سلسلة التثقيف القومي
الجزء الأول: عوامل القومية / ساطع الحصري
لائحة القومي العربي arab_nationalist@yahoogroups.com
يمكن اعتبار الاستاذ ساطع الحصري المعلم الأول للقومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين. وهو من عائلة عربية سورية، ولد في صنعاء، في اليمن، عام 1879 أو 1880، وتوفي في بغداد عام 1968. وقد عمل خلال تلك السنوات المديدة في سلك التعليم ووضع المناهج الدراسية في العراق وسوريا ومصر عبد الناصر، وبشر بالقومية العربية ونظّر لها طوال سنيِّه. وقد أخبرني أحد معاصري فترة المد الوحدوي في الخمسينات أن الأستاذ ساطع الحصري سافر مرة إلى مصر، وكان وقتها في السبعينات، فرفض أن يقدم جواز سفره لضباط مطار القاهرة، مصراً على دخول مصر بدون إبراز جواز سفره، لأنه عربي يتحرك بين أقطار وطن واحد، وبالتالي ليس من المفترض أن يحتاج لجواز سفر، ولو طلبوا منه هوية شخصية لاختلف الأمر، وحدثت مشكلة طبعاً، وصلت إلى الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أوعز لضباط المطار بإدخال الأستاذ ساطع الحصري بدون جواز سفر… فكرس الأستاذ ساطع الحصري بذلك سابقة دخول العرب عبر الحدود المصطنعة بدون جواز سفر. رحم الله أيام المد الوحدوي، سوى أنه لم يمت، بل يقضي قيلولة حالياً، ولو بدت طويلة.
وتجدون أدناه نص محاضرة الحصري عن العناصر المكونة للقومية التي القاها في نادي المعلمين في بغداد عام 1928. اقرأوها لتروا كيف تكون المحاضرات، وكيف كانت يوماً! واقرأوها لتعرفوا كيف تقهقر الفكر السياسي العربي بين عامي 1928 و2008… وكيف فرضت القومية العربية نفسها بقوة الحجة، وتماسك المنطق، لتنتج فيما بعد تياراً قومياً عارماً.
وإذا كانت أوروبا قد بدأت نهضتها بعد عصور الظلام في القرون الوسطى بنفض الغبار عن الأعمال الكلاسيكية للإغريق والرومان، فإن نهضتنا القومية العربية الجديدة لا بد لها أن تبدأ بنفض الغبار عن كلاسيكيات الأعمال القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين. وهذا الجزء الأول من سلسلة التثقيف القومي من الطبيعي أن يبدأ بساطع الحصري، وستتلوه تباعاً أجزاء أخرى للحصري ولغيره من معلمي القومية العربية الكبار.
ويناقش ساطع الحصري في هذه المادة عوامل تكوين القومية، ليستنتج:
1) أن النظرية العرقية في القومية التي تقيم الأمة على أساس الأصل العرقي الواحد أو المشترك نظرية سخيفة ولا أساس لها من الصحة، وهو ما يجب أن ينتبه له جيداً من يتقولون بأن القومية تمثل عصبية عرقية أو عنصرية.
2) أن العاملين الأساسيين في تكوين القوميات هما اللغة والتاريخ المشترك، ومن خلال هذين العاملين يجب أن تقيم كل العوامل الأخرى المؤثرة بالقومية.
3) أن علاقة الدين بالقومية علاقة غير خطية، لا تخضع للتعميمات التبسيطية، سواء كانت تلك التعميمات سلبية أو إيجابية، ويظهر الحصري هنا أن التأثير المتبادل بين القومية والدين يؤثر ويتأثر باللغة والتاريخ، وينتهي إلى أن الدين لا يلغي حقيقة الوجود القومي.
4) أن الدول التي تحكم شعوباً من غير قومياتها تقيم نظرية دولتها عادة على فكرة “الإرادة” و”المشيئة” بالتعايش المشترك بين الشعوب، بغض النظر عن عوامل القومية، وهو ما يناسب تلك الدول المهيمنة تماماً من الناحية السياسية، ولذلك يفند الحصري هذه التنظيرات الإرادوية للقومية، ويشرّحها بمبضعه المنطقي الحاد.
وهذه مجرد خلاصة طبعاً لا تغني عن قراءة هذه المادة بإمعان، ومناقشتها بعمق.
أخوكم إبراهيم علوش
أحد مدراء لائحة القومي العربي
عوامل القومية
ساطع الحصري
(من محاضرة ألقيت في نادي المعلمين في بغداد عام 1928، وصدرت في كتاب: ساطع الحصري [أبو خلدون]، أبحاث مختارة في القومية العربية، التي كتبها ونشرها المؤلف في تواريخ مختلفة، 1923-1963 (القاهرة: دار المعارف، 1964)، الجزء الأول، ص: 38 – 56.)
إذا ألقينا نظرة عامة على الانقلابات السياسية التي حدثت منذ أوائل القرن التاسع عشر، وتحرينا أهم العوامل التي أدت إلى تلك الانقلابات، نجد أنها تتلخص في عبارة وجيزة هي: مبدأ القوميات.
فإن النزعات القومية التي كانت ضئيلة الأثر وقليلة الظهور حتى ذلك التاريخ، أخذت تتقوى بعد ذلك بسرعة هائلة، وأصبحت تفرض نفسها على اتجاهات السياسة، وتسيطر على سير التاريخ. فكثير من الأمم المغلوبة على أمرها أفاقت من سباتها، وأخذت تشعر بكيانها الخاص، وصارت تسعى إلى تدعيم هذا الكيان بالحكم الذاتي أولاً، وبالاستقلال التام ثانياً. على حين أن السلطنات التي كانت قائمة قبلاً، أخذت تتقلص شيئاً فشيئاً، إلى أن اندرس معظمها، تاركاً محله لدولٍ قومية عديدة. وبدأت هذه القوميات تختلف وتتنازع، وظهرت من جراء ذلك مسائل الأقليات وما يتبعها من المشاكل والاختلافات.
وإذا استعرضنا سير هذه الانقلابات، وجدنا أن جماعات من الناس اعتبرت نفسها من قومية واحدة، وأخذ أفرادها يشعرون أنهم أبناء أمة واحدة، متميزة من الأمم الأخرى، وصاروا ينزعون إلى الاستقلال عنها.
فيجدر بنا أن نتساءل: ما هي العوامل التي تجعل بعض الناس يشعرون أنهم أبناء أمة واحدة، متميزون من أبناء الأمم الأخرى؟ وبتعبير أقصر: ما هي العناصر التي تكون الأمم، والعوامل التي تميز بعضها من بعض؟
إن الأجوبة التي أعطيت عن هذه الأسئلة اختلفت كثيراً باختلاف الباحثين. ذلك لأن هذه الأبحاث لم تبقَ في نطاق المسائل العلمية البحت، بل تأثرت كثيراً بنزعات السياسة ومطاليبها.
فإن كل جواب على هذه الأسئلة لا بد أن يؤيد أو يفند إحدى النظريات السياسية، ولا بد من أن يأتي موافقاً أو مخالفاً لمطاليب أمة من الأمم أو دولة من الدول.
ولذلك تجد أن العلماء والباحثين اختلفوا في هذا الأمر اختلافاً كبيراً، بسبب اختلاف نزعات الأمم التي ينتمون إليها، حتى أننا كثيراً ما نجد بينهم من لم يتورع عن جمع المتناقضات أيضاً، فإنهم يقولون بنظرية في بعض القضايا، وبنظرية مخالفة لها في قضايا أخرى مماثلة لها، وذلك حسب ما تقتضيه منافع الدول التي ينتسبون إليها.
فيجدر بنا أن ندرس هذه المسائل بحذر شديد، وأن نناقش الآراء والنظريات التي حامت حولها بانتباه تام.
– 1 –
فلنبحث إذن: ما هي العناصر التي تكون القومية وتؤلف الأمة؟
إن أول ما يخطر على البال، ويلفت النظر، في هذا الصدد، هو وحدة الأصل والمنشأ.
يظن الناس عادة أن كل أمة من الأمم تتحدر من أصل واحدٍ، ويزعمون أن جميع أفراد الأمة الواحدة يكونون بمثابة الأشقاء المتحدرين من صلب أبٍ واحد. ولذلك نجدهم يكررون في كل مناسبة كثيراً من التعبيرات الدالة على هذا الزعم، كقولهم: “أجدادنا، آباؤنا، إخواننا…”.
غير أن هذا الظن لا يستند إلى أساسٍ صحيح، لأن جميع الأبحاث العلمية – المستمدة من حقائق التاريخ ومن مكتشفات علم الإنسان ومكتسبات علم الأقوام – لا تترك مجالاً للشك في أنه لا يوجد على وجه البسيطة أمة تتحدر من أصل واحدٍ فعلاً، ولا توجد على الأرض أمة خالصة الدم تماماً.
فإن جميع الأمم التي نعرفها الآن قد تكونت من تداخل عشرات الأعراق والأجناس، في مختلف أطوار التاريخ، حتى إن الأجناس التي عاشت في القرون المتقدمة على أدوار التاريخ، كانت أيضاً متخالطة ومتداخلة جداً.
ونستطيع أن نقول بكل جزم وتأكيد: إن وحدة الأصل والدم في الأمم إنما هي من الأوهام التي استولت على العقول والأذهان، من غير أن تستند إلى دليلٍ أو برهان.
لا الإنكليز، ولا الروس، ولا الألمان، ولا البلغار… كانوا متجانسين من حيث الأصل والنسل. بل إن كل واحدة من هذه الأمم إنما تكونت من تداخل وتمازج عشرات الأقوام. حتى الأمة الفرنسية لا تتحدر من أصل واحد. هذه الأمة التي كانت أسبق الأمم الأوروبية إلى تكوين وحدة سياسية قومية، حتى هذه الأمة نفسها إنما تكونت من اختلاط عدد كبير من الأقوام والأجناس. وقد تبين من الأبحاث العلمية التي لا مجال للشك فيها أن عدد الأقوام التي كونت فرنسيي اليوم يتجاوز الستين. ولهذا فإننا إذا قارنا سكان شمال فرنسا بسكان جنوبها – من حيث الأوصاف البدنية والخصائص الجنسية – وجدنا بينهم بوناً شاسعاً جداً. فإن مشابهة أهالي بعض المقاطعات الشمالية – كالبريتاني والنورماندي مثلاً – الإنكليز والألمان، أكبر بكثير من مشابهتهم أهالي سائر المقاطعات، وبخاصة أهالي المقاطعات الجنوبية.
إن كل الأبحاث العلمية المتعلقة بالأزمنة التاريخية وما قبل التاريخية (Préhistorique) تدل دلالة قاطعة على أن تداخل الأقوام والأجناس استمر دون انقطاع في جميع أقسام فرنسا منذ أقدم الأزمنة. فأصبح الآن من الصعوبة بمكان تعيين “المنبع الأصلي” الذي ترجع إليه القومية الفرنسية وتتحدر منه. وقد اختلف علماء التاريخ فيما بينهم اختلافاً كبيراً حينما حاولوا تعيين هذا المنبع الأصلي: ما هو الشعب الذي يستحق أن يُنعت باسم “أجداد الفرنسيين الحاليين”؟ هل هم الغاليون؟ أو هم الرومان؟ أم هم الفرنك؟ إن كل واحد من هذه الحلول الثلاثة صار أساساً لنظرية من نظريات التاريخ: لقد ظل العلماء والمفكرون يتناقشون في ذلك مدة طويلة، إلى أن عرفوا ما في هذا النقاش من العبث: إن جميع هؤلاء الأقوام – وعشرات أمثالها – قد اشتركوا في تكوين الأمة الفرنسية، فإذا ما بحثنا عن أصل الفرنسيين يجب أن نبحث عن العنصر الذي كان أشد تأثيراً في هذا التكوين، من الوجهة المعنوية، لا من الوجهة المادية. ويجب أن نعلم العلم اليقين أن الفرنسيين إذا انتسبوا إلى الأقوام اللاتينية، فإنما ينتسبون إليها من وجهة اللغة والثقافة، لا من جهة الأصل والدم، وذلك لأن من الحقائق الثابتة علمياً أن دم اللاتين والرومان في فرنسا أقل بكثير من دماء الجرمان.
وهذا هو الحال في جميع الأمم، فإنها جميعاً مختلطة ومتداخلة من حيث الأصل والدم…
إنني أشبه الأمم من هذه الوجهة بالأنهر العظيمة. فمن المعلوم أن كل نهر من الأنهر تجري فيه مياه أتت من منابع ومصادر وروافد مختلفة. والأنهر الكبيرة تكون كثيرة المنابع وعديدة الروافد بوجهٍ عام، وإذا ما بحثنا عن منبع نهر من الأنهر، فإنما نفعل ذلك بالنسبة إلى ما هو الغالب والأساسي، ولا نعني بذلك أن جميع مياه النهر تأتي من منبع واحد فعلاً.
هذا نهر دجلة، مثلاً: من منا يستطيع أن يجزم من أين أتت المياه التي تسيل فيه الآن؟ من منا يستطيع أن ينكر أن هذه المياه آتيةٌ من نواحٍ مختلفةٍ جداً؛ كلنا نعلم أن قطرات هذه المياه قد تكون متأتية من العيون التي تنبع من تحت التراب أو من بين الصخور؛ وقد تكون متولدة من ذوبان الثلوج المتراكمة على الجبال؛ وقد تكون آتية من السيول المتكونة من هطول الأمطار؛ وكل ذلك قد يكون من جراء ما حدث في أعالي الزاب، أو على سفوح حمرين، أو في سهول الموصل، أو على جبال زاخو، أو في ديار بكر… ومهما كان الأمر، فإن جميع هذه المياه المختلفة تسير جنباً إلى جنبٍ في مجرى واحد، وتكوّن هذا النهر الذي يجري أمامنا. إننا نسمي هذه المياه باسم مياه دجلة، من غير أن نفكر في منشأها الخاص، أو أن نتساءل عن طول المدة التي مضت منذ التحاقها بهذا المجرى الطويل، وانتسابها إلى هذا النهر العظيم.
إن أحوال الأمم ومنابعها تشبه ذلك شبهاً كبيراً. إن الإنكليزي المثقف لا يعرف ما إذا كان بينه وبين شكسبير أو نيوتن أو ميلتون رابطة أصل ونسب، ومع ذلك فإنه يعتبر هؤلاء أجداداً له وأسلافاً، ويفتخر بهم أكثر مما يفتخر بأجداده الحقيقيين.
وكذلك الفرنسي المثقف: فإنه لا يتساءل عما إذا كان يجري في عروقه حقيقة شيء من دم شارلمان أو راسين أو فولتير. ومع هذا فهو يعتبر هؤلاء كلهم أجداداً له وأسلافاً، ويعتز بهم أكثر مما يعتز ببني أسرته الأقربين.
إن المهم في القرابة والنسب ليس رابطة الدم في حد ذاتها، بل هو الاعتقاد بها والنشوء عليها. وهذا هو الواقع، بالنسبة للأفراد والجماعات على حدٍ سواء: إن الاعتقاد بوحدة الأصل – والشعور بالقرابة – يعمل عملاً هاماً في تكوين الأمم، سواء أكان ذلك موافقاً للحقيقة أو مخالفاً لها، لأن القرابة بين أفراد الأمم تكون قرابة نفسانية معنوية، أكثر مما تكون جسمانية ومادية.
-2-
لقد قررنا أن القرابة في الأمم تكون نفسانيةً ومعنويةً أكثر مما تكون جسمانيةً ومادية.
ومن البديهي أنه لا يجوز لنا أن نكتفي بتقرير هذه الحقيقة، بل يجب علينا أن نسعى إلى تعليلها أيضاً: يجب علينا أن نبحث في الوقت نفسه عن كيفية تولد هذه القرابة المعنوية، وأن نتحرى الأسباب الموجبة لها، والعوامل المؤدية إليها.
إن هذه الأبحاث والتحريات توصلنا إلى الحقيقة التالية:
إن أهم العوامل التي تؤدي إلى تكوين القرابة المعنوية التي يشعر بها الأفراد في الأمم المختلفة، هي اللغة والتاريخ، فإن الاعتقاد بوحدة الأصل إنما يكون في الدرجة الأولى من الوحدة في اللغة والاشتراك في التاريخ.
فلندرس تأثير كل واحد من هذين العاملين الهامين بشيء من التفصيل:
اللغة: هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس، لأنها أولاً، واسطة التفاهم بين الأفراد، ثم هي فضلاً عن ذلك، آلة التفكير. لأن التفكير – حسب تعبير أحد الحكماء – ما هو إلا تكلم باطني، والتكلم إنما هو نوعٌ من التفكير الجهري. وأخيراً، إن اللغة هي واسطة لنقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء، ومن الأجداد إلى الأحفاد، ومن الأسلاف إلى الأخلاف.
هذا، واللغة التي ينشأ عليها الإنسان، تكيف تفكيره بكيفيات خاصة، كما أنها تؤثر في عواطفه أيضاً تأثيراً عميقاً؛ فإن اللغة التي يسمعها المرء منذ صغره، اللغة التي تخاطبه بها أمه منذ أوائل حياته الواعية، لغة التنويمات والأغاني التي تهز مشاعره منذ طفولته، تؤثر بطبيعة الحال تأثيراً عميقاً في تكوينه العاطفي. ولذلك تجد أن وحدة اللغة توجد نوعاً من الوحدة في التفكير وفي الشعور، وتربط الأفراد بسلسلة طويلة ومعقدة من الروابط الفكرية والعاطفية. ونستطيع أن نقول لذلك: إنها تكوِّن أقوى الروابط التي تربط الأفراد بالجماعات.
وبما أن اللغات تختلف بين قومٍ وقوم، فمن الطبيعي أن نجد مجموع الأفراد الذين يشتركون في اللغة، يتقاربون أكثر من غيرهم، ويتماثلون ويتعاطفون أكثر من سواهم، ويتميزون عمَّن عداهم، فيؤلفون بذلك أمةً متميزة من الأمم الأخرى.
لذلك نستطيع أن نقول: إن الأمم يتميز بعضها من بعض – في الدرجة الأولى – بلغتها، وإن حياة الأمم تقوم، قبل كل شيء، على لغاتها.
وإذا أضاعت أمة من الأمم لغتها، وصارت تتكلم بلغةٍ أخرى، تكون قد فقدت الحياة واندمجت في الأمة التي اقتبست عنها لغتها الجديدة.
كثيراً ما يرينا التاريخ، أن بعض الأمم تستولي على أمةٍ أخرى، وتخضعها لإرادتها، وتسير شؤونها كما تشاء. إن هذا الاستيلاء يفقد الأمة المغلوبة استقلالها، ولكنه لا يمس كيانها، ما دامت الأمة المذكورة محافظة على لغتها الخاصة بها، وما دامت متميزة من الأمة المستولية عليها بهذه اللغة الخاصة. وقد قال أحد المفكرين: “إن الأمة المحكومة التي تحافظ على لغتها، تشبه السجين الذي يمسك بيده مفتاح سجنه”. إنها تستطيع أن تفلت من سجنها هذا، فتسترد حريتها واستقلالها في يومٍ من الأيام، لأنها تبقى حية بحياة لغتها، وتظل محافظةً على كيانها كأمة، برغم أنها تكون قد فقدت شخصيتها كدولة. ولكن الأمة المذكورة إذا فقدت – بمرور الزمان – لغتها الخاصة واقتبست وتبنت لغة الدولة المستولية عليها، تكون قد فقدت الحياة بتاتاً، واندمجت في كيان الأمة التي أعطتها لغتها الجديدة، فلا يبقى ثمة أمل لعودتها إلى الحرية والاستقلال.
يتبين من ذلك كله: أن اللغة هي روح الأمة وحياتها، إنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري، وهي من أهم مقوماتها ومشخصاتها.
أما التاريخ فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها. فإن كل أمة من الأمم، إنما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص.
عندما أقول التاريخ، لا أقصد بذلك التاريخ المدون في الكتب – التاريخ المدون بين صحائف المطبوعات والمخطوطات – بل أقصد بذلك التاريخ الحي في النفوس، الشائع في الأذهان، المستولي على التقاليد.
إن وحدة هذا التاريخ تولد تقارباً في العواطف والنزعات، إنها تؤدي إلى تماثل في ذكريات المفاخر السالفة وفي ذكريات المصائب الماضية، وإلى تشابه أماني النهوض وآمال المستقبل.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن الذكريات التاريخية تقرب النفوس، وتكوِّن بينها نوعاً من القرابة المعنوية. وتكون هذه القرابة المعنوية أشد تأثيراً من القرابة المادية بدرجات.
والأمة المحكومة التي تنسى تاريخها، تكون قد فقدت شعورها ووعيها. وهذا الشعور والوعي، لا يعودان إليها إلا عندما تتذكر ذلك التاريخ وتعود إليه.
ولهذا السبب، نجد أن الأمم المستولية والحاكمة، تعمد قبل كل شيء إلى مكافحة تاريخ الأمة المحكومة، وتبذل ما استطاعت من الجهود لأجل إقصاء ذلك التاريخ عن الأذهان. إنها تسعى – من جهة – إلى تشويه هذا التاريخ لأجل تجريده من قوة الجذب والتأثير، كما تعمل – من جهة أخرى – على إلهاء الأذهان بوقائع تاريخها هي وبهر الأنظار بشعشعة التاريخ المذكور.
وأما اليقظات القومية، بعد عهود الحكم الأجنبي، فتبدأ عادة – بعكس ذلك – بتذكر التاريخ القومي وبالاهتمام به اهتماماً خاصاً.
يتبين من كل ما تقدم، أن اللغة والتاريخ هما العاملان الأصليان اللذان يؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات. والأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها، وأصبحت في حالة من السبات، وإن لم تفقد الحياة. وتستطيع هذه الأمة أن تستعيد وعيها وشعورها بالعودة إلى تاريخها القومي والاهتمام به اهتماماً فعلياً، ولكنها إذا ما فقدت لغتها، تكون عندئذ قد فقدت الحياة ودخلت في عداد الأموات، فلا يبقى سبيل إلى عودتها إلى الحياة، فضلاً عن استعادتها الوعي والشعور.
-3-
ولكن العوامل التي تؤثر في تكوين الأمم تميز بعضها من بعض لا تنحصر في اللغة والتاريخ؛ بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في ذلك تأثيراً واضحاً، فتقوي تارة تأثير العاملين الأساسيين المذكورين آنفاً، وتضعف ذلك التأثير طوراً.
إن أهم هذه العوامل، هو الدين.
لأن الدين يولد نوعاً من “الوحدة” في شعور الأفراد الذين ينتمون إليه، ويثير في نفوسهم بعض العواطف والنزعات الخاصة التي تؤثر في أعمالهم تأثيراً شديداً. فالدين يعتبر من هذه الوجهة من أهم الروابط الاجتماعية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، وتؤثر بذلك في سير السياسة والتاريخ.
غير أن تأثير الدين في تسيير السياسة والتاريخ وتكوين القومية والوطنية – على هذا المنوال – لا يجري على وتيرة واحدة في كل الأحيان. بل إن هذا التأثير يختلف باختلاف الأديان من جهة، وباختلاف العصور والأدوار من جهة أخرى.
ولذلك نستطيع أن نقول إن علاقة الأديان بالقوميات من المسائل المعضلة التي تحتاج إلى بحث عميق وتحليل دقيق.
يجب علينا أن نلاحظ في هذا الصدد – قبل كل شيء – أن الأديان تنقسم من الوجهة الاجتماعية إلى صنفين أساسيين: الأديان القومية، والأديان العالمية.
ذلك لأن بعض الأديان تنحصر بقوم أو شعب أو مدينة. ومعتنقو هذه الأديان يعتقدون بإله خاص بهم دون غيرهم، ويزعمون أنه يحميهم دون سواهم. ولذلك فإنهم لا يسعون إلى نشر دينهم ومعتقدهم بين الأنام، بل بعكس ذلك يسدون أبواب هذا الدين في وجوه سائر الأقوام. ولا حاجة إلى القول إن أمثال هذه الديانات الخاصة، تكون بمثابة أديان قومية بكل معنى الكلمة. ومن الطبيعي أن الرابطة التي تتولد منها تنضم إلى تأثير اللغة والتاريخ، وتقوى الروابط التي تربط الأفراد بعضهم ببعض. ولذلك كله نجد أن الحياة الدينية لدى تلك الأقوام، لا تنفصم عن الحياة السياسية أبداً، فتزيد أفراد القوم ترابطاً على ترابطهم وتماسكاً على تماسكهم. فنستطيع أن نقول إن الروابط الدينية تكون في هؤلاء الأقوام من عناصر القومية الأساسية.
من المعلوم أن الديانة الموسوية، وكثيراً من الأديان الوثنية القديمة كانت من هذا القبيل.
ولكن الأحوال تختلف عن ذلك اختلافاً كبيراً في الأديان العالمية لأن هذه الأديان لا تختص بشعب من الشعوب أو أمة من الأمم، بل بعكس ذلك تفتح أبوابها لجميع الأقوام، وتدعو إلى اعتناقها جميع الأنام، على اختلاف لغاتهم وأجناسهم. إن هذه الأديان إنما تسعى إلى الانتشار بين أكبر عدد ممكن من الأفراد والجماعات، وتميل إلى إيجاد رابطة أعم من روابط اللغة والتاريخ، وتخلق بذلك نوعاً من الجو الأممي الذي يحيط بكثير من الأقطار ويغمر كثيراً من الأقوام.
ومن البديهي أن أصحاب هذا الصنف من الديانات كثيراً ما يميلون إلى معارضة القوميات.
ومن المعلوم أن الديانة المسيحية والديانة الإسلامية من جملة هذه الأديان العالمية التي مثلت دوراً هاماً في سير التاريخ.
***
قلنا إن هذه الديانات تسعى إلى خلق نوع من الجو الأممي الذي يجمع مختلف الأقوام، ويغمرها غمراً. ولكن، يجب علينا أن نتساءل: هل نجحت الأديان العالمية التي ذكرناها في ما كانت تنزع إليه في هذا الصدد؟ وهل أوجدت بهذه الصورة رابطة أقوى وأعم من الروابط القومية الأخرى؟
إن التاريخ يشهد على عكس ذلك تماماً: إن الأديان العالمية لم تنجح في ذلك، إلا داخل نطاق محدود، لمدة قصيرة جداً. إنها لم تستطع أن تمزج الأقوام مزجاً حقيقياً، وأن تزيل الفوارق التي تميز بعض أولئك الأقوام من بعض تماماً، إلا بقدر ما نجحت في نشر لغة من اللغات، وبقدر ما أوجدت من التبدل في حدود القوميات.
فالديانة المسيحية مثلاً، حاولت أن تشمل العالم بأجمعه، ومع هذا، فإنها لم تحل دون تفرق المسيحيين أنفسهم إلى أمم ودول عديدة، ودون تخاصم وتحارب هذه الأمم والدول في ما بينها.
وكذلك الأمر في الإسلام؛ من المعلوم أن الدعوة الإسلامية أيضاً سعت إلى جمع الأنام تحت راية القرآن الكريم، ولكن التاريخ يشهد على أن المسلمين أنفسهم لم يبقوا متحدين تماماً، إلا لمدة محدودة جداً، وأن انتشار الإسلام لم يحل دون تفرق المسلمين إلى أمم ودول، ودون حدوث منازعات ومخاصمات بين الدول الإسلامية نفسها.
ذلك أن المبادئ النظرية شيء، والحقائق الراهنة شيء آخر؛ وما يرد في التعاليم الدينية شيء، وما يتحقق في الحياة الاجتماعية شيء آخر. والأديان العالمية لم تستطع أن توحد القوميات، حتى في الأدوار التي وصلت سلطتها خلالها إلى أقصى الدرجات.
ولا غرابة في ذلك أبداً، لأن الأديان نفسها كثيراً ما تتفرق إلى مذاهب متنوعة. والقوميات المختلفة كثيراً ما تجد في الاختلافات المذهبية سبيلاً للحفاظ على كيانها، على الرغم من الجو الأممي الذي تخلقه الأديان العالمية، وذلك عن طريق اعتناق مذهب جديد، وحمل راية مذهب خاص.
زد على ذلك أن الدين، ولو كان أمراً باطنياً في حد ذاته، فإنه لا يخلو من المظاهر الخارجية، ولا يستغني عن الوسائط المادية، فيُخضع ذلك لقوانين الحياة الاجتماعية، كما يتضح من التفاصيل التالية:
أولاً: إن التعاليم الدينية تستمد قوتها من كتاب خاص، وهذا الكتاب إنما يكون بلغة من اللغات.
ثانياً: هذه التعاليم تفرض بعض الطقوس والصلوات، وهذه أيضاً إنما تكون بلغة من اللغات.
ثالثاً: إن الأديان تتطلب تشييد بعض المعابد والمباني لإقامة شعائر الدين. وهذه المعابد لا بد أن يتولى شؤونها بعض الرجال، وهؤلاء الرجال إنما يتكلمون بلغة من اللغات، وينتسبون إلى أمة من الأمم.
يظهر من ذلك كله أن للدين علاقةً قويةً باللغة، فإن كل دين من الأديان يقوم على لغة، ويعمل بطبيعته على نشر تلك اللغة. إن اللاتينية انتشرت بواسطة الديانة المسيحية أكثر مما انتشرت بواسطة الفتوحات الرومانية، واللغة العربية انتشرت بواسطة الدين الإسلامي، أكثر مما انتشرت بحكم السياسة والإدارة.
ومما يظهر علاقة الدين باللغة بوضوح أعظم، أن اللغة عندما تأخذ في التلاشي وتسير نحو الإندراس، تاركةً محلها للغة عامية متفرعة منها، أو للغة أجنبية متغلبة عليها، تجد لنفسها ملجأً أخيراً في المعابد وفي الطقوس الدينية والصلوات. فإن اللغة اللاتينية مثلاً، ما تزال تُردَّد وترتل في الكنائس الكاثوليكية خلال الطقوس الدينية، مع أنها قد خرجت عن نطاق تخاطب الناس، ودخلت في عداد اللغات الميتة منذ عدة قرون، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة السريانية.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن الدين إذا اتحد مع لغة من اللغات قوَّى جذور تلك اللغة وحافظ على كيانها، أكثر من جميع العوامل الاجتماعية الأخرى.
ومما يلاحظ في سير الوقائع التاريخية، أن الديانة عندما تتفرع إلى مذاهب عديدة، قد تربط مقدرات بعض هذه المذاهب ببعض اللغات بوجه خاص. وتنتشر اللغة المذكورة مع انتشار المذهب الذي تبناها، وتتوسع سيطرة الأمة التي كانت الصاحبة الأصلية للغة المذكورة بفضل هذا الانتشار. فإن الإمبراطورية الرومانية، مثلاً، عندما انشطرت إلى غربية وشرقية، تمذهب كل شطر منها بمذهب مسيحي خاص، وارتبط بلغة خاصة: إن الإمبراطورية الغربية صارت حامية الكاثوليكية، واتخذت اللاتينية لغة لسياستها ولديانتها، بينما الإمبراطورية الشرقية تبنت المذهب الأرثوذكسي، واتخذت اليونانية لغة لسياستها وديانتها، فتقوّى نفوذ اللاتينية بفضل الكاثوليكية، كما أن نفوذ اليونانية انتشر وتقوّى بفضل الأرثوذكسية.
وقد حدث ما يشبه ذلك عند ظهور المذهب البروتستانتي أيضاً: فإن الإصلاح الديني الذي بشر به ودعا إليه لوثر الشهير، لم يكتفِ بإحداث انقلاب مذهبي خطير فحسب، بل أوجد – بجانب هذا الانقلاب المذهبي – انقلاباً سياسياً واجتماعياً خطيراً، لأن الكاثوليكية كانت قد أبقت الإنجيل باللغة اللاتينية وحدها، وجعلت اللاتينية لغة الصلوات كلها. ولكن لوثر حينما ثار على الكاثوليكية – وعلى البابوية التي تمثلها – قائلاً بضرورة ترجمة الإنجيل إلى اللغات المحلية ليتمكن الناس من قراءته وفهمه مباشرة، قد أحدث انقلاباً قومياً في ظل الانقلاب الديني الذي جهر به ودعا إليه، لأنه وضع بذلك حداً لسيطرة اللغة اللاتينية – التي كانت قائمة في أوروبا الغربية على معنوية الإنجيل وسلطته – كما أنه قضى قضاءً مبرماً على نفوذ الأمم اللاتينية، ذلك النفوذ الذي كان يستمد قوته من لغة الصلوات الدينية، وطبيعة التشكيلات البابوية، وفسح بكل ذلك مجالاً واسعاً لجعل المذاهب والكنائس قومية بكل معنى الكلمة.
ومما يبرهن على ذلك برهنة قطعية، ما حدث فعلاً بعد الحروب المذهبية التي استمرت عقوداً طويلة من السنين. فإن الأمم التي كانت تتكلم باللغات اللاتينية، حافظت على كثلكتها، وأعرضت عن المذهب البروتستانتي الجديد، في حين أن الأمم الجرمانية والأنكلوساكسونية أقبلت، بعكس ذلك، على المذهب الجديد إقبالاً عظيماً، ولم يشذ عن هذا التيار من الطرفين إلا جماعات قليلة جداً.
إن مفكري الألمان سعوا إلى إظهار هذا العامل القومي الذي مثّل دوراً هاماً في سير الإصلاح الديني، حتى أن المفكر الشهير فيخته قال في إحدى خطبه الحماسية على لسان رجال الإصلاح الديني، ما مؤداه: “إننا لم نكن ندرك عندئذ الدافع الحقيقي الذي كان يدفعنا في كفاحنا. ولكن الآن صرنا نفهم بكل وضوح: إن الثورة الدينية التي قمنا بها، إنما كانت صفحة من صفحات مقاومتنا لسيطرة الإمبراطورية الرومانية، ومحاولة جديدة للتخلص من تلك السيطرة، والاستقلال عنها…”.
وعلى كل حال، فمما لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، أن الكنائس البروتستانتية في جميع البلاد الأوروبية اتخذت شكلاً قومياً تماماً.
هذا وقد حدث حادث مماثل لذلك في وقت أقرب من زماننا هذا، وفي بلاد أقرب إلى بلادنا هذه، أعني بذلك ما حدث في البلقان من النزاع الكنائسي في أواسط القرن التاسع عشر. من المعلوم أن المذهب الأرثوذكسي كان اعتمد على النص اليوناني من الإنجيل، وذلك أدى إلى اصطباغ الكنيسة الأرثوذكسية بصبغة يونانية. وهذه الصبغة تقوّت بوجه خاصة في بلاد البلقان، وصارت الكنيسة اليونانية تسيطر على الأمم المسيحية في مقدونيا وبلغاريا سيطرة معنوية شديدة، من الوجهة الدينية، على الرغم من أنها كانت هي بدورها تحت سيطرة الدولة العثمانية من الوجهة السياسية. وحينما أخذ البلغار ينهضون من رقادهم ويتطلعون إلى الاستقلال، وجدوا أنفسهم تحت سيطرتين مختلفتين: سيطرة الدولة العثمانية السياسية، وسيطرة الكنيسة اليونانية الدينية. ولاحظوا أن سيطرة الدولة العثمانية ما كانت تمس كيانهم القومي مباشرة، لأنها ما كانت تتعرض للغتهم الخاصة، في حين أن سيطرة الكنيسة اليونانية كانت تمس كيانهم القومي مباشرة، لأنها كانت تنشر اللغة اليونانية بينهم، كما أنها كانت ترسل الكهنة اليونانيين إلى أحيائهم وتدخلهم إلى صميم عائلاتهم. وذلك كان قد أدى إلى “يوننة” قسم غير قليل منهم. ولهذا بدأت النهضة القومية البلغارية، أولاً بالقيام ضد الكنيسة اليونانية، وضد رجالها اليونانيين، وبمطالبة ملحة بتحويل لغة الصلوات من اليونانية إلى البلغارية، ولتولية شؤون الكنائس والمراتب الدينية رجالاً من البلغار أنفسهم، عوضاً عن اليونانيين الذين كانوا قد احتكروا تلك المراتب احتكاراً.
قام البلغار يطالبون بذلك مطالبة عنيفة، وحينما رأوا إصرار البطريركية اليونانية على إبقاء ما كان على ما كان عليه، لم يترددوا في الانفصال عنها، وأوجدوا كنيسة قومية قائمة بنفسها عرفت باسم “الأكسارخية” وذلك بالرغم من “الحرم” الذي أعلنته البطريركية المذكورة ضد الكنيسة الجديدة.
إن البلغار وضعوا بذلك حداً للخلافات التي كانت تظهر في بلادهم بين السياسة القومية وبين السياسة الدينية، وضمنوا استقلالهم القومي عن الكنيسة اليونانية، قبل أن يتموا استقلالهم السياسي عن الدولة العثمانية.
إني اعتقد أن هذه الأمثلة كافية لإظهار قوة النزعات القومية تجاه الروابط الدينية، وللبرهنة على أن الأديان العالمية نفسها لا تستطيع أن تقضي على النزعات القومية.
***
هذا، ولا بد لي أن أشير إلى ظاهرة اجتماعية أخرى، لإتمام بحثي في علاقة الديانة بالقومية. من المعلوم أن الأمم الحاكمة تسعى إلى نشر لغتها بين أفراد الأمم المحكومة لها، ومن البديهي أن انتشار لغة الحاكمين بين المحكومين قد يؤدي إلى تمثيل هؤلاء تمثيلاً تاماً. (التمثيل، بمعنى الاستيعاب والهضم – الناسخ).
إن الدين يمثل دوراً هاماً خلال النضال الذي يحدث – على هذا المنوال – بين لغة الحاكمين وبين لغة المحكومين أيضاً. فإذا كان الحاكم والمحكوم من دين واحد، يكون التمثيل أسهل، ويتم بسرعة أعظم، متى تهيأت له الدوافع والأسباب؛ أما إذا اختلف الحاكم عن المحكوم في الدين – زيادة على اختلافه في اللغة – فيكون التمثيل أصعب من ذلك بكثير.
إن الفرنسيين الذين كانوا قد اعتنقوا المذهب البروتستانتي ثم هاجروا إلى ألمانيا في عهود الاضطهادات الدينية، اندمجوا بالألمان اندماجاً تاماً، ولم يحافظوا على شيء من مميزاتهم القومية أبداً.
والأتراك والتتر والآسيويون الذين عاشوا تحت حكم القيصرية الروسية حافظوا على لغتهم وقوميتهم بفضل اختلاف دياناتهم عن ديانة الحاكمين عليهم، غير أن من كان قد تنصر منهم لم يلبث طويلاً حتى اندمج بالروس اندماجاً أدى إلى “تروّس” تام.
***
يتبين من كل ما تقدم أن الروابط الدينية لا تخلو من التأثير في الروابط القومية، وتأثيرها هذا قد ينضم إلى تأثير اللغة والتاريخ، فيقوّي الروابط القومية، وقد يخالف التأثير المذكور فيضعف تلك الروابط.
ومهما كان الأمر، فإن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية، كما أن تأثيرها في تسيير السياسة، لا يبقى متغلباً على تأثير اللغة والتاريخ.
إن هذا التأثير يشتد أو يتراخى، يتقوى أو يتلاشى، حسب تطور علاقة الدين باللغة، ويبقى أمراً ثانوياً في تكوين القوميات بالنسبة إلى تأثير اللغة والتاريخ.
-4-
إننا نستطيع أن نلخص أبحاثنا السابقة بما يلي:
إن العاملين الأساسيين في تكوين القومية هما اللغة والتاريخ.
ونستطيع أن نضيف إلى ذلك ما يأتي:
لا يتغلب عامل من العوامل الاجتماعية على تأثير اللغة والتاريخ في هذا المضمار، سوى عامل الاتصال الجغرافي، لأن فقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلاً بعضها عن بعض، رغم اتحادها في اللغة والتاريخ. زد على ذلك، أنه قد يؤدي – بمرور الزمن – إلى تباعد وتباين في اللغة والتاريخ أيضاً.
إن هذه النتيجة التي تظهر من تتبع الحوادث الاجتماعية واستعراض الوقائع التاريخية، لم ترق لرجال الدول التي اعتادت أن تحكم بعض الشعوب بالرغم من اختلاف لغاتها وتباين تواريخها، ولذلك مفكرو تلك الدول يبحثون عن نظرية تبرر بقاء الوضع القائم في بلادهم وتوصلوا إلى نظرية جديدة، عرفت باسم مشيئة التعاشر ورغبة الاتحاد.
قالوا إن أهم العوامل التي تمثل دوراً حاسماً في تكوين القومية، هو مشيئة الجماعات في البقاء متحدين، وفي تكوين أمة متحدة ذات شخصية واستقلال.
إنهم عللوا نظريتهم هذه بالملاحظات التالية: من الأمور البديهية أن الروابط القومية هي روابط معنوية، ومن الأمور المسلم بها أن أهم ما في مقومات شخصية الإنسان هو الإرادة والمشيئة. ونستطيع أن نقول لذلك: إن أهم ما في مقومات شخصية الجماعات أيضاً هو الإرادة والمشيئة: إرادة القوم في الحياة المعشرية، رغبتهم في الاتحاد، مشيئتهم في تكوين أمة واحدة ودولة واحدة، هي التي تكوّن روح القومية ومحورها الأساسي. والأمة، إنما هي مجموع الأفراد الذين “يريدون” أن يعيشوا عيشة معشرية، متحدين متضامنين، مؤلفين دولة مستقلة…
ولكن هذه النظرية التي تبدو خلابة للوهلة الأولى، تنهار بسرعة، حينما يتعمق المرء في درس القضية بإنعام: “مشيئة الجماعة” تعبير مجرد تماماً، عن أمر غامض جداً، ذلك لأن هذه “المشيئة” لا تظهر إلا بالتصويت. ومن المعلوم أن التصويت يتأثر كثيراً بالاعتيادات والدعايات، لذلك تتحول بسرعة، وذلك يخرج “الأمة” من عداد “الجماعات الطبيعية”، ويجعلها شبيهة بالأحزاب المصطنعة.
إن أصحاب نظرية “المشيئة” اضطروا لذلك إلى تعديل تعريفهم، وإتمامه بقولهم “المشيئة التي تظهر بصورة فعلية”، ولكن التاريخ يعطينا أمثلة عديدة تكفي لتنفيذ النظرية المذكورة بهذا الشكل المعدل أيضاً: مثلاً، إن الولايات الجنوبية في أمريكا كانت أرادت الانفصال عن ولايات الشمال، وكانت أظهرت إرادتها هذه بصورة فعلية خلال الحروب التي خاضت غمارها ضد الجيوش الشمالية، ومع هذا فإنها لم تؤلف أمة خاصة مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية.
في الواقع إن أصحاب النظرية المذكورة حاولوا أن يدفعوا أمثال هذه الانتقادات بإضافة قيد جديد على تعريفهم الأساسي، فقالوا: “المشيئة التي تظهر بصورة فعلية وتستمر مدة طويلة”. ولكن من البديهي أن تعبير “مدة طويلة” تعبير غامض لا يصلح أن يكون أساساً لنظرية علمية.
وزيادة على ذلك، فإن الرغبة والمشيئة، من الأمور النفسانية التي لا تخلو من دواعٍ وأسباب، والنهج العلمي يتطلب دوماً استكشاف هذه الدواعي واستطلاع تلك الأسباب، فإذا سلمنا ب”أن الأمة هي جماعة من الناس الذين يريدون أن يعيشوا متحدين، وأن يكوّنوا دولة مستقلة” وجب علينا التساؤل في الوقت نفسه:
ما هي الأسباب والعوامل التي تدفع بعض الجماعات إلى مثل هذه الرغبة، وتوّلد فيهم مثل هذه الإرادة؟
لماذا يرغب الأفراد في أن يعيشوا متحدين كأمة متميزة، ولماذا يريدون أن يؤلفوا دولةً مستقلة؟
ما هي العوامل التي تولد في نفوس القوم الرغبة في الاتحاد أو الانفصال والتي تجعلهم يريدون أن يعيشوا متحدين أو متفرقين؟
ولا حاجة للقول إن هذه الأسئلة تعيدنا إلى النقطة التي كنا بدأنا منها درسنا وبحثنا في عناصر القومية، وتوصلنا في آخر الأمر إلى النتيجة التي كنا حصلنا عليها قبلاً.
إن أهم العوامل التي تولد في النفوس رغبة الاتحاد، فتؤدي إلى تكوين القومية وتأليف الأمة، إنما هي: وحدة اللغة والتاريخ.
ذيل
-1-
بمناسبة تعبير وحدة التاريخ الذي استعملته مراراً خلال بحثي هذا أود أن أشير إلى أمر ذي بال:
ماذا يجب أن نفهم من تعبير وحدة التاريخ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال إجابة دقيقة من الأمور الصعبة جداً، لأن “وحدة التاريخ” بمعناها المطلق التام، مما لا يتحقق أبداً في حياة أمة من الأمم، ولا دولة من الدول. ففي كل دولة توجد بعض الأقطار التي لم يتحد تاريخها مع تاريخ بقية أقطارها إلا منذ مدة قصيرة؛ توجد بعض الأقطار التي يختلف تاريخها عن تاريخ الأقطار الباقية قليلاً أو كثيراً، وذلك ليس في الدول والأمم التي اتحدت حديثاً فحسب، بل في الدول والأمم التي أتمت وحدتها القومية منذ عدة قرون أيضاً. وإذا أنعمنا النظر في تاريخ فرنسا مثلاً – وهي التي سبقت سائر البلدان الأوروبية إلى تكوين وحدة قومية – وجدنا فيها عدة مقاطعات لم تلتحق بها إلا منذ بضعة قرون، وعلمنا أن قسماً من مقاطعاتها كان قد حارب مقاطعاتها الأخرى حروباً طويلة، استمرت عدة قرون.
فعندما نقول “وحدة التاريخ” يجب ألا نفهم من ذلك “الوحدة التامة في جميع أدوار التاريخ” بل يجب أن نفهم من ذلك “الوحدة النسبية والغالبة التي تتجلى في أهم صفحات التاريخ“: أهم صفحات التاريخ التي أوجدت ثقافة الأمة الأساسية، وأعطتها لغتها الحالية، وطبعتها بطابعها الخاص… وإلا لما استطعنا أن نجد أمة واحدة، كانت “موحدة” على طول تاريخها توحيداً تاماً.
فقد قال أحد المفكرين: “على كل أمة أن تنسى قسماً من تاريخها”.
أنا لا أشك في أن هذا القول ينطوي على حظ كبير من الحقيقة. فإن الوحدة الحقيقية في أمة من الأمم لا يمكن أن تُضمن إلا بنسيان قسم من الوقائع التي حدثت لها خلال تاريخها الطويل.
هذا، وأرى أن أصرح بأنني عندما أقول نسيان قسم من وقائع التاريخ لا أقصد بذلك حذف أخبار تلك الوقائع من الكتب، بل أقصد من ذلك إهمال تلك الوقائع وإبعادها عن منطقة “الفكر الفعالة” وإخراجها من عداد “الفكر القوانية” وتغليب التاريخ المشترك عليها.
فيجب علينا ألا ننسى أبداً أنه ما من أمة ولا دولة، لا يكون لبعض أقسامها تاريخ خاص، يختلف عن تاريخ أقسامها الأخرى، ولو في بعض الأدوار من تاريخها.
ويجب أن نعلم العلم اليقين، أن التاريخ يعمل عمله الفعّال في تكوين الأمم، على الرغم من أمثال هذه الاختلافات العارضة الطفيفة.
-2-
وبمناسبة قصة تأثير الدين في تكوين القوميات، أود أن ألفت الأنظار إلى أمر جوهري أخر:
ينظر بعض الناس إلى علاقة المسلمين بالمسيحيين في الوطن العربي الآن بمنظار متوارَث من عهود الحروب الصليبية، أو مستعار من عهد الإدارة العثمانية، وإني اعتقد بأن في كلتا النظرتين خطأً فاحشاً جداً.
إن الحروب الصليبية كانت قد حدثت في عهدٍ كان فيه الوعي القومي مفقوداً في كل البلدان، وكان فيه الدين مسيطراً على كل شيء في جميع أنحاء العالم. ومن الواضح الجلي أن الحياة الاجتماعية والسياسية في هذا العصر تختلف عن ذلك اختلافاً كلياً، في العالم الإسلامي وفي العالم المسيحي على حدٍ سواء.
كما أن علاقة المسلم بالمسيحي في الوطن العربي الآن تختلف اختلافاً جوهرياً عما كانت عليه في العهد العثماني، لأن الفرق بين المسلم والمسيحي في الدولة العثمانية لم يكن فرقاً في الدين فحسب، بل كان فرقاً في اللغة والتاريخ والقومية أيضاً، فإن كلمة “مسلم” في الدولة المذكورة كانت تعني – في الدرجة الأولى – التركي، وأما كلمة “مسيحي” فكانت تعني – في الدرجة الأولى – الأرمنى والرومي والبلغاري… ومن المعلوم أن هؤلاء كانوا يختلفون عن الأتراك اختلافاً كلياً، من حيث اللغة والعنصرية والتاريخ أيضاً، إذ كان لكل واحد منهم لغة خاصة يتمسك بها، وتاريخ خاص يدرسه ويتوق إلى إحيائه، وملوك سابقون وفتوحات ماضية يعززون ويمجدون ذكراهم وذكراها على الدوام.
ومن البديهي أن ما حدث في العهد العثماني في ذلك الجو المشبع بأنواع الخلافات لا يمكن أن يحدث في الوطن العربي الآن. تلك الخلافات التي كانت تتحد وتمتزج خلالها النزعات الدينية مع النزعات القومية فتزيدها اضطراماً، لا يمكن أن تحدث في الوطن العربي، حيث يتكلم المسلم والمسيحي بلغة واحدة، ويغنيان ويرتلان ويصليان بلغة واحدة، ويعززان ويمجدان تاريخاً طويلاً واحداً، ويشتركان في تشييد صرح أدب جديد واحد، وثقافة راقية عصرية واحدة.
ولعل تاريخ الثورة العربية أبرز دليل على ذلك وأقوى برهان. هذه حقيقة جوهرية، يجب أن نضعها نصب أعيننا على الدوام.