية عبرية.  وهذه النتيجة التي تدل عليها الكلمات العبرية المقحمة في النصوص البابلية لرسائل تل العمارنة المرسلة من فلسطين، اعتبرت لا خلاف فيها، منذ اكتشاف نصوص رأس شمرا” (رمسيس الثاني، ص. 78).  ويشير المؤلف المذكور، أكثر من مرة، إلى اكتشاف نصٍ عبريٍ في جبيل (ص. 80)، ويذكر أحياناً الحروف العبرية (الفينيقية) (ص. 81 ، وص. 89).  ولعل من أهم ما يطرحه د. صليبي في كتابه ضرورة إعادة النظر في العلاقة بين العربية والكنعانية، وفي التصنيف الجغرافي للغات “السامية” (ص. 17)، وهو ما نتفق معه فيه.  وكون العبرية ليست لغةً مستقلة، إنما هي جزءٌ من تراث المنطقة، يجعل التوراة جزءاً من أدبنا العربي القديم الذي سموه أدب اللغات السامية.

يقول الدكتور أنيس فريحة أحد علماء اللغات السامية في ذلك: “جاء العبران القدماء أرض كنعان غزاةً، وكان لسانهم سامياً آرامياً.  لا نعرف خصائصه على وجه التدقيق، لقلة المصادر الكتابية التي تعود إلى ذلك الزمان.  وبما أن الغزاة كانوا أقلية، وبما أن هذه الأقلية كانت دون أهل البلاد حضارةً وثقافةً، فإنها اقتبست الحضارة الكنعانية، ومن جملتها اللغة.  وفي الواقع إن العبران كانوا يسمون لغتهم  “شفة كنعان”، أي لغة كنعان” (ملاحم وأساطير من رأس شمرا – دار النهار، ص. 242).

ومن المؤسف أن الدكتور صليبي لم يُشر في هذا المجال إلى أبحاث الباحثين الذين سبقوه، وإلى المقارنات التي عقدوها، ومن هؤلاء، الدكتور أحمد سوسه، صاحب كتاب “العرب واليهود في التاريخ”، الذي أفرد لإثبات هذه الحقيقة قسماً من كتابه (الصفحات 412-465)، مقدماً استشهادات عديدة لعلماء وخبراء أجانب.

ويشير د. أحمد الشلبي في كتابه “مقارنة الأديان 1 – اليهودية”، اعتماداً على وِل ديورانت، إلى أن يهوة إله كنعاني، وقد وجدت آثار باسمه في فلسطين تعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد (ص. 154).

ويقدم فيلوكوفسكي مقارنات بين ما تذكره المصادر العبرية والمصرية حول معركة قادس – كركاميش، ليثبت الاتفاق الكامل، معتمداً على كتب العهد القديم من جهة، وعلى النصوص التي كشفتها الحفريات من جهةٍ أخرى (كتاب “رمسيس الثاني”، ص: 38-39).

التوراة جزءٌ من تراث العرب، وهذا ما أثبتته مكتشفات إيبلا، كما ذكرت الصحف، وإن كنا لم نقرأ النصوص بعد.  فهل نهمل هذا كله، لنتمسك بأسماء الأماكن؟  ولدينا حضرموت وصور وصيدا وجبيل في الجزيرة العربية، وأسماء مماثلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط في لبنان وتونس، ولدينا لبنان المعروف، ولبنان الذي يشير إليه الدكتور صليبي في الجزيرة العربية (ص. 151).

ولكن هل يعني هذا أن العبرانيين أقاموا دولةً في عسير؟  ليس بالضرورة.  وليس هناك إثبات تاريخي على تلك الفرضية.  وما طرحه الدكتور صليبي بحاجة إلى أدلة علمية، وهو ما يطلبه من علماء الآثار (ص. 65).

إن كتاب د. صليبي لا ينفي أن تكون لليهود صلةً بفلسطين.  وهذا يطرح علينا، إذا قبلنا فرضيته، أن نعتقد أن العبرانيين أقاموا ملكاً في الجزيرة العربية أولاً، ثم انهار هذا الملك، فهل نستطيع الافتراض أن إبراهيم هاجر بعد هذا الملك، ثم قامت دولة يهودية في فلسطين بعد ذلك، على أساس وعدٍ من “يهوة”، كما تقول التوراة، لتكون تعويضاً عن الملك الضائع؟

وما علاقة فراعنة مصر الذين رعوا يوسف، في خلق هذه الدولة، مع أن موسى زعم أنه هرب من مصر بسبب ظلم فراعنتها، في الوقت الذي ظلت فيه “الدولة العبرية” موقعاً متقدماً مصرياً إلى درجة اضطرت ملوك بابل إلى تدميرها وسبي شعبها.  “وكان الحزب المصري في قصر صدقي ملك إسرائيل قوياً، فلم يسمع لصوت أرميا النبي الذي نصح بعدم محاربة البابليين، ولذلك سجن أرميا، وأعلن صدقي الذي عينه سنحاريب الثورة اعتماداً على فرعون مصر، مما اضطر  سنحاريب لخوض حرب التصفية المعروفة” (رمسيس الثاني، ص: 52 – 57).

إن كل هذا بحاجة إلى دراسة من جديد.

وما دامت التوراة، كما تشير المراجع التاريخية، قد كتبت في السبي، فلماذا لا تكون كل الادعاءات حول فلسطين مجرد مبرر لإثبات جماعة في فلسطين، تلعب هذه المرة دوراً لمصلحة الغزو الفارسي، كما حدث؟

إننا نتفق مع الدكتور صليبي بأن جغرافية التوراة بحاجة إلى دراسة، ولكننا نصر على أن هذا يجب أن يتم انطلاقاً من مناقشة تاريخيتها، لا بافتراض صحة تاريخيتها.  وهناك الكثير من المكتشفات التي تساعدنا في تحقيق هذه الغاية، كما أن هنالك الكثير من الأعمال الكشفية التي يجب أن تُنجز في كل أنحاء الوطن العربي، ومنها فلسطين وسورية ولبنان والعراق ومصر.

بعد هذا كله، هل يتضمن القول إن التوراة جاءت من جزيرة العرب مساساً بأمننا القومي؟  هنا يجب أن نقف.  إن احتلال الحركة الصهيونية فلسطين قام على أساسين: الأول، الوعد الإلهي الذي تؤكده كتب اليهود المقدسة، والثاني، اعتبار كل يهود العالم نسل يهود فلسطين القدماء.  وعلى الرغم من أننا لم نعترف بالدعوتين واعتبرناهما مجرد ادعاء، فإن هذا لم يمنع دول العالم لأسبابٍ أخرى من أن تقبل دعواهم.  وها هو الكيان الصهيوني يقوم بيننا، فكيف يمكن أن يستثمر اعترافنا بأنهم وجدوا قديماً في جزيرة العرب، وفلسطين، وبأن لغتهم هي لغتنا وتراثهم هو تراثنا؟

إن هذا سوف يستغل لغرضين: الأول، إقناع جماعات منا بأنهم عاشوا معنا قديماً وبأنهم منا، وبالتالي فلماذا نقاتلهم؟  والثاني، إعطاء المزيد من المبررات للعالم بأن ينظر لوجودهم بيننا نظرة طبيعية.  وسوف لا يفيدنا كثيراً أن نقول: ليس ليهود اليوم علاقة بالعبريين القدماء.  فاليهودية اليوم دين، يضم جماعات من قوميات مختلفة، وليسوا قوماً من نسل العبريين القدماء.

وبعد ذلك كله هل نغير التاريخ خوفاً من الادعاءات؟  إن هذا لا يحمينا.  فلندرس التاريخ جدياً، ولنتعرف إلى تاريخنا، ولنكشف كل خباياه، ولنبنِ قوتنا اللازمة لحماية أرضنا وشعبنا.  ولنكشف ادعاءات الأعداء بالأدلة الحقيقية، وبالدراسة العلمية، وبالدعاوة العلمية أيضاً.

وأخيراً ما زالت هناك قضايا كثيرة يطرحها كتاب الدكتور صليبي بحاجة إلى مناقشة، نأمل أن يسمح الحيز بمناقشتها، وكم تمنينا لو انشغل علماؤنا بـ”اللغات السامية” في مناقشة ما طرح د. صليبي، وأساتذة الجغرافيا في مناقشة أطروحات د. صليبي حول جغرافية التوراة، ومؤرخون في دراسة جغرافية التوراة بتاريخيتها، لأننا بذلك نفي جهد د. صليبي حقه، ونعطي وطننا وشعبنا حقهما.

كيف جاءت التوراة من جزيرة العرب؟

جاءت التوراة من جزيرة العرب لا باعتبار المكان، بل باعتبار الثقافة، لأن سكان وادي الرافدين والشام ووادي النيل والمغرب العربي، جاءوا من الجزيرة، كما يدل تاريخ الهجرات المعروفة حتى الآن.  ولأن الثقافة السائدة، منذ الأزمان المعروفة تاريخياً، هي ثقافة هذه الأقوام، على الرغم من محاولات أقوام أخرى كالحثيين (الأناضول) والعيلاميين (فارس) والسومريين (؟) السيطرة على المنطقة.

وهناك مؤشرات على قوة هذه الثقافة، وقدرتها على التغلغل في الشعوب الأخرى، ومن ذلك:

1 – فلقد “استخدم الملوك الحثيون لغتين فقط، هما الحثية والأكادية في وثائقهم الرسمية”، وكانت الأكادية التي عرفت لدى الحثيين بأنها “بابلية”، “مستخدمةً على نطاقٍ واسع، في الشرق الأدنى، للمراسلات والوثائق الدبلوماسية، ذات الطابع الدولي… ولذلك فإن الكثير من الوثائق والرسائل الحثية مكتوبة بالآكادية كلياً… وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكلمات الآكادية شائعة في النصوص المكتوبة بالحثية” (و. ر. جرني، “الحثيون”، ص. 119، وص. 127).

2 – أن أسماء ملوك الفلسطينيين ومدنهم (أي قبائل الفلسطو) – وهم الذين يُقال عنهم أنهم شعب هندي أوروبي – أسماء منحدرة من “لغة سامية”، وليس هناك تراث مكتشف للفلسطينيين المشار إليهم يدلنا على لغتهم الأصلية غير الأسماء.

3 – أن اللغة الآرامية أصبحت اللغة الرسمية في فارس ولغة الأرمن، قبل أن تسود فيهم لغتهم الحالية الهندية الأوروبية.

4 – أن الحرف “الفينيقي” انتقل إلى أوروبا عبر اليونان، ولكنه انتقل إلى جنوب شرق آسيا، منذ القديم، حيث ما زال الحرف الرسمي للكتابة في لاوس، حتى الآن.

5 – أن الحرف العربي أصبح الحرف السائد في الكتابة لدى الفرس والأتراك وعدد من الشعوب الإسلامية، حتى في الصين.

ولقد عاش العبرانيون، كما تقول التوراة، من عهد إبراهيم إلى السبي، في المنطقة الممتدة من أور في جنوب العراق إلى حران في شماله، ومنها إلى حلب فالخليل في فلسطين فمصر، ومن مصر إلى شرق الأردن والجزيرة العربية.  وهذا يعني أنهم بغض النظر عن أصلهم السلالي، وهو ما سنتعرض له في مكانٍ آخر، خضعوا للتأثيرات السياسية والثقافية السائدة في هذه المنطقة.

وفي الوقت الذي تجعله التوراة وقت هجرة إبراهيم، وإقامة العبرانيين في مصر، وانتقالهم إلى فلسطين، كانت مملكتا آشور وبابل من جهة، والفراعنة من جهةٍ أخرى، أقوى دول المنطقة.  وعلى الرغم من بروز الحثيين فترة، والعيلاميين أخرى، فإن السطوة السياسية والنفوذ الحضاري كانا لحضارة وادي النيل والرافدين 2500-500 قبل الميلاد، وحين غزا الفرس بابل، ووصلوا مصر، وسقطت السلطة السياسية بيدهم، تبنى الفرس اللغة الآرامية.

فماذا يمكن أن تفعل جماعة صغيرة نسبياً، بدوية، كما تصفها التوراة، وكما تدل وقائع التاريخ، في مثل هذا الجو؟  لقد كان طبيعياً أن تتبنى اللغة السائدة والثقافة الشائعة، وهذا ما حدث.  فلقد تكلم العبرانيون لغةً سموها هم “شفة كنعان” (أنيس فريحة، “ملاحم وأساطير من رأس شمرا”، دار النهار للنشر، ص. 24)، وهذا الاعتراف العبراني المكرر تاريخياً، كافٍ للدلالة على أن العبرانيين تبنوا الثقافة السائدة، سواءٌ كانوا من أبنائها أم كانوا خليطاً من بقايا أقوامٍ مختلفة، تعيش على الأرض التي هي اليوم أجزاء من الوطن العربي.

وهذه الحقيقة التي أكدها الدكتور صليبي بأسلوبه تقوم على إجماع تاريخي من قبلُ، وسنذكر هنا بعض الأمثلة:

1 – جاء في أطلس الكتاب المقدس: “إن الشريعة الإسرائيلية لها ما يماثلها كخلفية قديمة في شرائع الشرق الأدنى، والتي منها الشريعتان السومرية والبابلية المعروفتان لدينا الآن”، ويضيف: “إن الكثير من العادات المذكورة في قصص سفر التكوين تتفق مع الحياة في أرض الرافدين سنة 1500 قبل الميلاد”.

وحين يتحدث الأطلس المذكور عن الخروج من مصر يقول: “ليس في المصادر المصرية التاريخية أي ذكر لوجود بني إسرائيل في مصر، أو إخراجهم منها، لكنْ هناك انطباقاً كبيراً بين القصص المصرية والقصص الواردة في العهد القديم”.

ويشير الأطلس المذكور إلى علاقة العبرانيين بالكنعانيين فيقول: “ولم يحرز الإسرائيليون السيطرة على أرض كنعان إلا تدريجياً، وفي تلك الأثناء أخذوا عن جيرانهم الكنعانيين بعض العادات وأساليب العبادة” (“أطلس الكتاب المقدس”، حرره الأستاذ ه. ه. رولي: دار النشر المعمدانية، بيروت 1983، ص: 27-28).

2 – ذكر جيمس هنري بريستد في كتابه “العصور القديمة”: “إن أصل الأمة العبرية من بادية العرب”، ويضيف بريستد: “كانت هذه الأمة في بدء أمرها قبائل رحلاً، تنتقل بمواشيها على هينتها، من مكانٍ إلى مكان، ارتياداً للماء والكلأ، حتى قيض لها الوصول إلى فلسطين، فجعلتها وطناً ثابتاً لها”.

ويقول جيمس هنري بريستد: “وحين دخل العبرانيون فلسطين، وجدوا فيها الكنعانيين، يقيمون في مدنٍ زاهرة، تطوقها الأسوار الضخمة، فلم يستطيعوا أن يفتتحوا منها إلا المدن الضعيفة”.  ويضيف بريستد: “ولا يخفى أن هذه المدن، التي عجز مهاجموها عن افتتاحها، كانت ذات حضارة قديمة، نشأت منذ ألف وخمس مئة سنة، ومنازل متقنة، حوت كثيراً من أسباب الراحة والرفاهية، وحكومة، وصناعة، وتجارة، وعلم، ومعرفة بالكتابة، وديانة: حضارة اقتبسها أولئك العبرانيون السذج، من مواطنيهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يعيشوا بمعزل عن أصل المدن الكنعانية التي عجزوا عن افتتاحها…” (ص. 177).

3 – وقدم د. أحمد سوسه في كتابه “مفصل العرب واليهود في التاريخ” نماذج مختلفةً لآراء مماثلة، منها مثلاً:

  • وجهة نظر الأستاذ س. ه. هوك: “أصول الطقوس السامية القديمة” الذي يقول: “إننا الآن في وضعٍ أكثر ملائمةً من أي وقت مضى لتوضيح علاقة العناصر الأساسية للديانة اليهودية بشبكة الشعائر الدينية التي كانت سائدة في البيئة السامية القديمة، من وجهة نظر تاريخية جديدة” (د. أحمد سوسه: ص. 416).

  • وجهة نظر الأستاذ أولبرايت، صاحب كتاب “الشعب اليهودي قديماً وحديثاً” الذي يقول: “لقد أصبح مؤكداً الآن أن القصص العبرية المتعلقة بالخليقة والطوفان والجنة إلخ… إما أن تكون مأخوذة عن السومريين مباشرةً، أو مأخوذة عن طريق الآكاديين والعموريين” (د. أحمد سوسه: ص. 343).

وكتاب الدكتور سوسه غنيٌ بمثل هذه الأمثلة.

وقد أدى هذا أن تنقل التوراة قصة الخلق والبعث والقيامة وآدم وحواء وقابيل وهابيل والطوفان وقصة يوسف وقضايا الشريعة من التراث السومري الآكادي البابلي المصري السابق على التوراة، ولقد دلت على ذلك المكتشفات العديدة في وادي الرافدين والنيل والشام.

ولعل من أهم ما يجب أن يذكر هنا قصة ولادة موسى، ذلك أن سرجون الآكادي (2316-2381 ق. م.) يقدم نفسه على أن أمه ولدته سراً “فخبأته في صندوقٍ من البردى، وأحكمت بابه بالقير، وألقته في نهر الفرات” (د. أحمد سوسه: ص. 436).

وهنالك قصيدة كتبها شاعر آشوري، في القرن السابع قبل الميلاد، تروي هذه الحادثة:

“أمي كانت “متقلبة”، ووالدي لم أعرفه.

أعمامي أحبوا التلال وسكنوها

أزوبيراتو، مسقط رأسي، تقع على الفرات.

حبلت بي أمي المتقلبة، وبالسر ولدتني.

في النهر ألقت بي، ومياهه لم تبتلعني.

بل حملني، وإلى “آكي” البستاني أخذني

عنيَ آكي بتربيتي، وكابن له اتخذني

ثم جعلني آكي البستاني لديه بستانياً

وأنا بستاني منحتني عشتار المحبة والنعمة

فمارست الملك تلك السنين”

(د. وديع بشور، “آشور وآكاد”، دمشق 1981، ص: 46-47)

إن اكتشاف التشابه هذا، وحتى التماثل، ما بين التوراة وآداب الحضارة العربية القديمة، كان نتيجة جهد علماء كبار، وكان يستحق من الدكتور كمال صليبي أن يشير إليه، وهو يحاول تأكيد حقيقة، أكدتها الأبحاث والدراسات السابقة…

ولقد كانت العودة إلى هذه الأبحاث والدراسات التي تؤكد اعتماد التوراة على هذا التراث ضرورية لسببين:

الأول، لأن الدراسة العلمية تقتضي الاستفادة من هذه الدراسات والإشارة إليها،

الثاني، لأن العودة إلى هذه الدراسات ستثبت للدكتور صليبي أن ما يربط التوراة بجزيرة العرب ليس فقط أسماء القرى الواردة في التوراة، والتي ما زالت موجودةً في الجزيرة، بل المضمون واللغة أساساً، وهذا ما يمكن إثباته بالرجوع إلى النصوص المتوافرة.

 

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=4214013378615541&id=185865588097027

 

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.