بين الدولة الحديثة ونقادها

July 7th 2022 | كتبها

 

إبراهيم علوش – طلقة تنوير 82

 

يكاد مصطلح “الدولة الحديثة” في الخطاب العربي المعاصر يتحول إلى شتيمة.  فهي مصدر كل الآفات العربية بحسب بعض التيارات الرائجة نخبوياً، والتي يعمل إسلاميون وليبراليون كثر على تعميمها شعبياً.  فهي، في عُرف بعض الإسلاميين، إما العائق الرئيس أمام “العودة إلى منابع التراث” والانسجام مع الذات حضارياً، أو أنها، في عُرف بعض الليبراليين، العائق الرئيس أمام “التقدم إلى الأمام” والانسجام مع العالم ديموقراطياً، أو أنها الاثنان معاً، في عُرف تيار “الإسلام المدني الديموقراطي”، والذي عملت “مؤسسة راند” الأمريكية التابعة للبنتاغون على بلورته بعد ضربات 11 سبتمبر عام 2001.

والمقصود بـ”الدولة الحديثة”، في عُرف هؤلاء وأولئك والتوليفات بينهما، هو الدول التي نشأت بعد جلاء الاستعمار في الوطن العربي، أو شبه جلائه بالأحرى، مع أنها نسخة مشوهة عن الدولة القومية التي نشأت في الغرب، لأنها ليست دولة-أمة Nation-state، بل دولة تجزئة، من بين أشياء أخرى.

وحيثما تجد محاولة للتأصيل النظري في مثل ذلك الخطاب الناقد للدولة الحديثة، الدولة القومية، فهو يمتد أحياناً إلى الدولة الحديثة في الغرب: أصولها، واقعها، وأزماتها.  ولكنك لا تجد النقد يطال الدولة الحديثة إذا حكمها نظام أردوغان في تركيا، ولا تجده يطال الدولة الحديثة (دولة التجزئة) التي حكمها تحالف إسلاموي-ليبرالي في تونس المعاصرة بعد ما يسمى “الربيع العربي”.

ينصب النقد على الدولة الحديثة، عربياً، من زاويتين: 1) بُعدها عن التدين، من منظور إسلامي، و2) مركزيتها وهرميتها وعدم التزامها مقاييسَ الشفافية والحوكمة وحقوق الإنسان إلخ…، من المنظور الليبرالي.  والطريف أن المنظورين يجتمعان في صب جام غضبهما على الدولة الحديثة في النسخة المحدثة “الكيوت” cute من الإسلام السياسي، الإسلاموية-الليبرالية، كما نجد في “العربي الجديد”، قناةً تلفزيونيةً وموقعاً إلكترونياً.

حول نقد الدولة الحديثة من زاوية دينية:

ينطلق النقد الإسلامي للدولة الحديثة، أي دولة التجزئة في الوطن العربي بعد الاستعمار، من علمانيتها المزعومة واستنساخها للنمط الإداري المستل من قيم الحداثة الأوروبية، بعيداً عن فكرة “حاكمية الله” التي طرحها الخوارج في فجر الإسلام، والتي بلورها أبو الأعلى المودودي في الهند في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين كخطاب ديني مناهض للانتخابات التي كانت تدعو إليها حركة التحرر الهندية من الاستعمار البريطاني؛ وهو ما صب في جيب الاستعمار البريطاني وقتها، في شق الصفوف طائفياً، ما بين مسلم وهندوسي، وفي مواجهة البرنامج السياسي لحركة الاستقلال الهندية؛ تماماً كما رفعت حركة الإخوان المسلمين شعار “القرآن دستورنا” في مواجهة حركة الاستقلال المصرية المطالبة بدستور وانتخابات إلخ… إبان الاحتلال البريطاني لمصر.

من المعروف أن سيد قطب تحديداً، من بين من تأثروا بأبي الأعلى المودودي، أعاد إنتاج فكرة “حاكمية الله” عربياً، في سياق اقترن بوهبنة الحركة الإسلامية (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب، ونسبةً إلى ابن تيمية في المحصلة).  وثمة نسخٌ مخففة اليوم من فكرة الحاكمية تترك حيزاً براغماتياً أرحب للتنظيمات الإسلامية لكي تشارك في الحياة السياسية المدنية، ابتداءً من “الحكم بما أنزل الله”، كشرط للاعتراف بمشروعية الحكم، وصولاً إلى “عدم الحكم بما يخالف شرع الله”، وصولاً لإبراز مفهوم الشورى، بدرجات متفاوتة، بحسب الكاتب، بالاقتران مع المشاركة المدنية من أجل معارضة أي تشريع أو إجراء يخالف شرع الله من وجهة نظرهم.

ولذلك، من الطبيعي أن تجد على موقع “الجزيرة نت” مثلاً مقالاتٍ تحاول إيجاد نقطة توازن ما بين خط “الحاكمية الإلهية” والحاجة البراغماتية لحركة الإخوان المسلمين للمشاركة في الحياة السياسية المعاصرة، لا سيما بعد ما يسمى “الربيع العربي”، من دون أن تبدو كأنها تخلت عن مبدأ الحاكمية الإلهية التي كرسها سيد قطب، والتي سعى إخوانٌ آخرون من بعده للتخفيف من تشددها من أجل تسهيل الانخراط في الاستعراضات “الديموقراطية” في الإقليم (انظر “التياران الإسلاموي والليبرالي عندما يتقاطعان على أرضية المشروع الأمريكي في الإقليم”، طلقة تنوير 52).

تبقى معضلة الإسلاميين الذين يصرون على مبدأ الحاكمية الإلهية، أو ما هو أقل منه تشدداً، في رفض أي مرجعية أو محاكمة دنيوية للحكم السياسي، هو أنه يشبه مبدأً غربياً آخر، من لجة القرون الوسطى الأوروبية الكاثوليكية، وهو مبدأ “الحق الإلهي”،  ومفاده أن الملوك يحكمون بموجب حقٍ إلهيٍ يجعلهم نواباً أو وكلاء لله عز وجل على الأرض للشؤون الدنيوية “التافهة”، مثل جمع الضرائب وإنفاقها وشن الحروب واتخاذ قرارات الإعدام والسجن أو مصادرة الأملاك أو تعيين مسؤولين موكلين من طرفهم لاتخاذ مثل تلك القرارات، وإلى ما هنالك من “صغائر”… من دون أن يُساءلوا فيها بتاتاً من جانب الرعية (وهي رعية، لا مواطنون).

ولن ندخل في جدالٍ هنا حول أيهما أسبق عهداً، الخوارج أم الكنيسة الكاثوليكية، في طرح مبدأ الحكم الإلهي بواسطة الملوك أو الخلفاء، وفي شرعنة إمضاء القرارات باسم الحاكمية الإلهية بعيداً عن أي مرجعية دنيوية، أو حتى عقلية، لأن مثل تلك الفكرة، التي تعني حكماً ثيوقراطياً مطلقاً فعلياً، في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، سوف ينتجها أي منهج متشدد دينياً، سواءٌ كان مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً أم هندوسياً أم غير ذلك.  ونقول “ثيوقراطية”، لأن الزعم بالحكم نيابةً عن الله عز وجل يستتبعه بالضرورة وجود شريحة اجتماعية، من رجال الدين، أو الإكليروس، أو الفقهاء والأوصياء، تتحكم بالموارد الدنيوية، أو تمنح المشروعية الدينية لمن يتحكم فيها، مقابل المشاركة في ثمراتها، كما كانت عليه الحال في النظام الإقطاعي مثلاً غرباً وشرقاً.

وليست هناك مشكلة، من منظور سياسي مدني، في أن يكون الدين أحد مصادر التشريع، كما أن العُرف هو بالضرورة أحد مصادر التشريع، وكما لا بد من أن تؤثر المعاهدات الدولية أو التوجهات الفكرية للحاكمين والمحكومين في طبيعة القوانين والتشريعات المعاصرة في أي مجتمع.

لكن السؤال يبقى: أي تأويل للدين هو الذي يفترض أن يصبح مصدراً من مصادر التشريع، أو حتى مصدر كل التشريع؟  وهو سؤالٌ كبيرٌ، لأن النص ثابت، لكنّ قراءته هي التي تتغير بحسب تغير الزمن والظروف وتزايد المعرفة والخبرة البشرية والمجتمعية.  فإذا عددنا قراءة فقهاء القرون الوسطى للدين هي الدين بذاته، في أي دين، فإن ذلك يختلف تماماً عن اعتبار النص ومعناه وتأويله العقلي في العصر الراهن هو المرجع، ولو بحسب أغلبية الفقهاء، وبأنه هو الدين.  وثمة مذاهب في أي دين، وثمة اجتهادات، فهل نحن ملزمون بالقياس على النص وأحكامه وأسباب نزوله بناءً على ظروف عصرنا، أم أننا ملزمون بالقياس على ما جاء به فقهاء القرون الوسطى؟  وإذا كان فقهاء القرون الوسطى مرجعنا، فأيهم؟  الغزالي مثلاً أم ابن رشد؟

يدلل سجل الوقائع والأعلام على أن الفترة الأكثر خصوبةً وحيويةً فكرياً وسياسياً وثقافياً في التاريخ العربي بعد الإسلام هي الفترة الممتدة بين بدء الدعوة الإسلامية، في القرن السابع، حتى سيطرة السلاجقة على الحكم في القرن الحادي عشر.  وقد تميزت تلك الفترة بميزة أساسية هي اتساع حيز الاجتهاد العقلي، صواباً أم خطأً، واتساع الوعاء العربي-الإسلامي بأريحية للحراك الثقافي والإنتاج المعرفي بتلاوينه المختلفة، لأن تراث فقهاء القرون الوسطى لم يكن قد تأسس بعد، ولم يكن قد فرض فرضاً من طرف سلطة ثيوقراطية متكلسة.  لكنْ، قبل الاستمرار في هذه المعالجة، علينا أن نتذكر، على الهامش، أن مثل ذلك الإنجاز الحضاري ولد في أحضان دول مركزية قوية، لا في إمارات الطوائف والجهويات المفككة.

وكما ارتبط اسم أبي حامد الغزالي بالقضاء على المنهج العقلي، النقدي التحليلي، في الفكر العربي-الإسلامي، من الأهمية بمكان أن نشير إلى ارتباطه مباشرة بحكم السلاجقة، إذ إن الغزالي كان موظفاً براتب عند نظام الملك (خواجة بزك)، وزير الملك السلجوقي ألب أرسلان ثم عند ولده ملكشاه.  وقد أنشأ نظام الملك المدارس النظامية التي فرضت تأويلاً رسمياً للدين، وأصبح التخرج من تلك المدارس، التي كان الغزالي أستاذاً فيها،  شرطاً لتولي المناصب الحكومية.

لذلك، يمكن القول إن انحطاط العرب سياسياً بدأ عندما تولى الأتراك السيطرة على الخلافة، أما انحطاطهم فكرياً، فبدأ عندما توقفوا عن التفكير والاجتهاد بفضل النهج الذي مثله الغزالي ورسخه السلاجقة كتوجه رسمي للدولة.  ولم ينجُ من مثل هذا المصير، مؤقتاً، إلا الحكم الفاطمي في مصر، والحكم العربي-الإسلامي في الأندلس، بفضل تأخر زحف التصحر الحضاري إليهما جغرافياً وزمنياً.  وقد ولد ابن رشد في قرطبة، في الأندلس، بعد وفاة الغزالي في طوس، في إيران، بخمسة عشر عاماً.  وتوفي ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر في مراكش عام 1198 م.

تأثر بابن رشد ومنهجه عددٌ كبيرٌ من مفكري الغرب وفلاسفته، منهم سبينوزا، على سبيل المثال لا الحصر.  والعبرة مما سبق هي أن الدين والتدين ليسا عائقاً أمام نشوء مجتمع مدني وإبداع حضاري.  على العكس تماماً، يثبت التاريخ العربي-الإسلامي أن الدين والتدين يمكن أن يشكلا دافعاً عميقاً لإنتاج الدول والحضارات عندما يقترنان بالعقل والعمل والإنتاج.  أما ما وصلنا اليوم، فليس التدين العقلي المنتِج والحضاري الذي أنتجه العرب في الثلاثمئة عام الأولى للإسلام، أو الذي أسسوه في القرون الأولى لحكمهم في الأندلس، بل هو معطىً آخر موازٍ أسس له السلاجقة، وتراكمت فوقه رواسب المماليك، ثم رواسب العثمانيين، ثم رواسب الاستعمار الحديث الذي لم يترك دولاً حديثةً في بلادنا، بل كيانات ضعيفة قابلة للتفجير من الداخل والسحق من الخارج.  لذلك، من التجني بمكان وصف دولة التجزئة القُطرية بأنها دولةٌ حديثة، قبل المضي في طريق إدانتها بمثل تلك “التهمة”.

والحال أن ما لدينا اليوم عبارة عن ألف عام من الاستلاب، استلاب العرب عن ذاتهم، واستلاب الإسلام عن العقل ضمن أجندة هيمنة خارجية، تركية ثم غربية.  وتتجلى النقطة الأخيرة بالذات في طريقة توظيف الإرهاب التكفيري غربياً (وتركياً) في التاريخ العربي الحديث والمعاصر (وللمزيد حول هذه النقطة، الرجاء مراجعة مادة “حركات الإسلام السياسي كمنتج للحداثة الغربية”، طلقة تنوير 31).

حول نقد الدولة الحديثة من زاوية مركزيتها وتهميش “الإنسان-الفرد” و”المجتمع المدني”:

إذا كان نقد الدولة الحديثة، عند بعض الذين يزعمون التدين، مرتكزاً إلى فقه القرون الوسطى، أي إلى البنية الفوقية لمرحلة التفكك الإقطاعي المتظلل بإمبراطورية ثيوقراطية عابرة للأمم والقوميات، أي إلى البنية الفوقية لمرحلة ما قبل الحداثة، فإن نقد الدولة الحديثة المعاصر، في الغرب، والذي يردده المتأثرون بفكر ما بعد الحداثة في بلادنا، يمثل صدىً لمشروعٍ آخر هو مشروع العولمة المعني بتفكيك الكيانات السياسية المركزية وبإحلال الهيمنة العالمية للشركات العابرة للحدود محلها.

من هذه الزاوية يجري الحديث اليوم عن “طغيان الدولة المركزية ومؤسساتها” على الفرد، و”المجتمع المدني”، والأقاليم، والأقليات، إلخ… كذرائع إنسانوية في المظهر، ليبرالية حديثة في الجوهر، لتفكيك مؤسسات الحداثة السياسية ذاتها، لا الدولة المركزية وبيروقراطيتها فحسب، بل الأحزاب ذاتها، لمصلحة “شبكات القضية الواحدة”، مثل الدفاع عن حقوق البيئة أو المرأة المعنفة أو الأطفال المتوحدين إلخ…؛ وتفكيك المنظومة التعليمية الموحدة، لإحلال منظومات تعليمية مختلفة محلها؛ وتفكيك صلاحيات الدولة عموماً، والمؤسسات التي تشرف على تلك الصلاحيات، لمصلحة القطاع الخاص (الأجنبي غالباً) أو الجمعيات غير الحكومية (الممولة أجنبياً في الأعم الأغلب).

وإذا كان النقد الأصولي للدولة الحديثة يرتكز إلى جدارٍ ما في تراثنا، وثمة جدران كثيرة غيره أقوى وأجمل، فإن النقد الليبرالي الحديث للدولة الحديثة يستند إلى تغريب الوعي، وتبديد الهوية، وإلى مشروع استراتيجي هو إحلال الفرد اللامنتمي والمنقطع الجذور محل “المجتمع”، تحت ستارة الدفاع عن “المجتمع المدني”.  وفي الطريق إلى تحقيق مثل ذلك الهدف، لا بأس من تشجيع كل نزعة تضعِف الدولة الحديثة، سواء كانت طائفية أو عرقية أو جهوية، لا سيما إذا كانت عابرة للحدود، بحيث تنشأ روابط طائفية مثلاً أو عرقية أعلى منزلةً من الانتماء الوطني.  فإذا لم يتح ذلك، لا بأس بأي مشروع تفسيخ اجتماعي تحت أي شعار، فالمجتمع المدني الذي يجري الحديث عنه هنا هو “المجتمع المدني الكوني”، لا الوطني أو القومي، فذلك يمثل البيئة المثلى للعولمة، والتي ترى الدول الوطنية عدوها الأول.

وحيث أنني سبق أن نشرت عدداً من المقالات حول البعد السياسي لما بعد الحداثة في مجلة “طلقة تنوير”، فإنني سأعيد القارئ الكريم إلى عناوينها إذا رغب بالاستزادة حول الجوانب المختلفة لمشروع تفكيك الدولة المركزية ومتعلقاتها لمصلحة العولمة ضمن أفق ما بعد حداثي:

  • “مفهوم الحداثة بين النهضة والاستلاب”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 3، 1 آب 2014،

  • “عن الإمبريالية: تطورات علاقات الإنتاج في التسعينيات وما تلاها”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 13، 1 حزيران 2015.

  • “هل انتهى عصر الأحزاب السياسية حقاً؟”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 43، 1 كانون الأول 2017.

  • “دور الجمعيات غير الحكومية الممولة أجنبياً في إضعاف الهوية القومية”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 51، 1 آب 2018.

  • “في الأساس الاقتصادي لأفول الأيديولوجيا في العمل السياسي”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 60، 1 أيار 2019.

  • “المجتمع المدني كمفهوم مخترق إمبريالياً”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 64، 1 أيلول 2019.

  • “الليبرالية وأنواعها وتناقضاتها وانقلاب دورها المعاصر”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 73، 1 كانون الثاني 2021.

المشكلة هي دولة التجزئة، والدولة القومية الحديثة هي الحل:

نضيف أن مشكلة دولة التجزئة القُطرية، الدولة العربية المعاصرة، تتمثل بأنها ضعيفة، وبأنها ليست دولة مركزية بما فيه الكفاية، وهي لن تتمكن من التحول إلى دولة مواطنة، يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، إلا إذا أصبحت دولة وحدة قومية، تشرف على الانصهار الاجتماعي-السياسي لما يسمى “مكونات” المجتمع العربي.  وهذا بدوره لن يحدث من دون مشروع قومي يحقق أهداف الوحدة والتحرير والنهضة.  فإذا كان الغرب قد حقق مثل ذلك الانصهار من خلال الثورة الصناعية وعصري النهضة والتنوير، فإن مشروع النهوض القومي الذي حمله محمد علي باشا وابنه إبراهيم في القرن التاسع عشر، ومن ثم حملته الحركات القومية التحررية في القرن العشرين، مثل الناصرية والبعث وحركة القوميين العرب، لم يقيض له أن يتحقق.

والفرق بين الدول التي أسسها القوميون في الوطن العربي، منذ القرن التاسع عشر، وبين دول التجزئة القُطرية المعاصرة التي أسسها الاستعمار، أن الدولة القُطرية ذات التوجه القومي تصبح حاملاً لمشروع: أ – وحدة عربية، وب – انصهار اجتماعي، أي مواطنة.  وهذا يعني أن الدولة القُطرية ذات النزعة الوحدوية النهضوية هي دولة وحدة بالقوة، ولو لم تصبح دولة وحدة بالفعل، ومن هنا خطرها على منظومة الهيمنة الخارجية وأدواتها المحلية.  إن دولة محمد علي باشا في مصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تمثل هنا نموذجاً فذاً لمشروع دولة حديثة حقيقية لأنها سعت إلى تحقيق الوحدة بتجاوز حدودها القُطرية، وإلى النهوض والتحديث بكل ما للكلمة من معنى.  ولو جاز أن نستخدم تعبير الفيلسوف الألماني هيغل عن أن الدولة تمثل تجسيداً للروح المطلق، لقلنا إن دولة محمد علي كانت تمثل تلك الروح بالنسبة للأمة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر.  ومن البديهي أن هيغل نظر للدولة بمثل هذه الطريقة لأن ألمانيا في تلك الفترة كانت في طور التوحد والنهوض، وكانت ألمانيا مفككة إلى عشرات الدويلات والإمارات وقتها.

فقط الدولة المركزية يمكن أن تحشد الموارد اللازمة لتوحيد الأمم وللدفاع عنها.  ولنلاحظ في أوروبا أن مرحلة الحكم المطلق أعقبت التفكك الإقطاعي مباشرةً.  وبعدما تأسست الدولة القومية واستقرت، وترسخ مفهوم المواطنة، فوق الطوائف والإثنيات والمناطق، أصبح من الممكن الحديث عن حقوق مواطن، لا عن حقوق طائفة أو أقلية عرقية أو منطقة.  ومن تاريخنا القديم في أحواض الأنهار مثل النيل ودجلة والفرات، نرى أن الدول المركزية القوية كانت شرطاً لازماً لتنظيم الري والسدود والقناطر ومواجهة الفيضانات، أي لتنظيم الحياة، وهو ما عُرف باسم “نمط الإنتاج الآسيوي”.

نقول إن دولة المواطنة القومية لا يمكن أن تنشأ إلا في ظل دولة مركزية قوية ترسخ الوعي القومي والحس  القومي، دولة تنهض بالاقتصاد العربي كماً ونوعاً، وتؤسس البنية التحتية سياسياً لأمة عربية واحدة من خلال جيش واحد واقتصاد واحد ومؤسسات دولة واحدة، ونقول إن كل ذلك لم يتحقق بعد في وطننا العربي كما تحقق في الدول التي أنجزت مشروع الدولة الواحدة، من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية.  ولذلك لما نزلْ مفككين اجتماعياً، لا سياسياً فحسب، لأننا لم نمر بطور التحول الاقتصادي-الاجتماعي الذي يحولنا من قبائل أو طوائف أو أعراق أو جهات إلى مواطن عربي فحسب.

في مثل تلك الظروف، يمثل الحديث عن تفكيك الدولة العربية المعاصرة، التي تعبر أصلاً عن تفكيك، جريمةً سياسية نكراء، لأن ذلك يعني تحويل الوطن العربي إلى 40 أو 50 دويلة على الأقل.  ومن هنا، نقول إن مشكلة الدولة العربية هي أنها ليست مركزية بما فيه الكفاية، لا أنها مركزية أكثر من اللزوم.

وكما جرت الإشارة في مستهل الفصل الثالث من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي”:

يثبت تاريخ الوطن العربي أن تاريخ المناطق والعشائر والطوائف هو تاريخ التخلف، بينما كانت تقوم النهضة العربية دوماً على أكتاف الدولة المركزية والحكم المركزي المعبر عن مصلحة الأمة.  فإما الأمة الموحدة في ظل دولة مركزية قوية، سواء كانت دولة نبوخذ نصر أو دولة الخلافة التي يحكمها العرب، أو الفقر والضعف والتأخر في ظل الخراب المحلي.

وقد كانت هزيمة الدولة المركزية أمام قوى الهيمنة الخارجية، وتفككها، دوماً مقدمة لهيمنة الخاص على العام، العشيرة على الوطن، الطائفة على الانتماء، والجهة أو المحلة على الأمة، مما أدى تاريخياً لشيوع ثلاث ظواهر متلازمة بالضرورة تغذي كل منها الأخرى منذ الأزل العربي هي: 1) التجزئة،  2) الاحتلال الأجنبي المباشر أو غير المباشر (التبعية)،  3) والتخلف.

بالمقابل، كان المشروع الوحدوي، وأهم مثال عليه في تاريخنا هو الدعوة النبوية، هو نفسه مشروع التخلص من الهيمنة الأجنبية، وهو نفسه مشروع بناء الدولة المركزية، الوحيدة القادرة أن تؤمن إطاراً من الاستقرار الداخلي والخارجي، ومن عناصر القوة، لتحقيق تنمية اقتصادية وقفزات حضارية حقيقية…

وما برح هذا القانون يحكم الحياة العربية المعاصرة.  إذ إن المشروع النهضوي العربي لا يمكن أن يتحقق من دون دولة مركزية قوية توفر له عناصر القوة وتحميه، دولة قوية قادرة أن تعبر عن مصلحة العام على حساب الخاص.  فالأمة العربية الممتدة عبر الصحارى الشاسعة، والمكشوفة على أطول شواطئ في العالم، بالمطلق وبالنسبة لمساحتها البرية، والمتناثرة مراكزها الحضارية عبر عدة مناطق زمنية، والواقعة في عقدة طرق التجارة العالمية البرية والبحرية والجوية، لا يمكن أن تنهض من دون دولة مركزية قوية.

ولا حقوق للمواطنين في الأمم الضعيفة المستعبدة، ولا تحرر للفرد أو للأقليات حيث يرزح الوطن برمته في ظل الاحتلال والهيمنة والتشرذم والفقر والتخلف، ولا ازدهار للمناطق القصية في المراكز التي يكون ولاؤها لذاتها فقط، بعيداً عن مصلحة الأمة.

فالدولة المركزية القوية المستقرة المزدهرة هي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يتربع في ظله الحكم المحلي والفرد الحر.  أما العصبيات الجاهلية، الطائفية والعشائرية والإثنية، فهي النقيض الموضوعي لجوهر رسالة الإسلام وللمشروع النهضوي العربي في آنٍ معاً، وهي لا تمثل دفاعاً عن المواطن في وجه طغيان الدولة “الحديثة”، بل تمثل إعادة إنتاج، بلبوس معارض للحداثة الاستعمارية ولأنظمة التجزئة العربية، لمشروع التفكيك، مشروع القوى المعادية للأمة.  فهو فكر معارض للحداثة فعلاً، ولكنه بهذا المعنى ليس معارضاً للاستعمار، لأنه يكرس خط ما بعد الحداثة القائم على تفكيك المعنى الواحد و”الروايات الكبرى”، ومنه “رواية” الأمة الواحدة.

أخيراً، نرى أن وطناً عربياً شاسع المساحة مثل وطننا الذي تبلغ مساحته 14 مليون كم مربع، وطناً مفتوحاً على القارات القديمة كان عبر التاريخ معبراً للغزوات والهجرات والتجارة العالمية، وطناً يمتلك أطول شواطئ في العالم بالنسبة لمساحته البرية، وطناً تتركز كثافته السكانية في أشرطة ضيقة من المساحة الإجمالية ويتألف ما عدا ذلك من مساحات مهولة من الصحارى المقفرة المفتوحة، إن وطناً كهذا لا يمكن أن يتوحد وأن ينهض وأن يحقق أمنه القومي إلا على يد دولة عربية مركزية تقزِّم أية دولة مركزية سبق أن عرفها التاريخ البشري، دولة مركزية تليق بمشروع النهوض العربي، وبمكانتنا كأمة على هذه الأرض.

وليس القصد من كل ما سبق، بالطبع، التغاضي عن مشاكل الفساد وسوء الإدارة في الدولة القُطرية العربية المعاصرة، ولا أننا ضد حقوق المواطن أو أننا نناهض حقه في المشاركة في اتخاذ القرار.  على العكس تماماً، ومرة أخرى، نحيل من يرغب إلى المواد التالية:

  • “هل يتوجب على القوميين أن يتبنوا دولة التجزئة في زمن التفكيك؟”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 12، 1 أيار 2015.

  • “مسألة الديموقراطية في البرنامج القومي الجذري”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 17، 1 تشرين الأول 2015.

  • “النزعة القبلية في الشخصية العربية المعاصرة”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 39، 1 آب 2017.

  • “الظاهرة الطائفية العربية: هل العلمانية نقيضها المباشر حقاً؟”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 40، 1 أيلول 2017.

  • “قراءة في أزمة الدولة القُطرية العربية”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 58، 1 آذار 2019.

  • “مسألة المواطنة والديموقراطية في الدولة القُطرية العربية المعاصرة”، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 62، 1 تموز 2019.

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid02K2LKchqcCA6hVNva7j8fqh2J7zrxhYPf6BgiL8vhWnZAQkhMdWkRmoRy6prLGpmrl&id=100000217333066

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.