تصويبات بخصوص ناجي علوش: مراجعة لمنير شفيق ومحمد دلبح

July 7th 2022 | كتبها

 

إبراهيم علوش – طلقة تنوير 81

 

أطلق كتاب محمد دلبح، “ستون عاماً من الخداع: من مشروع الزعيم إلى مشروع التصفية”، الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الفارابي عام 2019، تموجاتٍ لم تخمد بعد في بركة الصورة النمطية الآسنة عن ياسر عرفات وتيار التسوية والاستسلام في الساحة الفلسطينية.

كذلك، حظيت مذكرات منير شفيق، “من جمرٍ إلى جمر”، التي صدرت طبعتها الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية في 2021، بكثيرٍ من الاهتمام النخبوي بين المعنيين بتاريخ الحركة الوطنية الأردنية، والحركة الشيوعية العربية، وحركة فتح وصراعاتها، والحركة الإسلامية، لا سيما تجربة قيادي مثل منير شفيق في الانتقال من الأطر اليسارية والوطنية عموماً إلى الأطر الإسلامية، حتى أصبح عضواً في اتحاد علماء المسلمين.

ومع أن الكتابين يختلفان بنسبة 180 درجة في تقييم تجربة ياسر عرفات وحركة فتح والمقـ.ـاومة الفلسطينية عموماً، التي شكلت محور الكتاب الأول، كما شكلت المحور الأكبر ربما، من بين عدد من المحاور، في الكتاب الثاني، فإنني وجدت أن من المناسب أن أراجعهما معاً في السطور التالية من زاوية محددة هي تناولهما للمناضل والمفكر القومي، والقيادي في الثورة الفلسطينية، ناجي علوش، مع العلم أن عدد المداخل التي تتطرق إلى ناجي علوش في كتاب شفيق تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف عنها في كتاب دلبح، وهذا طبيعي، بحكم العلاقة السياسية والتنظيمية والعائلية التي ربطت شفيق وعلوش.  وعليه، فإن من الطبيعي كذلك أن يكون جلّ هذه المعالجة مخصصاً لما كتبه منير شفيق عن ناجي علوش وخلافه الحاد معه.

النقطة الأخرى التي تجعل حصة كتاب الصديق محمد دلبح أصغر في السطور التالية هي أن اتفاقي معه أكبر بالنسبة للموقف من ياسر عرفات وحركة فتح، وأعرف جيداً، بالجينات، أن اتفاق ناجي علوش معه أكبر، فيما ذهب إليه.  ومع ذلك، فإن هذه ليست مراجعة لكتاب دلبح أو مذكرات منير شفيق ككل، إنما للجزء الذي يتطرق إلى ناجي علوش فيهما تحديداً، ولهذا لا بد من بعض التصويبات بشأن ناجي علوش حتى في كتاب “ستون عاماً من الخداع”، فحيث استند محمد دلبح إلى معلومات الراحل عماد ملحس عن ناجي علوش والخلافات في حركة فتح عموماً، فقد اعتمد على معلومات وطيدة وموثوقة، وإن كانت غير مكتملة بحكم عدم إطلالة عماد ملحس على الساحة اللبنانية في المرحلة الأولى؛ وحيث اعتمد دلبح على مصادر مرتبطة بيسار فتح، الذي خذل ناجي علوش ومحمد داود عودة (أبو داود) خلال الصراع السياسي الحاد، والدموي أحياناً، مع ياسر عرفات في لبنان في نهاية سبعينيات القرن العشرين، فقد نشر معلومات غير دقيقة في بعض المواضع، كما سنرى.

تنويه شخصي

 

قد يبدو، بعد فقرات، أن هذه المراجعة هي فتحٌ لعددٍ من الملفات الخلافية مع القيادي والمفكر منير شفيق، في وقتٍ يصطف فيه بوضوح في معسكر المقـ.ـاومة، وهو ما لا ننكره عليه طبعاً، ولست ممن تتوه بوصلتهم بين التناقضات الرئيسية والثانوية.  كما لا يمكنني أن أنكر فضله علي شخصياً في تخصيص أوقاتٍ مطولةٍ في مناقشتي في مسائل الخلاف مع ناجي علوش، وأنا ما أزال في الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمري، عندما خرج الخلاف بينهما إلى العلن بصورةٍ حادة.

ما زلت أختزن في ذاكرتي مناقشاتٍ حامية الوطيس، معي، أو أمامي، فتحت الباب في ذهني على عشرات الأسئلة السياسية والنظرية الكبرى، التي شكلت الحاجة للإجابة عليها حافزاً وجودياً للقراءة في الكتب وفي التجارب.  ومَنْ، في مثل تلك السن، كان يمكن أن يحظى باهتمام منير شفيق ووقته وشرف “المبارزة” الفكرية معه؟!  ومن الواضح أن تلك لم تكن مبارزة حقاً، بل تجربة، أو سلسلة تجارب صعبة بالأحرى، أشبه بمحاولة تسلق القمم العالية، لولا بعض النقاط التي شعرت فيها أنني تمكنت من تسجيلها أحياناً بفضل تأثير أقوى وأكبر هو الحجج التي كانت تزودني بها والدتي، المناضلة المخضرمة والمقاتلة سميرة شفيق عسل، شقيقة منير شفيق، والتي اصطفت سياسياً وتنظيمياً بشكلٍ حازمٍ، لا لبس فيه، مع خط ناجي علوش ضد خط شقيقها، حتى وهي تحرص على ألا ينعكس الخلاف السياسي على العلاقة بين الأولاد والعائلات.

شاءت الأقدار أن تجعل من إصابة والدتي أم إبراهيم بالداء الخبيث ووفاتها عام 1992 عاملاً في التقريب بين زوجها ناجي علوش وأخيها منير شفيق، وهي التي عنت الكثير لكليهما.  وترافق ذلك، في الفترة ذاتها، مع فصل ياسر عرفات لمنير شفيق من مركز التخطيط الفلسطيني في تونس.  وكان الجو السياسي العام قد تغير.  فالاتحاد السوفياتي انهار (الذي شكل موقف منير شفيق الحاد منه أحد مسائل الخلاف الكبرى)، وكانت قد بدأت مرحلة المعاهدات والتطبيع مع العدو الصهـ.ـيوني، وكانت قد خرجت الحركات الإسلامية من صيغة التحالف مع الغرب في الحرب الباردة إلى صيغة الصدام معه (حتى جاء ما يسمى “الربيع العربي” لتعودَ إلى الحبيبِ الأولِ).

وبعد أن شهدت التسعينيات محاولاتٍ شتى لإنشاء محور قومي-إسلامي، استمر تبنيه في سورية مثلاً حتى انضمام حماس للثورات الرجعية المضادة المدعومة إمبريالياً المسماة “ربيعاً عربياً”، يمكن أن نقول إن العلاقة بين منير شفيق وناجي علوش شهدت مصالحة، ثم صداقة جديدة، عززها انخراط حركات إسلامية في مقـ.ـاومة العدو الصهـ.ـيوني ميدانياً في فلسطين، كما عززتها وقفة منير شفيق الأخوية مع ناجي علوش بعد إصابته بالشلل النصفي، نتيجة جلطة دماغية، في 25/11/1997، وهو ما لا يمكن أن أنساه.

عليه، لم أتطرق يوماً من قبلُ إلى مسائل الخلاف مع منير شفيق، على الرغم من ظهور إحداها إلى العلن مثلاً في إحدى جلسات المؤتمر القومي العربي في بيروت في صيف عام 2019، حول موضوعة “الكتلة التاريخية” المخترقة مع الإخوان والليبراليين، التي حاولت قيادة المؤتمر فرضها وقتئذٍ.  ولم تكن مداخلتي موجهةً ضده شخصياً لولا تبوؤه مقعد الدفاع عن تلك الموضوعة.  ومع ذلك، فإنني لم أذكره في خضم الرد مرةً واحدة.  وفي النهاية، لا بد من غلبة الاعتبار العام على الاعتبار الشخصي، مع كل الاحترام والتقدير المستحقين للشخصيات الاعتبارية بكل تأكيد.

أما في “من جمرٍ إلى جمر”، فإن منير شفيق قدم روايته للخلاف مع ناجي علوش وخطه، بأدبٍ وحرصٍ شديدين، نعم، إنما بما يثبت صحة موقفه في المحصلة، وبما يقدم سردية تسعى لتسجيل نقاط على ناجي علوش ومحمد داود عودة (أبو داود)، في غياب الرواية المقابلة تماماً، باستثناء شذرات غير مكتملة في كتاب “ستون عاماً من الخداع” لدلبح.  فمن خيض معهم ذلك الصراع، من ناجي علوش إلى أبي داود إلى سميرة عسل إلى عماد ملحس إلى آخرين، لم يعودوا في دنيانا اليوم.  ولكنْ، تبقى الكلمة والأشخاص يزولون.  والكلمة دين.  والدين في عنق الأوفياء حق.  وهذا إرثٌ نضاليٌ عريقٌ دينه كبير.  فما بالك إن كان ديناً عاماً وخاصاً في آنٍ معاً؟

لن تبقى روايةٌ واحدةٌ في السجل.  للتاريخ، هذه روايةٌ مقابلة.  فلتكن إذاً وضعاً للنقاط على الحروف أو تصويباً أو حق رد، كما يرى القارئ الكريم.  إن بدأت بسببها معركة، فليكن.  وإلا، فلتكن وجهة نظر مقابِلة فحسب، مع المودة والاحترام.  لا مشكلة في الحالتين.  والتناقض الثانوي لا يعطي الطرف الآخر حق التغول على التاريخ، ولو بدماثة.  كما أن الثانوي لا يبقى ثانوياً بالضرورة إن لم يتم الاعتراف بثانويته من قبل الطرفين.

مدخل إلى مسائل الخلاف: مشكلة الإغفال

لعل المشكلة الأكبر في منهجية “من جمرٍ إلى جمر” هي مشكلة الإغفال.  ويبدأ هذا الإغفال منذ الصفحات الأولى، ويمثل خيطاً رفيعاً يستمر من البداية إلى النهاية عبر مسائل الخلاف.  على سبيل المثال لا الحصر، ثمة إشارة (في الصفحة 40) لمستعمرة منتيفيوري الصهـ.ـيونية الاستراتيجية في القدس التي تشرف على المواصلات، ويختبئ فيها الصـ.ـهاينة، في سياق الحديث عن ذكريات الطفولة.  حسناً!  من الذي أنشأ تلك المستعمرة، ومتى؟  لقد نشأت تلك المستعمرة عام 1856، بناءً على فرمان من السلطان العثماني.  وكانت أول مستعمرة في فلسطين، من بين عشرات المستعمرات التي أقيمت في ظل العثمانيين، والتي بلغ عددها 33 مستعمرة في ظل عبد الحميد الثاني وحده.  لكن ضرورات الترويج السياسي للعثمانيين كمدافعين عن فلسطين والعرب تطلبت مثل ذلك الإغفال الجوهري.

وعدت نفسي ألا أتطرق إلى مسائل الخلاف التي لا تتعلق بناجي علوش، لكي نبقى مقتصرين على زاوية محددة.  فلنأخذ إذاً مثال الشهيد حنا مقبل (في الصفحة 229)، والحديث يدور عن عام 1966، بعد خروج منير شفيق من السجن، بعد عشر سنوات: “حنا مقبل كان من تنظيم ناجي علوش، وكان ناجي هو الذي شجع حنا مقبل على مرافقتي رغم ما كنت أتعرض له من تضييق أمني”.  هرب منير شفيق من الضفة إلى الأردن ثم إلى سورية بهوية حنا مقبل الشخصية.  وكان حنا مقبل “الوحيد الذي يجرؤ على السير معي في شوارع القدس”.  ولكن في التعريف عن حنا مقبل نجد فقط أن مثل هذا الصديق العزيز “التحق بحركة فتح بعد حرب عام 67.  وتولى رئاسة مجلة فلسطين الثورة (الناطق الرسمي باسم حركة فتح) حتى عام 73.  انتخب أميناً عاماً لاتحاد الصحافيين العرب لدورتين عام 1979 و1983.  اغتيل في نيقوسيا بإطلاق النار عليه”.

ولا نجد في ذلك التعريف، أو في أي مدخل آخر يتعلق بحنا مقبل في “من جمرٍ إلى جمر”، أي إشارة لمحاولة الاغتيال الأولى لحنا مقبل في 25 تموز عام 1978 من قبل عرفات، وإلى اعتقاله من قبل قوة من الـ17 (أمن القائد العام، يعني عرفات) بعد تلك المحاولة.  كما لا نجد ذكراً بأن حنا مقبل كان أحد مؤسسي الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأنه كان في أمانته العامة، وأمين سره فترة، فيما كان ناجي علوش أمينه العام؛ هذا الاتحاد الذي شكل قلعةً في مناهضة خط التسوية والاستسلام في الساحة الفلسطينية، وشكل وجع رأسٍ كبيرٍ لياسر عرفات، حتى عام 1980، عندما أطاح عرفات بأمينه العام في مؤتمر البوريفاج في بيروت، في غيابه، أي وهو مطارد ودمه مطلوب لعرفات.

هل يمكن أن يكون سبب ذلك الإغفال أن عرفات كان خلف تلك المحاولة لاغتيال حنا مقبل؟  وأنه أصدر بياناً في نعيه قبل أن يتبين له أن أبا ثائر (حنا مقبل) لم يمت؟  في الحقيقة، يذكر محمد دلبح محاولة الاغتيال تلك في “ستون عاماً من الخداع” (ص. 201 في الطبعة الأولى).  لكنه يضيف أن محاولة الاغتيال تلك تنسب “لأحد مساعدي أبي الزعيم، الذي ظل محل غضب عرفات لعدة سنوات…”، وهذا هراء، إذ أن من كان خلف تلك المحاولة هو ياسر عرفات ذاته.

لقد جلس من قاموا بها في سيارة وقفت أمام مدخل المبنى الذي يضم مؤسسة “القدس برس” التي يديرها حنا مقبل في منطقة الجامعة العربية في بيروت.  وقد فوجئوا بأن أبا ثائر ومرافقه جاءا من جهة غير الجهة التي توقعوها، والتي يسلكها حنا مقبل عادةً.  ولذلك اضطروا لتغيير وجهة إطلاق النار، من داخل السيارة التي يجلسون فيها، عندما فوجئوا به وهو يدخل العمارة.  فطاشت رصاصاتهم وأصابته إصاباتٍ سطحية في رأسه.  وكان مرافق حنا مقبل وقتها شاباً لبنانياً موثوقاً اسمه حسان، يعرفه منير شفيق جيداً، وهو في رحمة الله منذ عام 2016، من تيار ناجي علوش.

كان كاتب هذه السطور أول من تلقى الاتصال من حسان في ذلك اليوم، على رقم منزلنا في بيروت، لإيصال رسالة بأن حنا مقبل تعرض لمحاولة اغتيال في منطقة الجامعة العربية، التي كان يعرف القاصي والداني وقتها بأنها المربع الأمني لياسر عرفات، وبأن أبا ثائر أصيب إصابات سطحية في رأسه، وبأنه في طريقه إلى المستشفى.  وكانت تلك المحاولة جزءاً من مسعى عرفات لاستئصال تيار مناهضة التسوية والاستسلام في حركة فتح.  فهي لم تكن عملية القتل الأولى ولا الأخيرة التي يقوم بها عرفات في فتح، وخارجها.

(خارج السياق، ولكيلا تجري تبرئة جماعة أبي نضال من اغتيال حنا مقبل في نيقوسيا، قبرص، في 3 أيار عام 1984، لا بد من الإشارة إلى أن تنسيقاً ما كان يجري بين أبي نضال وأبي إياد، المتعهد الأمني لاستئصال خط ناجي علوش من حركة فتح، لكن ملف جماعة أبي نضال موضوعٌ آخر).

مشكلة تلميع عرفات

ليس الإغفال أمراً بسيطاً عندما تلتهم النيران المنزل الداخلي للمقـ.ـاومة الفلسطينية، إنما يصب في مصلحة من يشعلها: ياسر عرفات.  وهذا هو الخلاف الأهم بين منير شفيق وناجي علوش: اصطفاف منير شفيق مع ياسر عرفات فعلياً.  وكان أكثر ما يستفز في “من جمرٍ إلى جمر” هو الإصرار على تلميع المذكور، حتى بعد أوسلو وتدشين عصر التنسيق الأمني.  كما قال: كنت أدعو إلى “عدم تخوين من شاركوا في مفاوضات أوسلو”؛ وعرفات، “بعد أن جرب مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، تبين له أن لا جدوى من ذلك المسار، ولجأ إلى المقـ.ـاومة وشجعها، وهو ما عرضه للاغتيال، وقد فاضت روحه وهي تبغى المساومة”!  “المهم أن عرفات تراجع في النهاية… وقبل أن أكمل يجب أن أستدرك بأنني لا أعتبر ما فعله ياسر عرفات في اتفاق أوسلو يمكن أن يغتفر” (ص. 480).   ولكنْ، حتى بعد أوسلو، “لم أخوّن عرفات وأعتبره عميلاً للعدو، وحرصت أن أنبه ضد تخوينه” (ص. 351-352).

هكذا يستمر كيل المدائح المبالغ فيها في مواضع متفرقة من الكتاب بما يخالف الوقائع وشهادات من عايشوه.  على سبيل المثال، “كان الرجل شجاعاً جداً، وكان دائماً حاضراً في الميدان في مناسبات القتال والمواجهة… وفي مختلف المعارك.  كان رجلاً يتمتع برباطة الجأش والصمود تحت القصف والخطر، متميزاً عن كثير من القيادات من هذه الناحية” (ص. 481).  ياسر عرفات سار على نهج ماو تسي تونغ (ص. 300).  إلخ…

حسناً!  لن أسرد شهادات شخصية لقيادات ميدانية.  ماذا عن الهرب متخفياً مع بعثة الجامعة العربية التي جاءت للتوسط بين النظام الأردني ومنظمة التحرير في معارك أيلول عام 1970؟!  وبعيداً عن هذا، ما هي المعارك العسكرية التي قادها تحديداً، وأين ومتى بالضبط، من عمان إلى بيروت إلى الأرض المحتلة؟  حتى محاولة ربطه بمعركة الكرامة (ص. 481) هو أمر دعائي محض، إذ أن كل من تحدثوا وكتبوا عن التجربة الميدانية لمعركة الكرامة عام 1968، وهناك قيادات أردنية وفلسطينية خاضتها مباشرةً، لا يذكرون دوراً ميدانياً لياسر عرفات في إدارة القتال، ما دام الحديث المزعوم عن شجاعته وحضوره الدائم في الميادين والمعارك، وليس هذا شرطاً على كل حال.  لكنه لم يكن قائداً عسكرياً، ولا صاحب موقف سياسي مبدئي، ولا قائد تنظيم، ولا خطيباً مفوهاً، ولا مفكراً كبيراً أو صغيراً، ولا مخطِطاً استراتيجياً، ولا حتى مديراً ناجحاً لدكان.  لقد كان بارعاً في الفهلوة واللعب على التناقضات وفي لعبة الترغيب والترهيب، وقد جر القضية الفلسطينية إلى كارثة اسمها خط التسوية والاستسلام.

لكنْ، لا بأس، فلنتجاوز تقييم ياسر عرفات هنيهة.  ولننطلق من تقييم سياساته وسلوكياته، من دون تخوينه أو إدانته، كما يدعو منير شفيق، لنجد أنه يبرر مثل تلك السياسات والسلوكيات أيضاً، إذ لا منطق في تبجيل شخصية لا نوافق على سياساتها ومواقفها.  مثلاً، لا حصراً، بعد تناول قرار وقف إطلاق النار الذي اتخذه عرفات، بالاتفاق مع المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، بعد الاجتياح الصهـ.ـيوني الأول للبنان في 15 آذار 1978، يدافع منير شفيق عن ذلك القرار متسائلاً (بما معناه): هل هناك ثورة أو قيادة أو حركة رفضت وقف إطلاق النار بالمطلق؟  والحقيقة أن مثل هذا المنطق غريب.  فوقف إطلاق النار ليس مرفوضاً بالمطلق، ولكنه ليس مقبولاً بالمطلق أيضاً.  وعندما يأتي بعد احتلال شريط حدودي، دفعت المقـ.ـاومة مئات الشهداء حتى تحرر عام 2000، وعندما يأتي وقف إطلاق النار بسبب شعور عرفات أنه نال جائرة سياسية كبرى هي اعتراف الإدارة الأمريكية به نداً وطرفاً مفاوِضاً، فإن وقف إطلاق النار يصبح مساومة غير مبدئية ومدانة، ويصبح التقيد به غير مبدئيٍ ومداناً أيضاً.  يوحي منير شفيق في كتابه إن الكتيبة الطلابية/ كتيبة الجرمق، التي كان مرشدها السياسي، لم يعجبها القرار، ولكنها التزمت به، إنما رفضت تخوين عرفات بسببه.  “فقد كان هناك نوعٌ من التقاطع، أو قل التوافق، مع القيادة، ما دامت قد توافقت على الهدنة أو وقف إطلاق النار” (ص. 386).  لكنْ، توافقت مع مَن بالضبط؟ وعلى أي أساس؟

ثم تأتي الإضافة التي تغرق مجدداً في منهجية الإغفال: “على هامش هذه الأزمة، وقعت مشكلة أخرى مع مجموعة كانت من شباب الأخ ناجي علوش وأبي داود (محمد داود عودة) – رحمهما الله – فقد اعتُقِلت  مجموعة في منطقة الدامور من قبل القوة 17 (أمن القائد العام) التابعة للقيادة، واتهموهم بالتخطيط لاغتيال ياسر عرفات أو خليل الوزير في أثناء توجهه للجنوب.  وكان موقفنا مخالفاً للطرفين، فالاغتيال – إذا صح الاتهام، وأشك في ذلك – كان بالنسبة إلينا مرفوضاً، بل كان خطاً أحمر، كما أن قتل الشباب كان عملاً مداناً، وكان خطاً أحمر كذلك، حتى لو صح الاتهام، ما دام الفعل لم يحصل” (ص. 387).

هل هذا الإغفال متعمد أم عفوي؟!  القصة المروية هنا، على هامش قرار وقف إطلاق النار، هي قصة الشهيدين أبو أحمد (علي سالم) وأبو عماد (محمود دعيبس)، قائدي الصمود في مخيم تل الزعتر الذي هاجمته القوات الانعزالية وارتكبت فيه المجازر، وهي قصة يندى لها الجبين.  فأبو أحمد وأبو عماد كانا من تيار ناجي علوش وأبي داود في حركة فتح.  وبعد انتقال من تبقى من أهالي مخيم تل الزعتر المدمر إلى الدامور، على الشريط الساحلي بين بيروت وجنوب لبنان، بات ذلك الموقع استراتيجياً.  وقد اعتقل أبو أحمد وأبو عماد بفخ، تحت ستارة عقد اجتماع تهدئة، وتم نقلهما إلى منطقة الجامعة العربية في بيروت، حيث أعدما جهاراً نهاراً، في نيسان عام 1978، بعد أن رفضا الانشقاق عن ناجي علوش وأبي داود، ثم بعد أن رفضا ترك العمل المقـ.ـاوم والتقاعد مقابل بقائهما على قيد الحياة، فلم يقبلا.  ولم توجه إليهما تهمة محاولة اغتيال من أي نوع، لا لقيادات فتح ولا لغيرها، إنما وجهت إليهما تهمٌ جنائية ملفقة وغريبة، رفض القاضي العسكري القبول بها، فأتى عرفات بأحد جلسائه مكان القاضي العسكري ليصدر الحكم وليتم تنفيذه مباشرةً.  وهذا ما كان.  رحمة الله عليهما.  فالحديث عن تهم محاولات اغتيال هنا لقيادات في فتح تبرئ من قام بالاغتيالات فعلاً: ياسر عرفات.  ومنير شفيق لا يأتي حتى على ذكر اسمي البطلين الشهيدين اللذين قتلهما عرفات.

الأسوأ أن السياق غائب تماماً.  فما علاقة اعتقال أبي أحمد وأبي عماد بقرار وقف إطلاق النار الذي قبل به عرفات، بعد احتلال الشريط الحدودي في لبنان، مقابل رضا الإدارة الأمريكية بأن تتعامل معه سياسياً؟   هنا يكمن الإشكال الأكبر، الذي يلقي محمد دلبح الضوء على بعضه، مشكوراً، مع التحفظ.  يقول دلبح إن ناجي علوش وأبا داود جمعا “نحو 100 متطوع”، بعضهم مقاتلون أرسلهم أبو نضال (صبري البنا)، وانطلقوا نحو الجنوب اللبناني حاملين لبطاقات عضوية جهاز أمن فتح الذي يترأسه أبو إياد، ولقوا دعماً من أبو موسى وأبو خالد العملة، غير أن عرفات كان على علم… فأرسل قوات “شهداء أيلول” لتقوم بمهاجمة ناجي علوش وأبي داود.  قُتِل أحد عناصر المجموعة واعتقل آخرون اعترفوا أن اتصالهم كان مع أبي داود الذي كان يقف وراءه أبو صالح الذي لم يتقبل مساءلة أبو عمار (ياسر عرفات) له، فسارع عرفات لطلب المصالحة معه (ص. 200 من كتاب دلبح، الطبعة الأولى).  ثم يتحدث محمد دلبح عن قصة اعتقال أبي أحمد وأبي عماد وقتلهما غيلةً على تلك الخلفية.

وضع قصة الشهيدين أبي أحمد وأبي عماد في سياق إقامة قواعد لمقـ.ـاومة العدو في جنوب لبنان أمر مهم، ومفيد جداً، ولكن الباقي يخلط الحابل بالنابل للأسف.

الموضوع يتعلق بقرار عرفات وقف إطلاق النار بعد احتلال الشريط الحدودي من قبل العدو الصهـ.ـيوني بناءً على تفاهمات مع فيليب حبيب.  قام أبو داود وناجي علوش بتأسيس أربع قواعد عسكرية خلف خطوط العدو، يضم كلٌ منها 30 مقاتلاً.  وبلغ المجموع 120 مقاتلاً كان بعضهم من الطلاب الفلسطينيين في العراق فعلاً، وبعضهم من اللبنانيين، وبعضهم من فلسطينيي لبنان، وبعضهم طلاباً فلسطينيين من دولٍ مختلفة.  وكانت النية بدء مشروع مقـ.ـاوم، ونعم، عدم الامتثال لقرار وقف إطلاق النار (الذي يقول منير شفيق إن عدم التقيد به كان مؤامرة سوفياتية-عراقية، في الصفحة 386-387 من مذكراته، وقد كان نابعاً، في واقع الأمر، من خلاف مبدئي داخلي فتحاوي حول قرار وقف إطلاق النار ذاته)!

كان الدامور، على الطريق بين بيروت والجنوب اللبناني، محبساً عسكرياً، لا سيما أن طريق الجبل طويلة، وإلا فالمرور عبر مناطق يسيطر عليها الكتائب وحلفاؤهم.  وكان محبس المحبس في الدامور أبا أحمد وأبا عماد.  ضرب القواعد الفتحاوية من الخلف، بقوات فتحاوية، وهم المتهيئون لمواجهة العدو الصهـ.ـيوني، جاء إذاً بعد السيطرة على الدامور وقتل عرفات لأبي أحمد وأبي عماد.  والحبكة أن عشرات ممن اعتقلوا في تلك القواعد، بعد مهاجمتها، وضعوا تحت حراسة كتيبة الجرمق/ الكتيبة الطلابية، التي يرشدها منير شفيق.  (لا تعليق!)

الخلل في رواية دلبح، من ناحية أخرى، هي أنه يحشر يسار فتح فيما جرى، وهو لم يكن طرفاً في الصراع مع عرفات.  وما حدث فعلياً هو حملة اعتقالات وتنكيل وتصفيات في بيروت، وفي غيرها، ضد التيار انتهى فيها ناجي علوش وحيداً في النهاية، وقد تكرر ذلك مجدداً في عام 1979.  ومن لديه كلامٌ آخر، فليظهر بيناته ووقائعه.

يسرد دلبح رواية عجيبة هنا عن اعتقال ناجي علوش ووقوف رموز يسار فتح ضد ذلك، ما سبب “حالة غليان أدت لتراجع عرفات والإفراج الفوري عن ناجي علوش” (ص. 201، في الطبعة الأولى من كتاب دلبح).  والحقيقة أن هذا الكلام مختلق تماماً.  وهدفه تلميع من خذلوا ناجي علوش وتياره في المواجهة.  فعندما أصبحت المواجهة جدية، تتجاوز المعارضة الكلامية، لم يجرؤ يسار فتح (ولا غير فتح) على أن يواجه عرفات في لبنان في ربيع عام 1978.  أما منير شفيق فاصطف مع عرفات عملياً، سياسياً وميدانياً.  وتلك هي الوقائع ما دام الموضوع مطروحاً على بساط السجل التاريخي الذي لا يجوز أن يبقى مبتسراً بالإغفال.

لم يعتقل ناجي علوش بتاتاً في تلك الفترة، بل قرر عرفات تصفيته، فنزل بسلاحه تحت الأرض، مطارداً، مطلوباً، ومهدور الدم.  واستمر على هذه الحال أشهر عديدة حتى تمكن من التسلل إلى العراق في تشرين الثاني 1978، وكان لي شرف مرافقته تحت الأرض في جزء من تلك الفترة (انظر مادة “من هو ناجي علوش؟”، على موقع الصوت العربي الحر).  خلال الفترة ذاتها، أبدى منير شفيق مرةً لوالدتي، شقيقته، خوفه من أن يتعرض لها الأمن، وكان ردها واضحاً، مصرةً على إبقاء بيت ناجي علوش مفتوحاً في أصعب اللحظات.  لقد كان صراعاً دموياً، اتخذ فيه منير شفيق جانب ياسر عرفات، بكل بساطة، مقدماً غطاءً إضافياً لخط التسوية والاستسلام في الساحة الفلسطينية، بغض النظر عن أي نوايا حسنة.

ولا أعرف كيف وصل الصديق محمد دلبح إلى الاستنتاج بأن ناجي علوش وصف الأوضاع داخل فتح آنذاك في كتابه “نحو ثورة فلسطينية جديدة”… إذ أن ذلك الكتاب صدر عام 1972، كجزء من الصراع الفكري ضد خط التسوية والاستسلام في الساحة الفلسطينية، أي قبل الاحتدام الدموي لصراعه مع عرفات بست سنوات.  ويمكن إيجاد الطبعة الأولى من ذلك الكتاب على موقع “الصوت العربي الحر”، في قسم “تحميل كتب ناجي علوش”.

 

مسألة العمل المسلح

 

يقول منير شفيق في مذكراته عن إحدى اللقاءات في بداية سبعينيات القرن العشرين في منزل ناجي علوش مع منتقدي قيادة فتح: “طالما أن هذا اليمين أدى إلى كل هذا الخراب، ولا يريد القتال، فلماذا لا نقوم نحن بالعمل الذي يتقاعس اليمين عن القيام به؟  لماذا لا نشكل، نحن الثوريين اليساريين، مجموعات مقاتلة وننزل إلى الداخل، ونثبت لهم أن الخط الثوري هو الذي يمكنه أن ينجز ويحقق الانتصارات، فنشكل قوات مقاتلة ونعمل داخل فتح، وهو أمرٌ مشروعٌ داخل الحركة، بدلاً من أن نكتفي بالنقد دون الفعل؟!”…  ثم يضيف: “بمجرد أن أنهيت كلامي، رفضوه وانتقدوا موقفي، واعتبره البعض تدميراً للمشروع الثوري اليساري الذي لا يزال في طور الإعداد… واعتبروا رأيي مزايدة” (ص. 299).

عبر كل الكتاب، يجري تبرير الاصطفاف مع ياسر عرفات بذريعة التفرغ للقتال والتركيز على التناقض الرئيسي.  ويجري تسويغ العلاقة مع قيادة فتح تحت عنوان “ممارسة القتال”:” الصراع السياسي مع خط القيادة في فتح كان يعني بالنسبة إلى بعضهم الأولوية التي سيخضعون من أجلها جميع السياسات والنشاطات الأخرى، بالرغم من موافقتهم العامة (يقصد ناجي علوش وأبا داود) على إعطاء الأولوية للعمل في القطاع الغربي وتطوير حالة قتالية وعملية وسياسية يمارسها التيار نفسه، لأن الصراع السياسي مع خط القيادة في فتح كان يعني بالنسبة إلى بعضهم الأولوية” (ص. 358).

والحقيقة أن مثل هذا الطرح غريب جداً، لا سيما عندما يطرح في مواجهة قيادات عسكرية مثل أبي داود وأبي إبراهيم خاضت معارك ميدانية دفاعاً عن الثورة الفلسطينية، من عمان إلى بيروت إلى جنوب لبنان، إلى العمل الخارجي بالنسبة لأبي داود (ومنه عملية ميونيخ التي أشرف أبو داود عليها مباشرةً).  فهذان الاثنان بالذات، من بين القيادات الفلسطينية، لا يجوز أن يقال لهما أو عنهما مثل هذا الكلام.  وكان خلافهما مع قيادة فتح أنها لا تريد أن تقاتل جدياً، وأنها تلعب بالقتال لفرض ذاتها على المائدة التفاوضية فحسب.  وعندما طرَح منير شفيق مشروعاً للعمل العسكري، كما جاء في مذكراته، ولا أزيد عليها حرفاً، سارعا إلى دعمه بقوة، وكانت الفرضية أنه عمل مشترك، حتى ثبت أنه لم يكن مشتركاً، وأنهما تعرضا لانقلاب داخلي، على الأقل من وجهة نظرهما، لمصلحة خط عرفات الذي كانا يناهضانه.  “كان (للشهيد) مروان كيالي حظوة خاصة في قلب ناجي علوش، وربما كان من أكثر من حرص أبو إبراهيم أن يكونوا معه في الصراع الذي نشب بيننا بعد الخلاف حول عزل الكتائب.  فلم يتوقع أن يجد مروان من المتحمسين، إن لم يكن من طليعة الخط الذي يعارض قرار عزل الكتائب” (ص. 379).  وسنعود لقصة عزل الكتائب بعد قليل، لكنّ ما يهمنا هنا هو إشارة منير شفيق إلى صدمة ناجي علوش من انقلاب بعض المقربين، عليه، بتأثير منير شفيق.

لن أناقش، مثلاً، ما قدمه أبو إبراهيم وأبو داود من دعمٍ لذلك المشروع، لأن ذلك قابلٌ للتكذيب.  سأقول فقط إنهما سلما منير شفيق أمانة سر التنظيم، باعتباره خبير العمل التنظيمي الأول، بحكم تجربته وكتاباته، وأغمضا أعينهما بكل ثقة، ليكتشفا أن التنظيم تمت قولبته ضدهما شخصياً، وأنه تشرب أطروحات خلافية بشدة (سنأتي عليها بعد قليل).  وقد كان هناك توزيع أدوار في العمل القيادي، اختص فيه منير شفيق بإدارة البنية التنظيمية الداخلية، التي يصر في مذكراته على أنها لم تكن موجودة، وكان هذا خطأ الشاطر بالنسبة إلى ناجي علوش ومحمد داود عودة (أبو داود)، وقد دفعا ثمنه غالياً.  ويقر منير شفيق في مذكراته بأن بعض الأعمدة الرئيسية في الكتيبة الطلابية، الذين أصبح بعضهم شهداء فيما بعد، تعرف عليهم في منزل ناجي علوش، أو عن طريقه، أو عن طريقهم، ابتداءً من الشهيد أبو حسن قاسم، حتى الشهيد أبو خالد، خالي الآخر، الذي استقطبه ناجي علوش إلى حركة فتح قبل منير شفيق، باعترافه (ص. 373)، و”أخي انتسب لحركة فتح بتأثير من ناجي…” (ص. 238).

على كل حال، لنفترض أن مقولة أولوية العمل المسلح تتعارض مع أولوية مناهضة خط التسوية والاستسلام، كما يذهب منير شفيق، ولنفترض أن قيادة فتح كانت مشغولة بمقارعة العدو الصهـ.ـيوني عسكرياً، فيما كان ناجي علوش وأبو داود مشغولين بمعارضتها سياسياً، كما يوحي الكلام، كيف نفسر مشروع ناجي علوش وأبي داود في ممارسة عمل مسلح في الشريط الحدودي في جنوب لبنان عام 1978؟  وكيف نفسر موقف منير شفيق السلبي منه؟  وكيف نفسر انخراط خلايا “حركة التحرير الشعبية العربية”، التي تأسست بعد الانفصال عن فتح وعن أبي نضال، والتي كان كاتب هذه السطور، بكل تواضع، أحد عناصرها، في مقـ.ـاومة العدو الصهـ.ـيوني خلال اجتياح لبنان من قبل العدو الصهـ.ـيوني عام 1982، من خلال مواقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ وكيف نفسر انخراط تلك الخلايا في عمل جبهة المقـ.ـاومة الوطنية اللبنانية (جمول) بعد انسحاب م. ت. ف من لبنان عام 1982؟

وهل نقول إن اصطفاف الكتيبة الطلابية مع عرفات عسكرياً ضد فتح الانتفاضة، بعد عام 1983، وخروجها من لبنان إلى المنافي، كان اصطفافاً مع أولوية العمل المسلح ضد العدو الصهـ.ـيوني، أم مع أولوية مناهضة خط التسوية والاستسلام سياسياً، أم أنه كان اصطفافاً مع ياسر عرفات ضد الاثنين، ببساطة؟  وهل نعد خلافها السياسي مع سورية تغليباً للتناقض الثانوي على الرئيسي، وللسياسي على العسكري، إذا كان المقياس هو البقاء في الميدان الأقرب جغرافياً لفلسطين؟  وإذا كانت العبرة بالعمل المسلح، ونتفق على هذا طبعاً، أين أداؤها ككتيبة بعد الخروج من لبنان، وهل تشكل قوة رئيسية في فلسطين اليوم مثلاً؟  إذا كان الأمر كذلك، فكل الاحترام والتقدير، وهم أهل العمل والفضل، ونحن أهل التنظير والكلام، مع العلم أنها بدأت كمشروع للتشكيل القومي اليساري المناهض للتسوية داخل حركة فتح، حتى لو تحولت إلى احتياطي لخط التسوية والاستسلام فيما بعد.  “فأبو عمار وأبو جهاد، بعد شكوكٍ كثيرة، وجدا في التيار والسرية الطلابية قوةً في مصلحتهما موضوعياً، ولو لم تكن خاضعة لهما.  رضيا بهذه المعادلة، بمكرٍ شديد، وذلك بسبب صراعهما مع أشد خصومهما الداخليين” (ص. 367).

هل كان جوهر الخلاف هو الموقف من عزل الكتائب؟

 

قبل “القوات اللبنانية” وسمير جعجع، كان الطرف الرئيسي الذي أشعل الحرب الأهلية في لبنان، الكتائب والأحرار (وحراس الأرز)، وكان الطرف المقابل، المتمثل بالحركة الوطنية اللبنانية، برئاسة كمال جنبلاط، وبمشاركة فاعلة من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي والبعثيين والناصريين وغيرهم، يطرح شعار “عزل الكتائب” كقوة طائفية مارست المجازر ودعت لسلخ لبنان عن عمقه العربي.  وكانت في الطرف المقابل قوى تقليدية، سنية وشيعية، ترفض شعار “عزل الكتائب” وتدعو للتفاهم معهم على اقتسام لبنان طائفياً (يمكن أن نرى أسماء بعضها في القائمة التي يسوقها  “من جمرٍ إلى جمر” كمصداقٍ لموقفه، ص. 365).  وقد اتخذ منير شفيق موقفاً مناهضاً لشعار “عزل الكتائب”، وتحالف مع القوى التقليدية والطائفية التي تناهض شعار “عزل الكتائب”، وخاض صراعاً سياسياً ضارياً في هذا السياق، يرى الآن أن التوازنات الطائفية الراهنة في لبنان تثبت صحة توجهه فيه (لا سيما بعد أن أصبحت فكرة “ديموقراطية المكونات” الطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية، بعد غزو العراق واحتلاله، “مثالاً أعلى” للمجتمع العربي).

من البديهي أن ناجي علوش، القومي اليساري، كان يرفض مثل هذا الطرح جملةً وتفصيلاً.  وكانت الحركة الوطنية اللبنانية قد تبنت فكرة “لبنان الديموقراطي العلماني” العابر للطوائف والمناطق والقائم على أساس المواطنة.  ومع أن تلك كانت نقطة خلاف حقيقية، فإنني فوجئت بشدة من طرح منير شفيق بأن أساس الانفصال، أو الانقلاب الداخلي التنظيمي بالأحرى، عن ناجي علوش وأبي داود، كان بسبب الموقف من موضوعة “عزل الكتائب”.  يقول منير شفيق: “وقع الخلاف مع ناجي علوش وأبي داود حول موضوع عزل الكتائب، فقد اعتبرا موقفي جنونياً… الأخوان ناجي علوش ومحمد عودة (أبو داود) قالا: هذا العزل هو موقف صحيح ولا يجوز أن نعارضه وطالبا بالفرز.  وبهذا أنزل هذا الخلاف على جميع الأفراد الذين كانوا يشكلون العمود الفقري لهذا التيار، وأصبح على كل فرد أن يختار الجانب الذي يقف معه” (ص. 357).

ثم يضيف: “كانت شقيقتي سميرة، أم إبراهيم، معهما في موضوع عزل الكتائب، الذي صحبه بعد فترة وجيزة اندلاع صراع حاد بيني وبين ناجي من جانبه، ولم أقابله بمثله… من هنا، يمكن أن يحدد أصل الخلاف مع ناجي وأبي داود وشقيقتي سميرة حول عزل الكتائب، ثم سرعان ما تطور إلى خلاف حول قضايا كثيرة تتعلق بالموقف من القيادة (في حركة فتح)، ومن التضامن العربي، ومن السوفيات، ومن التحالفات، وهو ما عبر عنه ناجي في كتاباته لاحقاً” (ص: 357-358).

حسناً!  فلنذهب إلى كتابات ناجي لاحقاً.  فماذا يقول فيها؟  ثمة كراس صغير جداً بعنوان “الخط العلمي الثوري والثورة القومية الديموقراطية” يتطرق فيه ناجي علوش إلى مسائل الخلاف مع منير شفيق، صدر عن “دار الرأي” في لبنان، في تشرين أول 1976، وقد وجدته، لحسن الحظ، في مكتبة الوالد في دمشق، ومن الطريف جداً أن موضوعة “عزل الكتائب” لا ترد فيه حتى مرة واحدة… أكرر: لا يوجد تعبير “عزل الكتائب” في أي سطر من أي صفحة من صفحات الكراس الأربعين التي يتحدث فيها الوالد عام 1976 عن نقاط الخلاف مع منير شفيق.  ومن المؤكد أن منير شفيق لديه نسخة، أو أكثر، من ذلك الكراس، وبإمكانه أن يتأكد من هذا الكلام بنفسه.  وقد نشر الكراس وقتها في محاولة للتواصل مع كوادر مجموعته الذين اكتشف ناجي علوش فجأةً أنهم انقلبوا عليه بعد اعتقاده لعامين أو ثلاثة أنه معهم جزءٌ من عملٍ نضالي متلاحم.  فربما قرر منير شفيق وقتها ألا يرد (كتابةً)، كما يقول، بعد أن استأثر بالأداة التنظيمية التي تم بناؤها في ظل ناجي علوش وأبي داود على مدى سنوات، مع العلم أن تعبير “عدم الرد” ليس دقيقاً، إذ كان الصراع الشفوي منفلتاً من عقاله أحياناً، ويتسم بالتهجم على ناجي علوش وأبي داود.

فإذا عدنا إلى ذلك الكراس سنجد أن نقاط الخلاف الرئيسية ثلاث:

  • الموقف من السوفيات، واعتبار الاتحاد السوفياتي “إمبريالية اشتراكية”، وضرورة مساواتها بالإمبريالية الأمريكية، وفرز الصفوف بناءً على موقف كل جهة وشخصية من تلك “الإمبريالية الاشتراكية” المزعومة، ومن ذلك، اعتبار الفيتناميين “انتهازيين”، لأنهم رفضوا اتخاذ موقف من الصراع الصيني-السوفياتي في خضم حربهم لتحرير فيتنام من الأمريكان،

  • الموقف من الأنظمة الرجعية العربية، ومن أنور السادات تحديداً، إذ خاض منير شفيق صراعاً ضارياً دفاعاً عن المذكور حتى لحظة زيارته للقدس عام 1977، باعتبار أنه شارك في حرب تشرين عام 1973 للتو، وأنه يمكن أن يخوض غيرها، وباعتبار أن للرجعية العربية وجهين، مقاتل ومساوم، ولا تجوز مساواتها بالصهـ.ـيونية، وقد كانت تلك هي مرحلته “العروبية”، السابقة للمرحلة الإسلامية،

  • الموقف من عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما جاء في الصفحات السابقة، وهو جوهر الخلاف حقيقةً، أكثر من أي شيء آخر.

لا بد من ذكر الإشارات هنا في صفحات كتاب منير شفيق عن مناهضة برنامج النقاط العشر، أي البرنامج الذي نقل الثورة الفلسطينية عام 1974 من مشروع التحرير إلى مشروع الدويلة، التي يتخللها وصف لندوة في الجامعة العربية في بيروت ضد البرنامج المرحلي، أطلقت خلالها نيران البنادق عليه وعلى ناجي علوش في القاعة: “قررنا بمبادرة من ناجي علوش أن ننظم ندوة في الجامعة العربية في بيروت أرد فيها على… طرح البرنامج المرحلي، وإقامة سلطة وطنية، من قبل الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، بإيعاز من قيادة فتح… تعرضت لإطلاق نار.  بقيت ثابتاً.  حدثت بلبلة في القاعة، بينما أخذ ناجي الميكروفون وحذر بلهجة قوية من استعمال الرصاص لأنه سيقابل بالرصاص” (ص: 336-340)، ثم: “علقنا حينها، ناجي وأبو داود وأنا وآخرون من الفتحاويين، على تبريرات فتح بخصوص قبول النقاط العشر بقولنا إن كل بنود النقاط العشر ستوضع على الرف، ولا يبقى منها غير إقامة “السلطة الوطنية”، والآتي أعظم.  وهذا ما كتبناه، ناجي علوش وأنا، تعليقاً على قرار المجلس الوطني الذي وافق على البرنامج المرحلي، وهذا ما حدث فعلاً” (ص: 341-342).

أقول إن كل تلك الصفحات في كتاب منير شفيق لا تغطي الإغفال الذي حدث هنا: مَن عارض برنامج النقاط العشر حقاً في المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة عام 1974 هو اثنان، ناجي علوش، ومحمد داود عودة (أبو داود).  أقول اثنان، والواقع أنهم ثلاثة… وكان الثالث هو سعيد حمامي، الذي اعتبر أن سقف النقاط العشر أعلى وأكثر تطرفاً مما يجب، ولا بد من تخفيضه، وهذه أيضاً لتصحيح المعلومة الواردة في ص. 260، الطبعة الأولى، من كتاب دلبح، الذي قال أن معارضي برنامج النقاط العشر، في فتح وكل الفصائل قاطبةً، كانوا اثنين فحسب…

أخيراً، كل ما سبق لا ينفي تقديري الشديد لسعي منير شفيق لإسداء ناجي علوش حقه في استقباله في منزله عامين أو ثلاثة بعد هربه من الأردن، وإيجاد عمل له كمترجم، ودفعه لأن يصبح كاتباً، وتعريفه بالجو السياسي والثقافي وقيادات فتح.  “بيت ناجي وسميرة كان نقطة الانطلاق” (ص. 238).  “تفرغت للدراسة الجامعية من الصباح إلى المساء في بيتهم في عين الرمانة في بيروت… تابعت وحصلت على الشهادة وأعطيتها لأختي” (ص. 232).  “سكني في بيت ناجي وعلاقتي به كصهر عزز قناعتي بالثورة الفلسطينية… ومن اقترابي من الحركة القومية عموماً والوحدة العربية…” (ص. 235).  “كان ناجي معيناً لي في تأمين مدخول مادي جيد من الترجمة، فضلاً عن تشجيعه لي بخوض غمار الكتابة” (ص. 236).  “ناجي كان قد انتسب إلى حركة فتح وبدأ يحكي لي عنها، وبدأت أقتنع بمنطلقاتها… حتى صار عندي تحولٌ حقيقيٌ” (ص. 237).  “ناجي استصدر لي جواز سفر سورياً من القيادة القومية في دمشق للذهاب للعمل في الكويت” (ص. 237).  “ناجي علوش هو الذي حمل طلب عضويتي في فتح، ودعمه محمد أبو ميزر (أبو حاتم)”، وكانت فتح معارضة بشدة لعضويتي فيها في البداية (ص. 271).  “ناجي هو الذي عرفني بقيادات فتح…” (ص. 273)، إلخ… وهذا كله موضع احترامٍ وتقدير بكل تأكيد.

1 أيار / مايو 2022

http://www.freearabvoice.org/?p=7443

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=859512662117488&id=100041762855804

الموضوعات المرتبطة

جديد – كتاب “الحركة القومية العربية” لناجي علوش

جديد - كتاب الحركة القومية العربية لناجي علوش نشوؤها، تطورها، اتجاهاتها صادر عن دار الطليعة في بيروت في آذار 1975 لتحميل الكتاب، اضغط الرابط أدناه الحركة القومية [...]

حركة التحرير الشعبية العربية: البرنامج السياسي 1983

لتحميل الكتاب، اضغط على الجملة أدناه       البرنامج السياسي [...]

تحميل كتاب “حول الخط الاستراتيجي العام لحركتنا وثورتنا” لناجي علوش

لتحميل الكتاب، اضغط على عنوان الكتاب أدناه     حول الخط الاستراتيجي العام لحركتنا [...]

تحميل كتاب حوار حول الأمة والقومية والوحدة

لتحميل الكتاب اضغط على الرابط أدناه: حوار-حول-الأمّة-والقوميّة-والوحدة [...]
2024 الصوت العربي الحر.