المشروع الوحدوي في أمريكا اللاتينية: قوة مضادة للهيمنة الأمريكية والتوسع الترامبي

November 25th 2025 | كتبها

 

إبراهيم حرشاوي – لائحة القومي العربي

يشهد صعود القومية الأمريكية على النسق الترامبي، المبني على التوسع الاستراتيجي، والتفوق الحضاري، وإحياء مبدأ “المصير المحتوم”، إعادة تعريف لموقف واشنطن تجاه أمريكا اللاتينية.

لا تهدف هذه الموجة الجديدة إلى تأكيد الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي فقط، بل تسعى أيضاً إلى توسيع محيطها الاستراتيجي نحو الشمال غير اللاتيني، أي كندا وغرينلاند، لتعيد الولايات المتحدة إلى منطق إمبراطوري يعتبر كامل نصف الكرة الغربي امتداداً طبيعياً لقوتها.  وفي هذا السياق، يظهر التكامل اللاتيني لا كمجرد طموح إقليمي، بل كتحدٍ هيكليٍ للحسابات الجيوسياسية لواشنطن.

أحد أبرز مظاهر هذا التحول هو تركيز الإدارة الأمريكية المتجدد على المواقع العسكرية والأمنية على طول القوس الشمالي لأمريكا الجنوبية.  ففي الإكوادور، حاولت واشنطن استعادة الوصول إلى منشآت استراتيجية في مانتا وساليناس، تحت مظلة التعاون ضد الجريمة المنظمة. هذه القواعد كانت ستمنح الولايات المتحدة قدرات متقدمة على المراقبة في ممر المحيط الهادئ في وقت تزايد الاهتمام بالبيئة الاستراتيجية لفنزويلا.  ومع ذلك، رفض الناخبون الإكوادوريون هذا المشروع بشكل حاسم، حيث صوت نحو 60% ضد عودة القواعد الأمريكية في استفتاء وطني، مؤكدين على الحظر الدستوري لعام 2008 على المنشآت العسكرية الأجنبية، رغم الدعم القوي من الرئيس دانيال نوبوا، الحليف المقرب لدونالد ترامب.  يكشف هذا التصويت مقاومة شعبية للتمدد العسكري الأمريكي وحدود قدرة واشنطن على إعادة تثبيت حضورها في الممر الأنديزي.

في الوقت نفسه، تتكشف عملية مماثلة في منطقة الكاريبي.  فقد أدان الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حكومة ترينيداد وتوباغو لسماحها بنشر قوات عسكرية أجنبية، يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها مرتبطة بالولايات المتحدة، على بعد 15 كيلومتراً فقط من الساحل الفنزويلي. وحذر من أن هذا القرار يقوض سيادة ترينيداد ويشكل تهديداً مباشرا للأمن الإقليمي، مسلطاً الضوء على الروابط التاريخية الطويلة بين البلدين.

بدوره، أعرب رئيس الحكومة السابق لترينيداد كيث رولّي عن مخاوف مماثلة، مشيراً إلى أن التدريبات المشتركة مع قوات المارينز الأمريكية جرت من دون التشاور المؤسسي الكافي.  وتشكل هذه التحركات، إلى جانب توسع النشاط العسكري الأمريكي في غيانا، ومحاولات العودة إلى الإكوادور، والتشغيل المحتمل لمواقع “الأمن التعاوني”CS(Ls)  طويلة الأمد في كوراساو وأروبا، حركة استراتيجية تهدف إلى محاصرة فنزويلا وتشكيل بيئة أمنية لصالح واشنطن.  وتوفر هذه المواقع، عبر اتفاقيات طويلة الأمد، قواعد منخفضة التكلفة للطائرات ولـ«مهام مكافحة المخدرات الإقليمية»، مما يعزز النفوذ الأمريكي في الكاريبي.

وفي بنما، خلال فترة إدارة ترامب الحالية، عززت الولايات المتحدة نفوذها على قناة بنما الاستراتيجية مستغلة المخاوف من النفوذ الصيني، رغم أن القانون البنمي يتيح إدارة القناة لجميع الدول. ركز ترامب على شركة هونغ كونغ التي تدير الموانئ الطرفية منذ عقود، واتهمها بعدم الالتزام بالعقود، ودفع بنما للضغط عليها للانسحاب، ما أثار احتجاجات شعبية واسعة في سياق سجل تاريخي متوتر يشمل الاحتلال الأمريكي الطويل للمنطقة. يعكس هذا محاولة ترامب استغلال القناة كأداة استراتيجية لتعزيز النفوذ الأمريكي وإزاحة التوازن والسيادة البنمية، وفي ظل هذا النهج التوسعي تنتشر القوات الأمريكية أيضاً في مقابل السواحل الفنزويلية بأقصى مستوى، ضمن إطار الحرب المعلنة “على المخدرات” وعملية “رمح الجنوب”، في استراتيجية واضحة للضغط الأقصى على الدولة الفنزويلية.

تتزامن هذه الضغوط مع إعادة ترتيب جيوسياسي مهمة في أمريكا اللاتينية.  ففي ظل حكومتي مادورو وبيترو، تعزز فنزويلا وكولومبيا رؤية مشتركة حول السيادة، ومناهضة الإمبريالية، والوحدة اللاتينية، مستندة إلى المشروع التاريخي لـ “كولومبيا الكبرى”.  ويشكل إعلان بيترو العلني عن استعداد كولومبيا للدفاع عن فنزويلا ضد أي اعتداء أمريكي تحولاً نوعياً عن التوجه التاريخي للبلاد، ويمثل ولادة محور مقاومة كولومبي-فنزويلي.  فكولومبيا، التي حكمتها نخب محافظة لسنوات طويلة وكانت جزءًا من عقيدة الأمن الأمريكية، تتحول الآن إلى دولة شبه ثورية تقدم رؤية مقاومة واضحة للنفوذ الأمريكي.

وفي خطاب حاد الأسبوع الماضي، شن بيترو هجوماً على سياسات ترامب في أمريكا الجنوبية، بدءًا من الرسوم الجمركية إلى الهجمات البحرية المميتة على زوارق يُفترض أنها متورطة في تهريب المخدرات، والتي أودت بحياة أكثر من 70 شخصاً منذ أيلول / سبتمبر 2025.  وقال: “أمريكا ليست قارة للملوك أو الأمراء أو الطغاة”، في إشارة مباشرة إلى النهج العسكري لترامب في المنطقة.

وأكد أن كل ديكتاتور ظهر في أمريكا اللاتينية واجه في النهاية تمرداً شعبياً، متسائلاً: “أليس الوقت قد حان للحديث عن كولومبيا الكبرى مرة أخرى؟” وقدّم هذه الوحدة الجديدة كاستجابة استراتيجية للعدوان الأمريكي، مؤكداً أن مقاومة ترامب اليوم تتطلب روح الوحدة والسيادة نفسها التي ألهمت النضال الاستعماري لسيمون بوليفار.

وتتقاطع دعوة بيترو لإحياء “كولومبيا الكبرى” مع الدور التاريخي للبرازيل كقوة قارية قادرة على تحقيق رؤية طموحة، فالبرازيل بميزاتها الديموغرافية والاقتصادية والإقليمية تلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل القارة، وقدرتها على أن تصبح رصيداً موازناً للنفوذ الأمريكي تجعل منها عنصر استقرار أساسي.  كما أن البرازيل تتمتع بتقاليد جيوسياسية ترى في أمريكا الجنوبية مجالها الطبيعي للقيادة، ووجودها كقوة داعمة للتكامل البوليفاري يمكن أن يُترجم إلى كتلة لاتينية متعددة الأقطاب قادرة على مواجهة الإمبريالية الأمريكية.

على صعيد أمريكا الوسطى، تمتلك المنطقة فرصة استراتيجية للطموحات التكاملية القديمة. فكوبا ونيكاراغوا، بعلاقاتهما الأيديولوجية وموقعهما عند بوابة البرزخ، قادران على تشكيل نواة نسخة عصرية من الجمهورية الوسطى الأمريكية التي تخيلها فرانسيسكو مورازان. تاريخهما الثوري المشترك وروابطهما بحركات مناهضة الإمبريالية يوفر أساساً لمشروع وحدوي قائم على السيادة والتحرر الاجتماعي.  أما المكسيك فتضيف بعداً حاسماً آخر، فهي دولة حدودية مع الولايات المتحدة وذات تاريخ من فقدان أراضٍ بالقوة في القرن التاسع عشر، ما يجعلها نقطة ضغط استراتيجية على واشنطن، ويشكل تأثيرها الديموغرافي والثقافي والاقتصادي، إلى جانب التغيرات السريعة في التركيبة اللغوية داخل الولايات المتحدة، نقطة قوة استراتيجية.  وإن مشاركة المكسيك في مشروع تكاملي لاتيني أوسع قد تغيّر موازين القوى على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.

في المحصلة، تتقاطع هذه الديناميات الإقليمية مع الأطر المؤسسية الأكبر، حيث يجسد تحالف “ألبا” المبادئ البوليفارية للتضامن والعدالة الاقتصادية ومناهضة الإمبريالية، بينما يظل اتحاد دول أمريكا الجنوبية (UNASUR)، رغم ضعفه، محاولة طموحة لتوحيد القارة كفضاء جيوسياسي موحد وابتكار بدائل للنظام الأمريكي، مجسدة بذلك قدرة أمريكا اللاتينية على تصميم استراتيجيات مقاومة للنفوذ الإمبريالي.  وفي هذا السياق، تمثل اللحظتان الانتخابيتان الحاسمتان في تشيلي والهندوراس مؤشراً رئيسياً على قدرة القارة على استكمال مسارات التحول اليساري وتعزيز التكامل الإقليمي؛ إذ أن نتائج الانتخابات التشيلية قد تؤدي إلى تعزيز السياسات التقدمية على مستوى القارة، بينما ستحدد الانتخابات المقبلة في الهندوراس ما إذا كانت البلاد ستواصل مسارها الإصلاحي المرتبط بنهج الرئيسة الحالية سيومارا كاسترو أم ستعود إلى محور محافظ يعيد توثيق الارتباط بواشنطن، بما يجعل نتائجها ذات أثر مباشر على توازنات أمريكا الوسطى واستقرار مشاريع التكامل القاري.

وفي حال فوز قوى تقدمية في كلا البلدين، يمكن أن تلعب تشيلي والهندوراس دوراً متكاملاً كجسر سياسي بين موجة اليسار الصاعدة في أمريكا اللاتينية ومبادرات الوحدة القارية الآخذة في التشكل. وتشير هذه التطورات جميعها إلى احتمال ظهور كتلة لاتينية متعددة الأقطاب قادرة على مواجهة الهجمة التوسعية للولايات المتحدة، سواء عبر إحياء “كولومبيا الكبرى” كمشروع وحدوي، أو إعادة تشكيل اتحاد أمريكا الوسطى، أو تعزيز القيادة القارية للبرازيل، أو إعادة توجيه الاستراتيجية المكسيكية بما يوازن النفوذ الأمريكي.

وتمتلك أمريكا اللاتينية ذاكرة تاريخية عميقة وقدرة جيوسياسية ملموسة لبناء رصيد موحد يحد من الهيمنة الأمريكية، وهو صراع يتجاوز البعد الجيوسياسي ليصبح مواجهة حضارية متجذرة في تصورات متعارضة للهوية والسيادة والمصير في نصف الكرة الغربي، ويعكس بشكل واضح أن القدرة على الوحدة والتكامل الإقليمي ليست مجرد خيار سياسي، بل ضرورة استراتيجية لتأمين استقلال القرار الوطني والحفاظ على السيادة الجماعية، ما يجعل المشروع الوحدوي لأمريكا اللاتينية رصيداً حضارياً وجيوسياسياً لا غنى عنه في القرن الحادي والعشرين.

الموضوعات المرتبطة

أضواء على الخطة الأمريكية-الصهيونية لإعادة احتلال غزة واستعمارها

  إبراهيم علوش – الميادين نت في غزة، كما في لبنان، لم يكن وقف إطلاق النار، من الجانب الصهيوني، جدياً. أما قرار مجلس الأمن رقم 2803، المدعوم من الأنظمة العربية والمسلمة، فليس سوى غطاءٍ [...]

ما هي مؤشرات النصر الانتخابي لزهران ممداني في نيويورك؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت لعل أحد أهم إبداعات النخب الحاكمة في الأنظمة المسماة "ديموقراطية ليبرالية" هو قدرتها على تجديد مشروعيتها، واستعادة توازنها، في مواجهة أي تحولات كبرى قد تهز [...]

جوائز نوبل هذا العام سياسياً وأيديولوجياً

  إبراهيم علوش  - الميادين نت برزت، إعلامياً، 3 أسماء لدى الإعلان قبل نحو أسبوعين عن الفائزين بجائزة نوبل لعام 2025: ماريا كورينا ماشادو، الفائزة بجائزة نوبل للسلام، لأنها زعيمة للحركة [...]

“الهوية اليهودية”: قومية أم دينية؟  

إبراهيم علوش – الميادين نت تاريخياً، نحا الخطاب المقاوم في فلسطين باتجاه تصنيف اليهود أتباعاً لديانة سماوية فحسب، لا مشكلة معهم جوهرياً بصفتهم تلك، وباتجاه تركيز بوصلة التناقض الرئيس نحو [...]
2025 الصوت العربي الحر.