June 14th 2025 | كتبها
admin

إبراهيم علوش – الميادين نت
لا يمكن القول إن الضربة الكبيرة التي شنها الكيان الصهيوني على إيران فجر الجمعة كانت غير متوقعة، لا بسبب التهويل والتهديد المستمرين، فهذان كان يمكن تصريفهما في سياق الضغوط على إيران للرضوخ لمطلب عدم تخصيب اليورانيوم أبداً في المفاوضات النووية، بل لأن ضربتين إيرانيتين، جاءت ثانيتهما عشية ليلة 13/14 نيسان / إبريل العام الفائت، غيّرتا قواعد الاشتباك وثبتتا قواعد ردع جديدة نقلت ميزان القوى إقليمياً إلى مستوى التوازن الاستراتيجي.
وفي سياق الهجوم العام على محور المقاومة وركائزه في المنطقة، من غزة إلى لبنان إلى سورية، وصولاً إلى العدوان المستمر على اليمن، كان لا بد للكيان الصهيوني من أن يتبع استراتيجية “محو آثار العدوان”، إذا صح التعبير، مع أنه البادئ فيه تاريخياً، وفي سياق الحدث الراهن، كما في استهداف السفارة الإيرانية في دمشق التي جاءت الضربة الإيرانية الثانية مثلاً رداً عليه.
لكنّ العدو الصهيوني الذي يعتنق عقيدة الأقلية المتفوقة والمنغلقة على ذاتها في بروج “غيتو” ظنّه حصيناً، في محيط هائل عربي ومسلم، لا يستطيع الحفاظ على وجوده، بموجب ذلك المنطق، إلا إذا أخضع محيطه وطوّعه وبرمجه على تقبل “دونيته” بخنوع.
يتضمن ذلك، فيما يتضمنه، تثبيت “حق” العدو الصهيوني في استهداف من أو ما يشاء، أنّى يشاء، كيفما يشاء، وحيثما يشاء، في سياق ما يراه صراع بقاء من أجل الحفاظ على تفوقه استراتيجياً، لأن خسارة ذلك التفوق يمثل، من منظوره، بداية النهاية وإيذاناً بحلول المذبحة الكبرى.
يعني ذلك أن استراتيجية الأمن القومي للكيان الصهيوني لا يمكنها أن تترك حيزاً لمبدأ التوازن الاستراتيجي، سواء تعلق ذلك بمبدأ الردع الاستراتيجي الذي ثبتته الضربتان الإيرانيتان، بغض النظر عما يشاع إعلامياً عن قلة فعاليتهما عسكرياً، أو تعلق بهزة الصدمة والرعب التي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى” المجيدة، أو بامتلاك دول الجوار قدرات عسكرية نوعية، ولو كانت مطبّعة، ومن هنا التوتر الذي يرشح في إعلام العدو الصهيوني إزاء امتلاك الجيش المصري أسلحة متقدمة تكنولوجياً، ومن هنا أيضاً الإصرار على نزع سلاح المقاومة في لبنان، وعلى شطب البرنامج النووي الإيراني.
لذلك، نبهتُ مراراً العام الفائت بأن الضربة “الإسرائيلية” الكبيرة، رداً على الرد الإيراني على استهداف السفارة الإيرانية في دمشق، مقبلة بالضرورة، وأنّ نَفَس الحوار في الكيان الصهيوني يتجه نحو الرد، كما جاء في المواد الآتية:
أ – مادة “هل يقتصر الرد “الإسرائيلي” على 3 مسيرات صغيرة في أصفهان؟“، في 22/4/2024، والتي وَرَدَ فيها حرفياً أن ملف الضربة الكبيرة على إيران لم يُغلق بعد، وإنما تأجل، وأن رسالة المسيرات الثلاث هي أن “البقية تأتي، وسوف تأتي بالضرورة، ويجب أن يبقى المحور مستعدّاً”.
ب – مادة “ما هو الصبر الاستراتيجي؟ وهل خرجت إيران من عباءته فعلاً؟“، في 3/5/2024، والتي جرت الإشارة فيها إلى أن الطرف الأمريكي-الصهيوني لن يسلم بسهولة بتغيير قواعد الاشتباك وتحوّل ميزان القوى، وأن “ملف الضربة الإيرانية لم يُغلق بعد بالنسبة إليه. لذلك، لا بد من أن يحاول تجويف ذلك التطور بضربات تهزّ صورة إيران قريباً أو بعيداً”.
جـ – مادة “سيناريوهات تصاعد الحرب الإقليمية واحتوائها“، في 4/8/2024، والتي تناولت مساعي حزب الله وإيران آنذاك، بعد اغتيال القائدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر، للردّ في صورة تكرس معادلة الردع ولا تقود إلى الانزلاق إلى حربٍ شاملة، وأنهما، إن نجحا في ذلك، سوف يضعان الكيان الصهيوني في موضع يشعره بتهديد أكبر استراتيجياً. عندها، إما أن يغّير الكيان الصهيوني الحرس، أي حكومة نتنياهو، وإما أن يشعل حرباً، “وإن لم ينجحا، فإن ذلك سيرسّخ حكومة نتنياهو، وسيدفعها إلى خوض حرب. فإذا نجحا يمكن درء خطر الحرب بنسبة 50%، وإن لم ينجحا، توسّع خطرها”.
العبرة واضحة، وهي أن عدم الرد بصورة تصعيدية حازمة على الضربات “الإسرائيلية” يؤدي إلى تكرارها وتوسعتها، وأن توازن الرعب سوف يميل بالضرورة ضد الطرف الذي لا يحافظ عليه، وأن الكيان الصهيوني ينحو باتجاه إشعال حرب، وأنّ عدم إشعالها من طرف حكومة نتنياهو قد يدفع الكيان الصهيوني إلى تغيير الحرس من أجل الالتفاف على إيران بوسائل أخرى، ولنا عودة إلى هذه النقطة.
ليست مصادفةً أن موعد الرد “الإسرائيلي” الكبير، والذي أُعِدَ له مطولاً من قبل طبعاً، جاء مباشرةً بعد نجاة حكومة نتنياهو من جلسة ثقة في الكنيست، أي بعد تثبيت الحرس بدلاً من تغييره، فثمة إيقاع داخلي “إسرائيلي” للضربة على إيران، وهو إيقاع لا يتعلق بنتنياهو شخصياً بمقدار ما يتعلق بالمسار الاستراتيجي الذي يتوخى صناع القرار الصهاينة اتباعه.
ولا مزايدة أو مكابرة هنا، ولا يفتي قاعدٌ لمجاهد، لكنه قانونٌ من قوانين صراع الغاب، وسُنةٌ من سنن الكون في مواجهة الظالم المتجبر: قاتِل أو اِخضع.
د – مادة “اليمن وغزة يشتعلان، وعين ترامب ونتنياهو على إيران“، في 23/3/2025، ويقول العنوان بحد ذاته كثيراً هنا، وتخلص المادة إلى أنّ كلّ ما يجري في سورية ولبنان من تهدئة، وفي اليمن من تصعيد (ثم تهدئة)، يهيئ لضربة كبرى على إيران، وأنّ مصلحة محور المقاومة تكمن في إشعال الجبهات بقوة استباقياً.
تبرز، في سياق الإعداد للضربة على إيران، مسألة إجرائية، تتعلق بما جرى تداوله في وسائل الإعلام، وخصوصاً الخليجية منها، عن نزاع موهوم بين نتنياهو وترامب بشأن طريقة معالجة:
أ – ملف غزة، وحكمة التصعيد فيها عندما يكون المطلوب حشد دعم (رسمي) عربي وإسلامي ضد إيران.
ب – ملف المفاوضات النووية مع إيران، وما جرى الترويج له بشأن ميل ترامب إلى التفاوض، ونتنياهو إلى الحرب، في تناول ذلك الملف.
وهو الخط الذي جرى الترويج له بكثافة لتبييض صفحة ترامب. انظر مثلاً تقرير “يديعوت أحرونوت” في 10/6/2025 عن المحادثة الهاتفية بين ترامب ونتنياهو والتي زعموا أن ترامب طلب فيها من نتنياهو:
أ – إزالة الخيار العسكري عن الطاولة في ضوء المفاوضات الجارية بين طهران وواشنطن، وإبلاغ نتنياهو بأنه لا يملك “ضوءًا أخضر” من ترامب لضرب إيران.
ب – إنهاء الحملة العسكرية على غزة، قائلاً له: “اختتمها. لا تدع الحرب تطول”، على ذمة التقرير.
يضاف إلى ذلك طبعاً عدم توقف ترامب في الكيان الصهيوني في طريقه إلى مليارات الخليج، ذهاباً وإياباً، كأنه أدار ظهره إلى نتنياهو أو تخلى عنه.
ينسى كثيرون سريعاً أن ترامب هو من هدد بإطلاق الجحيم على غزة إذا لم يجرِ إطلاق سراح الأسرى الصهاينة فيها من دون قيد أو شرط، وأنه من أعطى الضوء الأخضر لوقف إيصال المساعدات إليها.
النقطة الأهم أن الضربة “الإسرائيلية” على إيران لم يكن من الممكن أن تقع لو واجه نتنياهو ضوءًا أحمر فعلاً. السبب بسيط، وهو أن التصدي للرد الإيراني على الكيان الصهيوني لا يمكن أن يجري من دون الدفاعات الجوية للقيادة الأمريكية الوسطى (سنتكوم) المعتمدة على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين و”العرب”، وإلا فإن “إسرائيل” ستكون مكشوفةً بالكامل.
صحيحٌ أن وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو صرح بأن الولايات المتحدة لم تشارك في الضربة، وأن ترامب أكد على ذلك، لكنّ الولايات المتحدة، في المقابل، التزمت الدفاع عن الكيان الصهيوني بعد شنه الضربة، ناهيك بشحنات الأسلحة والذخائر الأمريكية التي شُنّت الضربة بها.
كما أن ترامب حاول استثمار الضربة سياسياً مصرّحاً، بحسب رويترز في 13/6/2025، أنّ إيران جلبت الهجوم “الإسرائيلي” على نفسها من خلال مقاومة مطالب الولايات المتحدة بتقييد برنامجها النووي، وداعياً إيران، بحسب تقرير “رويترز” ذاته، أن تعقد صفقة لأن “الهجمات التالية المخطط لها ستكون بالفعل أكثر وحشيةً”. وعندما يلوح ترامب بضربات قادمة، ويحاول توظيف ذلك في محاولة ابتزاز إيران، فإن ذلك يعني أنه شريك، لا “شاهد ما شفش حاجة”!
نستنتج بناءً على ذلك، بشأن الضربة على إيران، وبشأن غزة، بأنّ نتنياهو وترامب يؤديان لعبة “الشرطي السيئ، والشرطي الأسوأ” التي استهلكتها أفلام هوليود، والتي لم يستوعبها بعضنا بعد.
وهي، أولاً، لعبة شريكين يفهم أحدهما الآخر، ويعرفان كيف يمرّران الكرة بينهما في الملعب الإقليمي، فلا يعطيان إيران ذريعة مباشرة لاستهداف القواعد الأمريكية والغربية في الدول الخليجية، في حين توظّف تلك القواعد في صد أي رد إيراني على العدوان الصهيوني بصفة “دفاعية”.
وهي، ثانياً، لعبة شريكين يقودان ثلة من الأدوات والأتباع “العرب” و”المسلمين” يحتاجون إلى إبقاء مسافة، ظاهرياً، بينهم وبين الضربة على إيران، كي يجعلوا التصدي لأي رد إيراني على العدو الصهيوني “دفاعاً عن أجوائهم الإقليمية” التي تسرح وتمرح في سماواتها الطائرات والصواريخ الاعتراضية الغربية، وأحياناً “الإسرائيلية”، من دون أن تُعدّ انتهاكاً.
وهي، ثالثاً، لعبة شريكين يتعاونان في تنفيذ حرب إبادة وتهجير في غزة، بالتعاون مع أدواتهما “العربية”، و”المسلمة”، وحتى “الفلسطينية”، فلا بأس من بعض بيانات وتصريحات الشجب والإدانة، ما دام الجسر البري (والبحري والجوي) إلى الكيان الصهيوني مفتوحاً، والحصار على غزة، وعلى الشارع العربي، قائماً.
تقوم الاستراتيجية الصهيونية في مواجهة إيران، فيما عدا الضربات المباشرة، على:
أ – حشد تكتل “عربي” و”مسلم” ضد إيران مطبّع مع العدو الصهيوني.
ب – زج الولايات المتحدة والغرب في الصراع العسكري المباشر مع إيران.
وإذا كان ذلك التكتل يتسلح بذرائع طائفية، فإنّ بعضه، مثل النظام المطبع في أذربيجان، “شيعي” يتسلح بذرائع قومية تركية.
السؤال الآن هو: كيف سترد إيران؟ ومتى؟ وهل ستتطور الضربات والرد عليها إلى حربٍ شاملة؟
أما طريقة الرد وموعده، فذلك ما يجب أن يُترك لأرباب الميدان بالضرورة. لكنْ، من منظور تحليلي، لا مبدئي فحسب، من حقّنا وواجبنا أن نقول إنّ عدم الرد، أو تسويفه إلى ما لا نهاية، سوف يعني اضمحلال محور المقاومة بالكامل. فلا بدّ من الرد ولو أدّى إلى حرب شاملة مهما بلغت تكلفتها، لأنّ كلفة السكوت أكبر بكثير.
كلمة أخيرة: كل من يقاتل العدو الصهيوني يجب أن ندعمه من دون تردد، وبشروطه.
ومن يثيرون في هذه اللحظات “تحفظات” طائفية على إيران باتوا مكشوفين بعد أن رأينا استعدادهم للتطبيع، وللتفاهم والتحالف حتى مع اليمين الديني المتطرف في الكيان الصهيوني.
أما من يبنون تحفظاتهم استناداً إلى خطاب عروبي مزيف، فإنهم مكشوفون لدى القوميين العرب الحقيقيين أولاً، لأن قتال العدو الصهيوني يفترض أن يكون مهمة العرب أولاً، ومن لا يريد أن يقاتل، فليقل خيراً أو فليصمت تماماً.
للمشاركة في فيسبوك:
هذا الموضوع كتب بتاريخ Saturday, June 14th, 2025 الساعة 12:19 am في تصنيف
مقالات سياسية واقتصادية. تستطيع الاشتراك لمتابعة الموضوع من خلال
RSS 2.0 تغذية الموقع.
كما يمكنك
اضافة رد, او
تعقيب من موقعك.
الموضوعات المرتبطة
إبراهيم علوش – الميادين نت
على إيقاع هجمات متبادلة تزداد ضراوةً وعمقاً، يمكن وصف مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف بأنها مسرحية تؤدى لعيون ترامب فحسب، بطلاها خصمان لدودان لا يطيق أحدهما [...]
إبراهيم علوش – الميادين نت
لم يستفز الاستراتيجيين الأمريكيين شيءٌ مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة عشرية أطلقت سنة 2015 أيضاً لتطوير عشرة قطاعات تصنيعية صينية، من بينها الذكاء [...]
إبراهيم علوش – الميادين نت
كثيراً ما يستفز "برود" الصين، في مواجهة التغول الأمريكي، أنصار التعددية القطبية ودعاة التحرر من الهيمنة الأمريكية حول العالم.
فالصين، ثاني أكبر اقتصاد [...]
إبراهيم علوش – الميادين نت
يصر تقرير في موقع "مجلس الأطلسي" (Atlantic Council)، في 13/5/2025، بشأن زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بأن هدف الزيارة يتلخص بأمرين:
أ – عقد صفقات تجارية [...]