مسألة الليبرالية الحديثة في كلمة الرئيس الأسد في جامع العثمان

December 18th 2020 | كتبها

 

إبراهيم علوش

على الرغم من الحوارات الحيوية، والسجالات الحادة أحياناً، التي تلت حديث الرئيس الأسد عن عروبة سورية والقرآن والرسول (ص) والعروبة والإسلام في كلمته في جامع العثمان في 7/12/2020، إلا أن تلك الحوارات والسجالات ذاتها حول الجزء العروبي في كلمة السيد الرئيس ربما تكون قد غطت على محور الكلمة الرئاسية وواسطة عقدها وهي مسألة الليبرالية الحديثة.

ذكر الرئيس الأسد تعبير “ليبرالية” أو “ليبرالي” 23 مرة، في سياق النقض والتفنيد طبعاً، فيما ذكر تعبير “عروبة” 17 مرة، وذكر تعبير “إسلام” أو “إسلامي” 25 مرة، وذكر تعبير “قومية” مرة واحدة فحسب.  وقد أغدق المحللون والمعلقون والمغردون دفقاً غزيراً من الكلمات حول كل تلك المفردات ما عدا الليبرالية الحديثة التي لم تنل حظها من الاهتمام، مع أنها بيت القصيد، فحتى موضوع العروبة والإسلام، والعلمانية، والأخلاق، والمجتمع السوري والعربي، وغيرها من المفاهيم، ربطه الرئيس الاسد بالضرر الكائن والكامن الذي تلحقه الليبرالية الحديثة بها.

فما هي الليبرالية الحديثة التي عرّفها الرئيس الأسد كعدوٍ لا بد من تحصين أنفسنا منه ثقافياً وفكرياً؟  وبماذا تختلف عن الليبرالية غير الحديثة كمذهب سياسي (كما في حالة مقابلة الليبراليين بالمحافظين مثلاً)؟

حول منهجية الرئيس الأسد في تناول الشأن الراهن:

لا بد قبل الالتفات لموضوعة نقد الليبرالية الحديثة من التذكير مجدداً بأن من يتناول خطاب الرئيس الأسد بعين المحلل السياسي فحسب، من زاوية الحدث الراهن ومستجداته حصرياً، فإنه لا يمسك إلا بجزءٍ منه، أو ببعض ظاهره فحسب، فبعيداً عن مقابلاته الإعلامية، التي تركز على الشأن السياسي الراهن أساساً، وبعيداً عن لقاءاته مع الحكومة والوزراء والمسؤولين، التي تركز على الشأن الاقتصادي والإداري والمعيشي المباشر أساساً، تمثل الشحنة الفكرية والثقافية في خطاب السيد الرئيس مركز ثقله الرئيسي الذي يحتاج إلى مقاربات من النوع والدرجة ذاتها.

نضيف هنا أن محاورات الرئيس الأسد الفكرية والثقافية تنطلق من وحي المعاناة، لا من برجٍ عاجي، فهي تمثل مقارباتٍ عقلية عميقة للشأن الراهن، سواءٌ كان سياسياً أم اقتصادياً أم مجتمعياً، وتسعى لتشخيص مشاكله منهجياً من أجل معالجتها من الجذور، ومن هنا فإن الحملة التي أطلقها في كلمته الأخيرة ضد الليبرالية الحديثة تمثل حملة تطعيم وقائية إن شئتم، أو عملية تحصين، بتعبير سيادته، دفاعاً عن سورية الشعب والدولة والهوية هنا والآن، تماماً كما كانت مقارباته الفكرية في سنوات الحرب الأولى ضد الطائفية والتكفير وأثرهما المدمر تقتضي صياغةَ خطابٍ إسلاميٍ عقلانيٍ متنورٍ وعروبيٍ بالتعاون مع المؤسسة الدينية، ولا يمكن فصل الحديث عن عروبة سورية والقرآن والرسول (ص) مجدداً اليوم عن مشروع إنتاج مثل ذلك الخطاب الذي يعكس قناعات مبدئية لدى الرئيس الأسد في المحصلة.

ومن هنا فإن وضعه المؤسسةَ الدينية بموازاة العسكرية، الذي استغربه البعض، ينطلق من أن دور المؤسسة الدينية في دحر الطائفية والتكفير والإرهاب عقائدياً ومجتمعياً يوفر على سورية وجيشها العظيم الكثير من الدماء، وهو ما أوضحه الرئيس الأسد في خطاباتٍ سابقة، وما أثبتته الوقائع على الأرض، ومنها مثلاً لا حصراً استهداف المؤسسة الدينية من قبل أعداء سورية والتكفيريين، ورحم الله العلامة البوطي ومؤخراً الشيخ عدنان الأفيوني مفتي دمشق وريفها، والمشرف العام على مركز الشام الإسلامي الدولي، هذا المركز الذي بات أحد ثمرات منهج الرئيس الأسد في مقارعة الطائفية والتكفير عقائدياً بالتعاون مع المؤسسة الدينية ضمن مشروعٍ يهدف لبلورة تأصيلٍ ومرجعية شامية لفهم الإسلام والدعوة إليه، كانت جذورها موجودة أصلاً، وهو ما يمثل صيغة أقرب لـ”سورنة” الدعوة ومؤسستها عملياً، بما لا يخالف الشريعة طبعاً، بل بما يعزز مقاصدها، بعيداً عن ظنون البعض وتخوفه بأن العكس هو الذي يحدث، متوهماً بشكلٍ أو بآخر أن هناك تنازلات تُقدمُ لمشروع “وهبنة” سورية، فيما المشروع الواضح هو تعزيز الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والتحصين العقائدي من الإرهاب التكفيري وإجلاء أي شبهات قد تكون قد لحقت بصورة الإسلام أو العروبة أو سورية، وهو ما نلمسه بوضوح مثلاً في كلمة الرئيس الأسد في لقائه مع العلماء ورجال الدين في 23/4/2014، في عز الصعود الإرهابي والتكفيري.

تعرّف على العدو الحقيقي:

الهجوم على الرسول الكريم (ص) ربطه الرئيس الأسد بمن أسماه العدو الحقيقي، التيار الذي يستهدف المجتمعات الإسلامية، وإنسانية الإنسان برمتها، فهو الذي يجعل المخدرات، أو الذكورة والأنوثة مثلاً، “خياراً فردياً”، وهو التيار الذي ينطلق من فك ارتباط الفرد بأسرته ووطنه وأمته وعقيدته، زاعماً “تحرير الفرد” من كل تلك القيود، ويذهب ذلك التيار باتجاه خلط المقاييس، ورفض المسلمات، ملغياً أحكام العقل والفطرة السليمة، وجاعلاً من ذلك أساساً لإخضاعنا سياسياً أيضاً، ولنلاحظ جيداً كيف ربط الرئيس الأسد اختراق التيار الليبرالي الحديث للعقل الجمعي ومقاييسه بمسألة التسوية السياسية مع العدو الصهيوني، وكيف ربط الانهيار الاجتماعي بالانهيار السياسي، وهي النقطة التي لم يتوقف عندها أحدٌ للأسف، حتى من المحللين السياسيين:

“إذاً إلى أين نصل عند ضرب هذه المسلمات؟ نصل إلى أن يكون المعتدي كالمعتدى عليه.  وبالتالي بدلاً من أن تكون هذه أرضاً مغتصبة من قبل العدو ونحن المالكون الحقيقيون تصبح هذه الأرض محل نزاع لأن الطرفين بالموقع نفسه وقد يكون كلا الطرفين صاحب حق فكيف سيتم الحل في هذه الحالة؟ الطرف الثاني المعتدي المغتصب للأرض سوف يقوم أو أنا الطرف الأول بالبداية سأقدم تنازلاً له وأعطيه جزءاً من الأرض.. تنازلاً مني له.. وهو سيقوم أيضا بالتنازل عن جزء من الأرض أنا أملكها.. سيتنازل لي عن حقي وبالتالي نصل للتسوية السياسية التي يسعون إليها.. فنرى أيضاً أن المسلمات لا تنفصل عن المخطط السياسي لليبرالية الحديثة.”

بالعودة إلى جوهر الليبرالية الحديثة، بصفتها تغريباً للإنسان عن إنسانيته وارتباطه القومي والحضاري، فإن كلمة الرئيس الأسد في جامع العثمان لم تكن المرة الأولى التي يطرق فيها هذا الموضوع، ولكنها كانت المرة الأكثر توسعاً، ويمكن أن نلاحظ مثلاً إشارات سيادته في الملتقى العربي لمناهضة الحلف الأمريكي-الصهيوني-الرجعي العربي في 14/11/2017 إلى دور “عولمة الإنترنت” وهجمة العولمة عموماً في فقدان اللغة، وفقدان الارتباط، “أو بشكل أدق حالة الغربة عن الثقافة التي ينتمي إليها هذا الإنسان”، وكذلك إشارته في تلك الكلمة “للغربة الثقافية وتحلل الثقافات” الذي “يبدأ أولاً باللغة ويبدأ بكلمات وبمصطلحات بسيطة ومن ثم يبدأ التعميم، أي خلال جيل واحد، عندما يصبح شباب اليوم رجالاً ونساءً، لن تجدوا أحداً منهم يحاوركم في الموضوع القومي لأن الثقافة مختلفة.  هذا الجانب بحاجة لدور دول، بحاجة لعمل ثقافي، ونحن لدينا مثقفون كبار وأيضاً مفكرون قوميون”، بحسب تعبير الرئيس الأسد، ومن هنا لم تكن مفاجئة عودة سيادته بقوة لربط الليبرالية الحديثة بالهجوم على عروبة سورية والقرآن والرسول محمد (ص)، فالمستهدف هنا هو الليبرالية الحديثة، واقرأوا الكلمة جيداً، لا من ظنوا أنهم مستهدفون منها.  فالرئيس الأسد ينشئ عبر كلماته تدريجياً موضوعاتٍ يعود لطرقها باختصارٍ أو توسعٍ وصولاً لحسمها والانتقال إلى غيرها، مع التذكير أحياناً بأهم استنتاجاتها بعد حسمها.

في الليبرالية القديمة والحديثة:

تعبير ليبرالي Liberal مشتق من كلمة Liber اللاتينية، وتعني “حر”، وفي مواجهة الإقطاع كان ذلك يعني ضرب منظومة الامتيازات الإقطاعية والكنسية على حساب عامة الشعب عموماً والفلاحين خصوصاً، فالحرية الفردية لا تُطرح بالمطلق، بل تطرح كبرنامج لطبقة برجوازية ناشئة ونظام رأسمالي صاعد في مواجهة طبقة النبلاء والكنيسة وملاكي الأراضي الطفيلية، وفي مواجهة منظومة إقطاعية آفلة، والهدف من طرح مسألة الحرية الفردية كان تفكيك المنظومة الإقطاعية، وارتباط الفلاح بالأرض، وحق التاجر والمستثمر بالعبور عبر إمارات الإقطاعيين، وإحلال منظومة أخرى رأسمالية محلها، لمصلحة الطبقة البرجوازية الحديثة في النهاية.

الليبرالية الأولى كانت الرد الأيديولوجي للبرجوازية الصاعدة على منظومة الألقاب الموروثة الإقطاعية والامتيازات الأرستقراطية، وهي تتمحور حول التركيز على الفرد، وحقوق الفرد، ومركزية “الإنسان” (اقرأ: الفرد) في العالم، وعلى تساوي المواطنين أمام القانون، وحرية الحركة والتنقل والتعبير، والأهم، حرية الملكية الخاصة وعصمتها، وبشكلٍ عام، أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات أمام الدولة-الأمة Nation-state التي تمثلهم.

فكرة الدولة-الأمة على المقدار ذاته من الأهمية هنا مثل فكرة الحرية الفردية في تلك المرحلة التاريخية من الصراع بين الإقطاع والرأسمالية، ولم تكن تؤخذ الأولى (الحرية الفردية) من دون الثانية (تأسيس دولة قومية موحدة)، فالثورة الفرنسية عام 1789 مثلاً، كنموذج أعلى للثورة ضد الإقطاع، تضمن برنامجها نقطتين أساسيتين: أ – المواطنة والحريات الفردية، ب – حق تقرير المصير، المستمد من سيادة الشعب على أرضه، نقيضاً لسيادة النبلاء والكنيسة والإقطاعيين.

كان الطرح الليبرالي البرجوازي إذاً في بلدان أوروبا الغربية في تلك المرحلة طرحاً تقدمياً، بمعنى أنه كان طرحاً يخدم التطور التاريخي وتحرر الإنسان في التخلص من ربقة النظام الإقطاعي، وهو ما أتاح تأسيسَ دولٍ قوميةٍ مستندةٍ إلى مبدأ المواطنة على أنقاض التفكك الإقطاعي والسلطة الكنسية العابرة للقوميات، ولكن القوة الدافعة للطرح الليبرالي كانت الطبقة البرجوازية الصاعدة، وسنأتي لاحقاً لأبعاد نشر المفاهيم الليبرالية المستندة إلى مرجعيات فردية في أممٍ لم تحقق وحدتها القومية بعد، أو بلدانٍ برسم التفكيك، مثل بلدان الأمة العربية، من دون البعد الآخر للثورة الفرنسية وهو حق تقرير المصير (والوحدة) للأمم.

على الرغم من أن خيوط المفاهيم الليبرالية الأولى تمتد عميقاً في تاريخ الفكر والفلسفة إلى اليونان والشرق القديم، إلا أن ذلك لا يهم كثيراً في الواقع، لأنها لم تتخذ صورة فلسفة شائعة تمثل مصلحة طبقة اجتماعية محددة في مرحلة تاريخية محددة إلا مع صعود الرأسمالية، وهي مرحلة عصر التنوير الأوروبي Age of Enlightenment، وكان الفيلسوف السياسي الأبرز المعبر عنها هو البريطاني جون لوك John Locke (1632-1704) الذي ما برحت أفكاره تُعد المرجعية الأولى للفكر السياسي الليبرالي الكلاسيكي.

إلى هنا لا مشكلة في الاعتراف بالليبرالية تياراً فكرياً عبّر عن تطورٍ تاريخيٍ وارتبط بمشروع تأسيس الدول القومية في أوروبا الغربية، ومن بعدها في غيرها.  لكن الليبراليين في السياسة في الغرب باتوا يشددون منذ عقود على التعددية الثقافية وحقوق الأقليات واحتقار الحس القومي وإعلاء شأن التجارة الدولية كأداة لتحقيق السلام الدولي، وهو خط الإدارة الأمريكية في ظل بِل كلينتون أو أوباما، وهؤلاء يتبنون المدرسة “النيوليبرالية” في السياسة الدولية، أما الجمهوريون فيتبنون المدرسة “الواقعية الجديدة” في السياسة الدولية.

الخط الليبرالي الجديد ازدهر مع ازدهار فكرة العولمة، وعبور الحدود، وتجاوز القوميات، ولكن مع انتصار الصين في لعبة العولمة، ارتد الغرب إلى مدرسة “الواقعية الجديدة”، التي تركز على الأمن القومي، والتي يمثل ترامب رمزها الأبرز اليوم، ولكن هذا خارج موضوعنا هنا.

المرجعية القومية أو الاشتراكية بالمقابل مثلاً هي حقوق الجماعة، حقوق الأمة، أو حقوق الطبقات الشعبية، والمرجعية الوطنية هي حق الوطن، والعبرة ليست في أن الليبراليين يرفضون بالمطلق حقوق الجماعة، ولا في أن القوميين أو الاشتراكيين يرفضون بالمطلق حقوق الفرد، بل في تحديد الأولويات، أي هل تأخذ حقوق الجماعة الأولوية أم حقوق الفرد في القانون والسياسة؟  وهذا هو بالضبط ما يفرّق ما بين الليبرالي وغير الليبرالي اليوم، وإعطاء الأولوية للحق العام هو ما يجعل المرء قومياً أو اشتراكياً، وإعطاء الأولوية للحقوق الفردية هو ما يجعل المرء ليبرالياً.  على سبيل المثال، من عاش في الغرب وجادل الغربيين يعرف أنهم مبرمجون للتعامل مع قضية إبادة السكان الأصليين للقارة الأمريكية، أو قضية فلسطين، أو حصار العراق أو سورية، إلخ… أو أي قضية جمعية، باعتبارها قضية “خلافية”، أما انتهاك حقوق فرد بأي طريقة، فـ”جريمةٌ لا تغتفر”!  ولنلاحظ هنا كم من مثقفينا ويساريينا العرب يتبنون مرجعيات ليبرالية في الجوهر.

مشكلة طرح الفكر الليبرالي في ظروف بلدان الوطن العربي:

 

مع نشر فكر العولمة وتزايد البرامج التي تطرحها المؤسسات الدولية في الوطن العربي، لا سيما دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني، انتشر في الوطن العربي خطان أحدهما يركز على الليبرالية الاقتصادية (المعروفة باسم النيوليبرالية)، والآخر يركز على الليبرالية السياسية، وكلاهما يكمل الآخر، تماماً كما في الغرب، وكلاهما يشترك بصفة أساسية هي استناده للمرجعية الفردية الصرف في حالة الليبرالية الاقتصادية، أو المرجعية الفردية في الحياة الاجتماعية (العيش كما يرغب الفرد) المخففة بدور اجتماعي للجمعيات غير الحكومية الممولة أجنبياً (بديلاً للدولة).

المشكلة السياسية في الحالتين هي تجاوز المرجعية الجمعية، كطرف نقيض للمرجعية الفردية، سواء كانت حقوق الأمة (السيادة، القرار المستقل، التحرر) أم حقوق الطبقات الشعبية (الحق بعيشٍ كريم، حق تأمين الحاجات الأساسية، الحق بالتحرر من الاستغلال).

المشكلة الأخرى في الطرح الليبرالي في ظروف البلدان التي لم تحقق وحدتها القومية هي أنها تربط ذلك الطرح بتجاوز الانتماء الوطني والقومي في مواجهة الدول المستقلة وحركات التحرر الوطني، وليس بتكريسه في مواجهة الإقطاع وقوى الشد العكسي، وبالتالي فإنه يصبح جزءاً من مشروعٍ معادٍ، وفي ظروف الوطن العربي تحديداً، يصبح الطرح الليبرالي جزءاً من مشروع “الشرق أوسطية”، وبالتالي فإنه يصبح جزءاً من تكريس مرجعية الفرد على حساب الهوية والانتماء الوطني والقومي، أي من مشروع تفكيك المجتمع.

لو كنا قد أنجزنا عصر النهضة والتنوير والثورة الصناعية، ولو كانت المناطق والقبائل والطوائف قد اندمجت في بوتقة دولة قومية واحدة، تقوم فيها العلاقة على ميزان بين الدولة والمواطن المنتمي بشكلٍ تامٍ وطنياً وقومياً، لأصبح للطرح الليبرالي سياقه المنطقي، أما قبل تحقيق مشروع النهضة والوحدة والتحرر القومي، فإن الطرح الليبرالي يصبح أداة تفكيك، وبالتحديد، أداة لتذرر التراكم المدني الذي حققناه عبر مسيرة مشاريع النهضة العربية المتحققة منذ القرن التاسع عشر إلى شذرات  تمارس غربتها في قواقعها الفردية، وهو جوهر أزمة المثقفين العرب المفتقدين للانتماء الوطني والقومي اليوم.

 

الحديث عن مقياس فردي للحق والباطل والصح والخطأ في مجتمعنا العربي المعاصر الذي لم يحقق اندماجه الاجتماعي على أسس المواطنة القومية أولاً، وجعْلُ الدولة، بالمطلق، عدواً للحقوق الفردية، يؤسس للانسلاخ عن الوطن والهوية، وعن التراث وأي مشروع جمعي بشكلٍ عام، كما أنه يؤسس لإضعاف الحياة الحزبية والسياسة عموماً مع سعي “الأفراد” لأن يكونوا “مستقلين”.

 

لسنا ضد الحقوق الفردية، ولا نتدخل فيما يخص الفرد عندما لا يكون له بعد وطني أو قومي أو اجتماعي، ولكن ما يجري تأسيسه اليوم هو تكريس تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ اجتماعياً، على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، لا على مستوى علاقة فئات من المجتمع بالدولة فحسب، مع العلم أن جماعة “الحقوق الفردية” يغوصون كثيراً في مسائل حقوق “الأقليات” الحقيقية والمخترعة.

 

في الخلاصة، أجهض الغرب بالعنف والتآمر كل محاولة عربية لتحقيق النهضة العربية، من مصر إلى العراق إلى سورية إلى غيرها، وبالتالي فإن التطور الطبيعي من الإقطاع للرأسمالية انقطع عندنا، فلا خيار لدينا إلا قيام قوة راعية بتحقيق المشروع النهضوي، قوة مركزية، من فوق، تماماً كما حاول محمد علي باشا أن يفعل في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكما فعل بطرس الأكبر في روسيا.  وهذه القوة ليست سوى الدولة المركزية رافعة مشروع النهضة القومية.

وستكون لنا عودة للفروق بين الليبرالية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مادة أخرى بشكلٍ أكثر توسعاً في العدد المقبل من مجلة “طلقة تنوير” إن شاء الله.

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=4303326943017841&id=100000217333066

 

 

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.