نسبة سكان سورية الأوائل للجزيرة العربية لا يقلل من عظمة سورية الحضارية

July 9th 2019 | كتبها

 

 

 

– القول أن سكان سورية القدماء، وبقية المنطقة، قدموا من شبه الجزيرة العربية يستند إلى التاريخ الطبيعي لمنطقتنا، ومفتاحه التغير المناخي، فعندما كانت الجزيرة العربية في نهاية العصر الجليدي الثالث خضراء، كانت منطقة بلاد الشام والعراق أشبه بشمال روسيا، وكان أجدادنا يذهبون للصيد فيها صيفاً، ويصعب العيش فيها شتاءً.

– لاحظوا أن “ملحمة غلغامش” تتحدث عن رحلة من أور في العراق إلى جبال لبنان عبر غابات كثيفة وحيوانات غريبة، وكان ذلك قبل بضع آلاف من السنين فحسب.

– عندما حدث التغير المناخي وبدأت الجزيرة العربية بالتصحر، صار مناخ منطقة بلاد الشام أكثر اعتدالاً، ولم تكتمل هذه العملية، في الحالتين، إلا خلال بضع ألفيات، فصارت بلاد الشام وغيرها أكثر قابلية للسكن، والجزيرة العربية أقل قابلية للسكن، فنشأت الهجرة شمالاً وغرباً.

– كل هذا لا يغير من حقيقة أن المدنيات العربية القديمة في بلاد الشام والعراق وفي اليمن، وفي مصر، هي أساس الحضارة البشرية التي نعرفها اليوم، ولكن ذلك لا يغير أيضاً من كون أصل سكان تلك المناطق من شبه الجزيرة العربية.

– انظروا مثلاً ما يقوله الكاتب والمؤرخ السوري الكبير أحمد الداوود حول الموضوع في الفصل الأول من كتابه “العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود”، الصادر في دمشق، سورية، كانون الثاني 1991:

– يجمع علماء التاريخ والجغرافيا والمناخ في العالم اليوم على أن نهاية أخر عصر جليدي مرت به الكرة الأرضية كانت في حوالي الألف الرابع عشر قبل الميلاد التي معها كانت بداية عصرنا الدفيء الحالي والذي قد يستمر عشرات الآلاف من السنين (هشام الصفدي، “تاريخ الشرق القديم”، جامعة دمشق، 1983-1984، الجزء 1، ص 78-79).

– في تلك الحقبة تحديداً كانت كتل الجليد بسماكة مئات الأمتار تغطي مساحات شاسعة من الشمال وحتى الخط الذي يمر في وسط فرنسا، وكان الحزام الحي “أي المفعم بالحياة وبشروط تطور الإنسان والحضارة”، هو الممتد من جزيرة العرب وعبر ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية وصولاً إلى الشواطئ الأمريكية الوسطى والجنوبية. لقد كانت “طبقات الجليد السميكة تغطي أمريكا الشمالية وغرب أوروبا مثل الجزر البريطانية والأراضي المنخفضة وفنلندا والدانمارك ومنطقة الألب، وكانت روسيا مركز الإشعاع الجليدي في شرق أوروبا حيث وصلت المجلدات إلى أوكرانيا والدانوب وشمال ووسط الأورال على جبال تايمير ومناطق أخرى من سيبيريا، وزحفت مجلدات عملاقة من جبال جوكوتكا وجماكاتكا وآسيا الوسطى وظهرت المجلدات في جبال أستراليا والشيلي ونيوزلند” (أ. كوندراتوف، “الطوفان العظيم بين الواقع والأساطير”، دار وهران، ترجمة د. عدنان عاكف حمودي، الطبعة الأولى، دمشق 1987، ص 62).

– أما شبه جزيرة العرب فقد كانت أخصب بقعة على سطح الكوكب وأكثرها ملاءمةً لوجود الإنسان والحيوان والنبات ولنشوء الحضارة. ففي الشرق منها كانت جنة العرب الأولى قبل أن تغمرها مياه البحر وتشكل ما يعرف اليوم بالخليج العربي، تجري من تحتها أنهار دجلة والفرات وبيشه لتصب جميعاً في بحر العرب بعد أن غذت تلك المنطقة عبر عشرات آلاف السنين بطبقات لحقية وفرت لها درجة من الخصوبة لم تعرفها أية بقعة أخرى. وكان يغطي منطقة صحراء الربع الخالي بحر من المياه العذبة ما تزال بقاياه قائمة حتى يومنا هذا في أربع بحيرات متصلة جوفياً عمق إحداها 400 قدم (أحمد سوسة، “ري سامراء”، الجزء 2، ص 539).

– إن المكتشفات الآثارية ما تنفك تؤكد يوماً بعد يوم أن تاريخ الوطن العربي هو تاريخ التمدن البشري على هذا الكوكب. فقد أثبتت، بما لا يبقي مجالاً للشك، أن إنساننا كان أول من عرف الزراعة وفن البستنة، وأول من بنى المدن، وشيد الحصون والقلاع، وأول من عرف المعدن واستخدمه وأتقن فن التعدين وصناعة الأدوات، وأول من صنع الفخار والدولاب، وأول من عرف وأسس علوم الطب والفلك والحساب والهندسة والجبر والمساحة، ووضع المقاييس والمكاييل والموازين، وأول من اكتشف، ومن عهد بابل، أن الأرض كروية، وأنها هي التي تدور حول الشمس، فدرس بناءً على ذلك ظاهرة الخسوف والكسوف، ووضع المواقيت والتقاويم لأول مرة، ووضع النظام الستيني منذ عهد بابل الذي ما زال مستخدماً حتى اليوم، فقسم بموجبه النهار إلى 12 ساعة، والساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية. وأول من صنع السفن وأبحر في البحار والمحيطات، وأوجد خطوط التجارة الدولية في البر والبحر، ودار حول رأس الرجاء الصالح وبلغ الشواطئ الأمريكية منذ الألف الثاني والأول قبل الميلاد (أي قبل كريستوف كولومبوس بما ينوف عن ألفين وخمسمائة عام). وأول من أبدع عقيدة الخصب الزراعية بكل تقاليدها وتعاليمها وآدابها وفنونها، وأول من أبدع عقيدة التوحيد، وأول من عرف الكتابة واخترع الأبجدية، وصنف الكتب والمكتبات، وبنى المدارس، ووضع القواميس منذ الألف الثالث قبل الميلاد (كما أثبتت مكتشفات ماري)، وأول من صنع النول والمكوك وعرف الحياكة والنسيج، وأول من بنى دولة مركزية كبرى بالمفهوم الحقوقي والإداري والسياسي والاقتصادي والعسكري، فوضع الأنظمة، وشرع القوانين، وضرب النقود، وبنى الجيوش، وأول من وضع تشريعات الزواج وبناء الأسرة، وأول من شرب الخمور، وصنع العطور، وأحدث مجالس الشراب، والشورى والندوة، وأول من وضع مجلسين استشاريين للشيوخ والشباب، وأول من تزين بالحلي والكحل وليس الجوارب، وعرف الشطرنج والنرد والداما…

إبراهيم علوش

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2874048159279067&id=100000217333066

الموضوعات المرتبطة

هل يقتصر الرد “الإسرائيلي” على 3 مسيرات صغيرة في أصفهان؟

إبراهيم علوش – الميادين نت ما أن كسرت إيران قواعد الاشتباك غير المعلنة بأكبرَ وابلٍ من الصواريخ والمسيرات يتلقاها الكيان الصهيوني دفعةً واحدةً في تاريخه، حتى انطلقت رشقةٌ موازية من [...]

خيارات الرد الإيراني من المنظور المعادي

  إبراهيم علوش – الميادين نت تتقاطع التقارير والمقالات الأمريكية و"الإسرائيلية" التي تتناول خيارات الرد الإيراني على استهداف القنصلية الإيرانية على أتوستراد المزة في دمشق، والمحاذية [...]

مدرج الطائرات الضخم في جزيرة عبد الكوري في أبعاده الصغرى والكبرى

  إبراهيم علوش – الميادين نت تبلغ مساحة جزيرة عبد الكوري، في أرخبيل سُقطرى اليمني، 133 كيلومتراً مربعاً فحسب، ويبلغ طولها 36 كيلومتراً، وعرضها، عند أوسع حيز فيها، 5 كيلومترات، أما عدد سكانها [...]

قراءة في قواعد الصراع على جبهة “إسرائيل” الشمالية

  إبراهيم علوش – الميادين نت ربما يظن بعض الذين ولدوا في العقدين أو العقود الثلاثة الفائتة أن الخطاب الذي يسوَّق ضد حزب الله في لبنان محلياً وعربياً، وخصوصاً منذ حرب صيف 2006، جديدُ المفردات [...]

الممر البحري بين قبرص وغزة وآباؤه الكثر

إبراهيم علوش- الميادين نت جرى تبني الممر البحري من قبرص إلى غزة رسمياً، والرصيف المؤقت والطريق الفولاذي العائم اللذين سيشيدهما الجيش الأمريكي خلال شهرين، في بيان مشترك نُشر في موقع [...]
2024 الصوت العربي الحر.