هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

July 7th 2023 | كتبها

 

إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88

 

تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث يعود إلى العصر الحديث، وأن القوميين العرب، بهذا المعنى، مستهلِكون جددٌ لمنتجات حداثية أوروبية ليست من نبت تراب بيئتنا وهوائها ومائها.  وهو الموقف الذي يتبناه كثيرٌ من الإسلاميين.

لعل ما فاقم من مثل هذه الضلالة التاريخية أن الماركسيين العرب، بالأعم الأغلب، ربطوا نشوء الأمة بالثورة الصناعية وتكوّن طبقة برجوازية حديثة، وهو ما عدوا أوروبا الغربية سباقةً إليه، فكرسوا بذلك المركزية الأوروبية للعالم على صعيد تشكل الأمم، على الرغم من أن الأمم الشرقية أقدم تاريخياً من أي أمة أوروبية، من الصين إلى العرب إلى الفرس إلى غيرهم.  وهي مقولة سبق أن تناولتها بالتفنيد في العدد 23 من مجلة “طلقة تنوير”، تحت عنوان (قراءة في كتاب “الماركسية والمسالة القومية” لستالين).

أما الليبراليون العرب، فكانوا واضحين طبعاً في تبني المنظور الغربي إلى العالم.  لكنهم، على الرغم من ذلك، لم يتحولوا إلى قوميين، بل تبنوا التقسيم القُطري الذي فرضه الاستعمار الأوروبي على الوطن العربي، وعدوا الاحتكاك بالغرب “مكسباً”، على غرار الكتاب الليبراليين العرب في مصر في بداية القرن العشرين، من أحمد لطفي السيد إلى طه حسين إلى غيرهما، مقارنةً بمن سبقهم في القرن التاسع عشر من الكتاب العرب ممن تبنوا شيئاً من الليبرالية في سياق مشروع عروبي مستقل، مثل رفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وأديب إسحق.

لذلك، فإن الحديث عن تيار “ليبرالي وطني”، حتى بالمعنى القُطري للنزعة الوطنية (كما يفعل السادة في المؤتمر القومي العربي مثلاً)، ليس له محلٌ من الإعراب اليوم في الوطن العربي.  فإذا جاء الليبراليون العرب الجدد، شاكر النابلسي نموذجاً، سقطت أي هالة “وطنية” متخيلة عن رؤوسهم، وباتوا أبواقاً للثورات الملونة وللإنسان “العالمي” المنبت عن أي رابط وطني أو قومي أو حضاري.

العبرة هنا طبعاً أن الثقل الوازن للمثقفين الأكثر تغريباً في الوطن العربي كان تاريخياً الأقل قوميةً، باستثناء مرحلة قصيرة في القرن التاسع عشر ترافقت مع مشروع محمد علي باشا الكبير، أي مع مشروع وحدوي نهضوي تحرري ترك أثره العميق، قومياً، في مصر وخارجها، واستند إلى برنامج تأسيس دولة عربية مركزية قوية تقوم على رابطة المواطنة، في مواجهة الهيمنة الغربية والاحـ.ـتـ.ـلال العثماني، وفي مواجهة المستحاثات الاجتماعية السابقة للقومية.  فعلى أي أساسٍ إذاً تُربَط النزعة القومية العربية بالفكر الأوروبي “المستورد”؟!

البعد السياسي في اتهام الفكر القومي العربي بالتغريب

ليس مفاجئاً طبعاً أن مطلقي مثل تلك التهم لم يتورعوا عن التعاون مع “الغرب الكافر” في مواجهة الحركات القومية التحررية في الوطن العربي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وفي أفغانستان، في خضم الحرب الباردة، ولم يتورعوا عن العودة إلى التعاون معه، بعد مرحلة “الحرب على الإرهـ.ـاب”، في خضم ما يسمى “الربيع العربي”، على طريقة “رمتني بدائها وانسلت”.

لكن الواقع، لمن يقرأ تراثنا الثقافي العربي-الإسلامي جيداً، هو أن المفكرين والكتاب العرب بلوروا، منذ العصر العباسي على الأقل:

أ – مقولات نظرية محددة في تكوين الأمم والقوميات.

ب – نزعة عروبية قومية واضحة، بالنسبة إلى بعض كتابنا وشعرائنا ومفكرينا آنذاك.

وإذا كان الغوص في كتب التراث أمراً مرهقاً بالنسبة إلى كثيرين، في عصر السرعة والضغوط اليومية الذي نعيشه، فإن ثمة ملخصين أساسيين لما كتبه فلاسفة العرب وعلماؤهم قبل ألف عام عن الأمة والقومية يمكن مراجعتهما، وهما:

أ – مقولات علماء العرب وفلاسفتهم في العصر العباسي والعصور الوسطى في القومية العربية، وهو أحد فصول كتاب عبد العزيز الدوري “التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي”، الصادر عن دار المستقبل العربي، القاهرة، 1985 (ص: 99 – 112).  وقد أعدت نشر ملخصٍ عن الملخص، مع مقدمة صغيرة، في كتاب “أسس العروبة القديمة”، عن دار فضاءات، 2013.

ب –  دراسة ناجي علوش “مفهوم الأمة في العصر العربي الوسيط”، المنشورة في مجلة “الوحدة”، العدد 42، آذار / مارس 1988.  وقد نُشِرت مقتطفاتٌ منها في العدد 77 من مجلة “طلقة تنوير”، 1/9/2021، يمكن إيجاده بسهولة على الإنترنت.

توجد مراجع أخرى طبعاً لما ذكره علماؤنا وفلاسفتنا عن الموضوع، إنما الهدف هو تزويد الراغب بالاستزادة عن ملخص الملخصين الذي سيرد أدناه بمرجعين سريعين ومختصرين لتأصيل الفكرة القومية في تراثنا العربي-الإسلامي.

وليس المقصود في السطور التالية تقديم إحاطة شاملة.  فالنزعة القومية العربية لدى الجاحظ أو المتنبي أو أبي تمام مثلاً تحتمل أطروحات دراسات عليا كاملة، وكذلك ما أورده ابن خلدون والفارابي والمسعودي وغيرهم عن الأمة والعروبة.

لا بد من الإشارة هنا، قبل الدخول في الموضوع، إلى أن من ينسبون بعض علماء العرب وفلاسفتهم القدامى إلى الأعاجم يضلون في مسألتين:

أ – أن العالم أو الباحث أو المفكر الذي يكتب بالعربية في مجتمع عربي، وفي نسقٍ فكريٍ يناقش قضايا ذات منشأ عربيٍ، يعد إرثه عربياً، ولو لم يكن ذا أصلٍ عربيٍ عرقياً، تماماً كما يعد العالم أو الباحث أو المفكر المقيم في الولايات المتحدة، وغير الأمريكي أصلاً، الذي يكتب بالإنكليزية لمعالجة قضايا أمريكية، أمريكياً.

ب – أن كثيراً من العلماء والفلاسفة العرب في العصر العباسي الذين نسبوا إلى الأعاجم كانوا من أحفاد العرب الفاتحين الذين استقروا في الأمصار المفتوحة غير العربية.  انظر مثلاً كتاب “عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي”، تأليف ناجي معروف، بغداد، 1974.  وهي ليست نقطةً جوهرية، لأننا نؤمن بالعروبة الحضارية، أي عروبة الثقافة واللغة والجغرافيا، لا عروبة النسب والعرق.  إما إذا كان هناك من يرغب بتأصيل العلماء والفلاسفة العرب عرقياً إلى أقوامٍ أخرى، في محاولة لتسخيف العرب حضارياً، فلدينا ما نقوله أيضاً.  ويبقى الأساس هو النقطة “أ” السابقة.

قراءة تراثية في مفهومي الأمة والقومية العربية

 

أما بعد، فإن علماء العرب وفلاسفتهم كتبوا في العصر العباسي وغيره في الأمة والعروبة واتصالها قبل الإسلام وبعده.  وهذا يدلل على أن العروبة ليست “بدعةً معاصرة”.  وقد بنى كافة أولئك العلماء العروبة على الثقافة واللغة والجغرافيا، لا على النسب، الأمر الذي ينفي المفهوم العرقي العنصري للعروبة، حتى لدى علماء العرب القدامى.  وقد ميزوا بين مفهوم الأمة، القائم على الانتماء القومي، ومفهوم الملة، القائم على الانتماء الطائفي (انظر ابن خلدون على هذا الصعيد، بحسب مادة ناجي علوش المذكورة أعلاه).

كانت كتابات بعض أولئك العلماء والمفكرين العرب في العصر العباسي جزءاً من السجال مع الحركة الشعوبية المناهضة للعروبة والعرب.  وقد بدأت تلك الكتابات في القرن الثاني للهجرة وازدهرت في القرن الثالث، وقد بدأت الشعوبية في وقتٍ كان مفهوم العروبة والإسلام فيه واحداً، فاقترنت الشعوبية بالزندقة.  وهي نقطة لا يدركها الذين ظنوا أنهم يدافعون عن الإسلام بنفي العروبة، فيما كان الهجوم على العروبة عملياً هجوماً على الإسلام.

وجهت الشعوبية هجماتها إلى ماضي العرب ووصمته بالبداوة والانحطاط، وشككت في كيان العرب مدعيةً أنهم مجموعة قبائل متنافرة لا أمة واحدة (تماماً كما يفعل الصهاينة والغربيون وأذنابهم اليوم)، وحطت من الأخلاق والسجايا العربية، واندفعت إلى مجابهة اللغة العربية، وطعنت بالثقافة العربية وقيمها في حين ذهبت إلى تمجيد الثقافات الأعجمية وتراثها (تماماً كما يفعل المتغربون اليوم)، وحاولت تشويه العرب ودورهم التاريخي لتمجد مقابل ذلك الشعوب الأخرى وإنجازاتها.

كان من نتيجة ذلك عودة العلماء والمفكرين العرب إلى التراث العربي قبل الإسلام والعناية به وجمعه وزوال النظرة التي لا ترى شيئاً قبل الإسلام وتهمل تراث العرب القديم.  ومن هنا نفهم كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتابي الحماسة للبحتري وأبي تمام، والمفضليات للضبي.  وقد رسخ ذلك التوجه الوحدة الثقافية للأمة العربية قبل الإسلام وبعده باعتباره صيرورةً تاريخيةً واحدة.

لم يقتصر هذا الاتجاه على الأدباء، بل تجلى لدى المؤرخين، فوضع ابن قتيبة الدينوري كتاب المعارف الذي تناول فيه صفحات متصلة كاملة من تاريخ العرب وتراثهم الفكري، وجعله موسوعةً للمعرفة التاريخية والأدبية والثقافية قبل الإسلام وبعده.  ويذكر أن ابن قتيبة الدينوري تحدث عن العرب كأمة على أساسٍ بشريٍ.  وتناول في “رسائل البلغاء” الأمة العربية كأمةٍ متميزة لها خصائصها ومزاياها الخاصة.

تحدث أبو حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” (الجزء الأول، ص 82) عن صفات العرب الإيجابية مثل صحة الفطرة وسعة اللغة والفصاحة والكرم.  وفي الدفاع عن اللغة العربية وفضلها، واستناد القرآن الكريم والعلوم الإسلامية إليها، رافع أبو حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة”، والزمخشري في “المفصل في صنعة الإعراب”، عن اللغة العربية، وكذلك فعل البيروني في كتاب “الصيدنة”، مع أنه كتابٌ في الطب.

كتب الأصمعي “تاريخ العرب قبل الإسلام” ليثبت أن العرب لم يكونوا حديثي العهد بالدول.  وتناول اليعقوبي في كتابه “التاريخ”، والمسعودي في “مروج الذهب”، والطبري، تاريخ العرب قبل الإسلام إلى جانب الشعوب العريقة في القدم.

وضع البلاذري “فتوح البلدان” ليظهر دور العرب في حمل راية الإسلام، كما وضع “أنساب الأشراف” الذي تناول فيه العرب قبل الإسلام وبعده.  ويتناول الكتاب الأخير، إلى جانب الأشراف الذين يعطيهم الدور الأساس، شخصيات متعربة ويُظهِر دورها في الحياة العامة، الأمر الذي يؤكد على مفهوم العروبة الحضارية المنبت عن الأصل العرقي، أي أنه يؤكد تعالي الفكر القومي العربي على النزعة العنصرية.

يرى الجاحظ في رسائله (الجزء الأول، ص 10 -11) أن العروبة ليست نسباً، بدلالة اختلاف القحطانية والعدنانية، واختلاف القبائل في كلٍ منهما، إنما العروبة لغةٌ وثقافةٌ.   كما يرى الجاحظ، في رسائله (الجزء الأول، ص 31) أن المولى الذي يُسلم يعد عربياً: “المولى أقرب إلى العرب في كثيرٍ من المعاني… وهذا تأويل قول محمد (ص): مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم”.

يقول د. عبد العزيز الدوري ما معناه: ظل العرب لفترةٍ طويلةٍ يتحدثون عن الأنساب (ولا سيما في العصر الأموي).  وكان الديوان هو السجل الرسمي للأنساب العربية.  لكنّ ركون العرب إلى الحياة الحضرية، والتطورات الاجتماعية والاقتصادية، واندماج القبائل في الأمصار، واستمرار عملية التعريب التي أدخلت أقواماً ومهاجرين في العروبة، حدَ من دور النسب في تعريف العروبة، وصار التركيز على الأسر والأفراد، وهذا هو ما جعل أساس اللغة، لا النسب والقبائل، أساس العروبة.  ويبدو هذا الاتجاه واضحاً في الكتابات العربية منذ النصف الأول للقرن الثالث الهجري.

ابن المقفع في حديثه عن العرب كأمة تناول سجاياها وأثر البيئة في طبائعها، وركز على لغتها وما تتميز به.

أما الفارابي فيرى أن التجمع البشري ينتهي إلى أمم، ويناقش الروابط فيها ليذكر رابطة النسب على رأي البعض فيلاحظ أن مرور الزمن يذهب بها، ثم يقول: “وآخرون رأوا أن الارتباط هو بتشابه الخلق والشيم الطبيعية والاشتراك في اللغة واللسان… فإن الأمم تتباين بهذه الثلاث” (آراء أهل المدينة الفاضلة، بيروت، دار المشرق، 1968، ص: 154-155، وص 157).

يُرجِع الفارابي السمات الطبيعية في الأمم، مثل الخلق والشيم الطبيعية، إلى أثر البيئة والموقع الجغرافي.  وقد ميز بين الأمة بمفهومها البشري، وبين الملة، أي أتباع ديانة ما.

تحدث المسعودي من جهته عن أهمية العوامل الجغرافية في التاريخ، معتبراً أن اللسان هو الأساس، إذ إن انحلال الوحدة السياسية لا ينهي الأمة، ولا اختلاف اللهجات ينهي وحدة اللسان (التنبيه والإشراف، بيروت، 1965، ص: 75-78، وص 80).

ميّز ابن خلدون من جهته بين الملة والأمة، مع أنه استخدم كلمة أمة بضع مرات ليشير إلى الأمة الإسلامية.  ويعطي ابن خلدون النسب أهميته ودوره في مراحل معينة من تاريخ العرب كرابطة للأمة، لكنه يرى أن التطور الحضري والاختلاط بالتزاوج والمعاشرة يفضيان إلى تلاشي دور النسب.  ويقول إن ما يجمع العرب هو اللغة التي كادت تفسد بعد مرحلة البداوة، بسبب الاختلاط بالأعاجم، لولا أنها لغة القرآن ثم لغة الشريعة.

وفي رسائل بديع الزمان الهمذاني حوارٌ حول العرب والعجم وتفضيل العرب وتأكيد سجاياهم وفضائلهم (كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان، بيروت، 1890، ص 279 وما يليها).

ليست القومية والأمة مفهوماً أوروبياً مستجداً

 

ليست العروبة أو الفكرة القومية إذاً مفهومين أوروبيين حديثين، إلا إذا عددنا العلماء والمفكرين العرب المسلمين أعلاه سويسريين أو إنكليزاً أو جرمانيين.  والأرجح أن الأوروبيين أخذوا مفهوم القومية والأمة عن علماء العرب وفلاسفتهم، لا العكس، عندما ترجموا تراثنا واستفادوا منه في إنشاء نهضتهم، كما هو معلومٌ في أساس النهضة الأوروبية في القرون الوسطى.

لكنْ صودف أن نهوض الغرب ترافق حضارياً مع أفولنا عربياً.  جاء ذلك بفعل الاحـ.ـتـ.ـلال الأعجمي للوطن العربي، الذي أعاقنا حضارياً في مواجهة الغرب، من جهة، والذي تطلب مسح أي أثر للوعي القومي العربي، من جهةٍ أخرى، لتحقيق أفضل الشروط لاستدامة السيطرة الأجنبية على الوطن العربي باسم الدين.

كان من آثار ذلك أن الأعجمي بقي يحكم الوطن العربي بصفته كتلةً قوميةً متماسكة، تركية أساساً، من السلاجقة إلى العثمانيين، مارست الغزو عبر القارات قبل دخولها الإسلام، في حين أصبح مطلوباً من العربي أن يتخلى عن عروبته “حرصاً على إيمانه من الشطط”.  والتوظيف السياسي لمثل هذه الدعاية، التي كان سيسخر منها علماؤنا في العصر العباسي، هو إخفاء سيطرة الأعاجم على العرب انتقاماً من الفتح الإسلامي الذي نهض به العرب.

يزعم بعض الإسلاميين أن القومية “فكرٌ جاهليٌ” يتمسك بالهوية القبلية والأنساب.  لكن الواقع هو أن القومية العربية، كتوجه فكري، لم تتبنَ العرق يوماً كأحد مكونات القومية، كما أثبتنا أعلاه، إنما برزت النزعة القومية العربية في العصر العباسي دفاعاً عن الإسلام في مواجهة الشعوبية التي سعت إلى تبخيس الإسلام بتبخيس العرب.

اكتشفت الشعوبية بعدها الخلل في تلك الاستراتيجية، فسعت إلى تبخيس العرب والعروبة باسم الدين، بصفتها كتلةً قوميةً تسعى إلى السيادة على العرب ككتلة قومية أخرى.  وتلك هي قصة الاحـ.ـتـ.ـلال العثماني والسلجوقي من قبله من أولها إلى آخرها.

أضيف أن القوميين العرب في العصر الحديث لا يوجد بينهم مفكر رئيسي واحد اعتبر العرق أو السلالة أحد مكونات تشكيل الأمم، فالعرب العاربة والمستعربة كلاهما سيان.  وقد أثبتُ ذلك في كتاب “أسس الفكر القومي العربي” (2013)، الذي راجعت فيه مقولات المفكرين القوميين العرب في القرن العشرين من ساطع الحصري إلى ياسين الحافظ.  ومن قبيل الأمانة العلمية فحسب أذكر أن المفكر القومي العربي زكي الأرسوزي، ابن إقليم إسكندرون العربي السوري المحتل، مرّ بمرحلة قدم فيها أطروحات عرقية في القومية في مواجهة التغول الطوراني، لكنه تخطاها، وعاد بعدها بسنوات إلى مفهوم العروبة الحضارية، المبنية على أساس اللغة والثقافة والجغرافيا، أسوةً بغيره من المفكرين القوميين العرب.

هل توجد لدى العرب نزعات عنصرية عرقية؟

ربما يكون السؤال الأدق: هل تغيب مثل تلك النزعات عن أي أمة؟  لكنّ التوجه القومي العروبي لا يتبنى العرق أو اللون كأحد مكونات الأمة، على عكس النزعة القومية القومية الأوروبية التي تتبنى فكرة العرق الآري.   أما العرب، فيحمل إرثهم إحدى أهم صرخات مناهضة العنصرية في التاريخ، شخصية عنترة بن شداد العبسي وسيرته نموذجاً، والتي لا يجوز اختزالها بصفات عنترة كفارس وشاعر وصراعه الفردي للاعتراف به نداً اجتماعياً.

هل توجد لدى القوميين العرب نزعة شوفينية استعلائية؟

ربما يكون السؤال الأدق، في ظروف تجزئة الوطن العربي واحـ.ـتـ.ـلاله، من الذي يستعلي على من؟  نحن أمةٌ تحت الاحـ.ـتـ.ـلال والتجزئة والتخلف، ولسنا في موضع التعالي على أحد، لكننا نعاني من تعالي غيرنا علينا.  وعندما ننهض، ربما يستحق أن يطرح مثل هذا السؤال.  وحتى يحين ذلك الوقت، فإن من يتوجب أن يسأل عن تعاليه هو من يحاول التبخيس من أمة العرب.

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid02eMoKAG6ezrMVvn7LghzUpUiDVjdpQ1RCBtPFsUrpk54ioLGTgrXXPDVp7vFkcov2l&id=100041762855804

 

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]
2024 الصوت العربي الحر.