الجزء الثالث: القومية الباعث الأول للوحدة

January 19th 2010 | كتبها

سلسلة التثقيف القومي


الجزء الثالث: القومية الباعث الأول للوحدة

لائحة القومي العربي  arab_nationalist@yahoogroups.com

للكاتب شبلي العيسمي، من كتابه “لماذا الوحدة العربية، وكيف؟”، الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1993، أي في أشد لحظات الحصار قسوةً على العراق…  الكاتب سوري من جبل العرب، وهو من أكفأ الكتاب البعثيين.

والمادة أدناه قيمة وثرية وتضع النقاط على الحروف بالنسبة للكثير من المفاهيم المرتبطة بالقومية والقومية العربية.  وننصح بقراءتها بالتأكيد، وبمناقشتها بجدية وتعمق، لكن لنا ملاحظة نقدية واحدة: في المادة أدناه يطرح الأستاذ القدير شبلي العيسمي مفهوماً محدداً، لا مركزياً، للوحدة هو مفهوم الوحدة الاتحادية أو الفيدرالية، بين الأقطار العربية، بحيث يتولى كل قطر شؤونه الداخلية، ويترك الشؤون الخارجية لدولة الوحدة.   فالوحدة هنا تمثل اتحاداً لعدد من الخلايا القطرية التي تكونها، ولا تقوم على الوحدة الاندماجية مثل الوحدة المصرية-السورية.

نحن من جهتنا لا نتخيل الوحدة العربية هكذا.  بل نراها مركزية واندماجية بالضرورة.  فالوحدة التي تراعي الدول القطرية لا تقوم أبداً، إلا كأطر شكلية للتنسيق، بلا فاعلية حقيقية، مثل الجامعة العربية، أو كأطر إقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد المغاربي.

وربما كانت ظروف العراق تحت الحصار، وحاجته ليطمئن الدول العربية المحيطة به أنه لا يقصد إسقاطها، بالإضافة لبعض أخطاء جهاز الإدارة غير القومي وغير الناصري، حسب المفكر ياسين الحافظ، للوحدة المصرية-السورية بين عامي 1958-1961، هو الذي دفع الأستاذ شبلي العيسمي لتبني مفهوماً وحدوياً فدرالياً، يحافظ في جوهره على البنى القطرية ومؤسساتها، وهو الأمر الذي يخلق أرضية للانفصال، خاصة في المراحل الأولى للوحدة.

من جهتنا نحن نرى أن الوحدة العربية لا تقوم إلا بتكنيس البنى القطرية تماماً، ليس فقط على صعيد المؤسسات، بل على صعيد الوعي.  ونموذجنا في تحقيق الوحدة ليس الوحدة من فوق التي تحافظ على بنية الأقطار، بل الوحدة من تحت، التي تجرف القطرية والطائفية والعشائرية، بالحديد والنار عند الضرورة، كما قال بسمارك عن نهج تحقيق الوحدة الألمانية في القرن التاسع عشر.  وكانت ألمانيا قبلها عدداً كبيراً من الدويلات.

من البديهي أن أية خطوة وحدوية حقيقية هي أمر إيجابي، ولا يمكن أن نعارضه، حتى لو كانت أقل من فيدرالية، لكن الوحدة الحقيقية لا يمكن أن تتصالح مع المؤسسات والبنى القطرية، ولا تقوم إلا على أنقاضها.  والوحدة الحقة لا تتحقق برضا أنظمة التجزئة، بل رغماً عنها.  ولو قيض لنا أن نرسم صورةً لمستقبلنا الوحدوي لقلنا أننا يجب أن نعيد رسم حدود القضاء والمحافظة والناحية والإقليم ضمن دولة الوحدة بحيث نبدد تماماً كل آثار دول التجزئة، ولقلنا أن نهضتنا يجب أن تقوم على مدن جديدة يختلط فيها العرب اختلاطاً لا عودة فيه، حتى لا يبقى إلا دولة وحدة من جهة، ومواطن عربي من جهة أخرى، بدون أية عوائق اجتماعية-سياسية بينهما.  ولو اضطررنا في طريقنا لتحقيق هذا الهدف لتقديم تنازلات لهذا السبب أو ذاك، فإن ذلك يكون لأسباب عارضة، قد تطول زمنياً أو تقصر، لكنها لا تؤثر على هدفنا النهائي وهو محو أقطار التجزئة تماماً من المؤسسات والنفوس.   وإذا قبلنا مراعاة بعض الخصوصيات المحلية لهذا السبب أو ذاك، بعيداً عن مشروع “الخلاط القومي العملاق” الذي تنتجه دولة مركزية عربية، فإن ذلك يكون هو الاستثناء وليس القاعدة.

أخيراً، نرى بأن وطناً عربياً شاسع المساحة مثل وطننا الذي تبلغ مساحته 14 مليون كم مربع، وطناً مفتوحاً على القارات القديمة كان عبر التاريخ معبراً للغزوات والهجرات والتجارة العالمية، وطناً يمتلك أطول شواطئ في العالم بالنسبة لمساحته البرية، وطناً تتركز كثافته السكانية في أشرطة ضيقة من المساحة الإجمالية ويتألف ما عدا ذلك من مساحات مهولة من الصحارى المقفرة المفتوحة، إن وطناً كهذا لا يمكن أن يتوحد وأن ينهض وأن يحقق أمنه القومي إلا على يد دولة عربية مركزية تقزِّم أية دولة مركزية سبق أن عرفها التاريخ البشري، دولة مركزية تليق بمشروع النهوض العربي، وبمكانتنا كأمة على هذه الأرض.

الديموقراطية تبقى شأناً محلياً في الحي والمدينة والبلدة والقرية ومكان العمل والدراسة وما شابه، أما الأقطار العربية، أقطار التجزئة، فإن ذكراها بعد الوحدة ستنتمي، ما عدا في حالات عارضة واستثنائية، للمتخصصين بالتاريخ القديم فقط، تاريخ ما قبل النهضة العربية القومية.

أخوكم إبراهيم علوش

17/11/2008

================================================

القومية الباعث الأول للوحدة

القومية العربية من المقومات الأساسية في بناء الوحدة، وفيها المبرر أو الدافع الأكبر للإيمان بالوحدة والنضال من أجلها.  وما دام هذا الترابط الجدلي قائماً بينهما بهذه القوة، وما دامت الوحدة مرتكزة إلى القومية، فلا بد أن نتأكد من أن لهذه القومية وجوداً حقيقياً ثابتاً وفاعلاً، وأنها ليست وليدة ظروف مرحلية طارئة أو اجتهادات متطورة وقابلة للتبدل والتغيير.  وبما أن الوحدة هي التجسيد السياسي العملي للقومية العربية، وأن المشاعر القومية هي للوحدة بمثابة النسغ الذي يغذي الشجرة ويمدها بالقدرة على النمو، فقد أصبح لزاماً علينا أن نبرهن أن القومية العربية حقيقة قائمة، أو قضية مقضية، لا مجال لإنكارها أو الاستخفاف بتأثيرها، كما فعل الماركسيون باسم الأممية، حين اعتبروا القومية وليدة القرن التاسع عشر ولمرحلة عابرة، أو كما فعل الإسلاميون الذين لم يروا في الإسلام سوى عالميته، وتجاهلوا صلته العضوية بالعروبة، أو كما يعتقد بعض الكتاب “بأنها لا تتجاوز حدود الجزيرة العربية” (مثل د. لويس عوض في الأهرام 20/4/1978).

وبعبارة أخرى كما أن للشجرة الطيبة جذوراً ممتدة في باطن الأرض تمدها بالغذاء اللازم للنمو والإنتاج، كذلك الأمر بالنسبة للقومية العربية فهي ضاربة في أعماق التاريخ يمدها بوحدة التراث الروحي والثقافي ويجعلها قوة دفع نحو الوحدة.  وهكذا فإن الدعوة إلى الوحدة لن تموت إلا بموت الشعور القومي، وهذا الشعور قد يضعف ويخفت، وقد يتسع أو يضيق، لكنه لن يموت ما دام في الأمة نزوع للبقاء والتقدم، كما هو الشأن في الأمة العربية الكبيرة، ذات الحضارة العريقة، في حين أن الأقليات القومية في كل دولة قوية قد تذوب عن طريق الهيمنة إذا طالت لمئات السنين، أو بالانصهار الطوعي الناجم عن توفير المساواة والعدل مع بقية مواطني الدولة، ومن المناسب أن نذِّكر هنا بما جرى في الاتحاد السوفييتي من التحركات والتظاهرات ذات الطابع القومي في ظل الديموقراطية الجديدة التي أتاحتها البريسترويكا، ودلت على أن المشاعر القومية لم تمت بل كانت مكبوتة بفعل القوة، ما يزيد على سبعين عاماً، كما أن قيام دولتين ألمانيتين ودولتين كوريتين بعد الحرب العالمية الثانية واصطناع الخصومة والتنافس بين الدولتين المنتميتين لأمة واحدة لم يخمد المشاعر القومية التوحيدية بين أبنائها، وبقيت الضغوط الشعبية تدفع باتجاه الوحدة القومية، وعدم التوقف عند الهوية الجنسية التي تمنحها الدولة لمواطنيها.  وهكذا تحققت الوحدة الألمانية بينما يمضي توحيد الكوريتين في طريقه.  وهذا ينفي الرأي القائل أن الدولة تخلق القومية، لكنه لا ينفي أن يكون قيام الدولة المطابق لحدود القومية معززاً لهذه القومية.. وقبل المضي في البحث نجد من المفيد أن نحدد في البداية مفاهيم الكلمات والمصطلحات الأساسية التي نستخدمها حتى لا يقع اللبس والغموض حول ما نقصده من الطروحات المتصلة بها.

1 – مفهوم الوحدة:

من الأمور المؤذية للوحدة ما يكتنف معناها من تمييع، أو تضييع عن قصد وتعمد، أو عن جهل باللغة وبالمضمون العلمي للكلمة، فمن الملاحظ أن الحكام العرب الراغبين بالمحافظة على أنظمتهم القطرية، وامتيازاتهم، حينما يتحدثون عن الوحدة، فإنهم يريدونها بمعناها اللغوي العام الذي لا يتعدى معنى التعاون والتضامن والتنسيق، ولا يصل إلى معناها السياسي الدستوري الذي يستوجب قيام دولة واحدة فوق الدولة القطرية.  والوحدة في اللغة مصدر لفعل “وحَّد”، أي جعله واحداً، وعي نقيض التجزئة.  ووحد الأشياء توحيداً، بمعنى اتحدت وصارت شيئاً واحداً، والاتحاد جسم مركب، والاتحادات المركبة على أنواع: الاتحاد الشخصي والتعاهدي (الكونفدرالي والفعلي الحقيقي)، والاتحاد الفدرالي.  والحق أن الوحدة كما نفهمها وننشدها ذات صيغة اتحادية لا مركزية، بكل ما تعنيه كلمة الاتحاد السياسي (الفدرالي) من المعاني المعروفة في كتب القانون والنظم السياسية، والوحدة تتم خطوات ومراحل ومستويات مختلفة، ولا تأخذ قوتها وتعطي ثمارها المرجوة ما لم تقم على الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.  والدولة الاتحادية تنشأ من انضمام عدة دول لبعضها بحيث تكون دولة واحدة، ولها سلطة على الدول الأعضاء ورعاياها، وتفقد الدول سيادتها الخارجية، وتحتفظ بالسيادة الداخلية في معظم شؤونها.  ويبقى لكل دولة دستورها وقوانينها ومجالسها النيابية وحكومتها وقضاؤها.  وللدولة الاتحادية كثل هذه المؤسسات أيضاً، وتصبح الدول المشتركة بالاتحاد ولايات أو مقاطعات أو دويلات، ومن نماذجها سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وأندونيسيا… والدستور الاتحادي يحاول التوفيق بين السيادة القومية والسيادة القطرية.

هذا ويمكننا القول أن ما ورد في ميثاق القاهرة الذي وقع في نيسان من عام 1963 لإقامة الوحدة الاتحادية بين مصر وسورية والعراق، يعبِّر إلى حد كبير عما نعتقده ممكناً ومفيداً بالنسبة لصيغة الوحدة الدستورية المنشودة، على أن تجري عليه بعض التعديلات التي تستوجبها الظروف والمستجدات التي طرأت على الساحة العربية بعد توقيعه.  أما الدولة الموحدة البسيطة كما في فرنسا أو حدة سوريا ومصر التي سميت بالاندماجية فلا نقصدها فيما نطرحه وندعو إليه.

–         هناك بعض الكلمات يستخدمها الكثيرون ولاسيما من الفئات الحاكمة، من غير أن يدققوا بمحتواها ومعناها اللغوي.  وإذا لم نوضح بدقة حقيقة ما تعنيه فإنها تلقي ظلالاً من اللبس والغموض على ما نقصده من الوحدة والاتحاد، ونذكر على سبيل المثال أن مؤتمر الشعب العام في ليبيا قرر في ختام اجتماعاته في طرابلس آذار 1990 المصادقة على مشروع للوحدة مع السودان… وأكد على سرعة تنفيذ مشروع التكامل مع السودان والعمل على تطويره بما يحقق الوحدة الاندماجية الكاملة، ودعوة الأقطار العربية والأفريقية للانضمام إليه.  ومن هذا القرار يلاحظ فقدان الدراسة الجدية والعلمية للوحدة، إلى جانب الغموض في فهمها، وذلك عندما يستعجل قيام الوحدة الاندماجية ويدعو الدول الأفريقية للانضمام إليها.  وهنالك أمثلة أخرى سترد في أكثر من مكان، وتحملنا على توضيح بعض الكلمات المستخدمة بمعنى الوحدة والاتحاد وهي في حقيقتها لا تحمل هذا المعنى ومنها كلمات التعاون والتضامن والتكامل والتحالف والتنسيق… الخ.

–         فالتعاون يعني العمل المشترك بين دولتين أو أكثر لتحقيق منفعة متبادلة تساعد على التفاهم والتفاعل واستبعاد الصراع .  ويقوم على أساس التكافؤ حتى لا يتحول إلى تبعية.  كأن يتعاون الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية على الحفاظ على الأمن والسلام في العالم رغم اختلاف نظاميهما.  وقد يكون التعاون على إنجاز قضية معينة وينتهي بانتهائها.  وحين يستمر التعاون، ويتعمق يتحول إلى التنسيق الذي يحمل معنى الإرادة والالتزام واستبعاد التصادم في المصالح المشتركة، وقد يتطور التنسيق إلى تحالف ولكنه يبقى تحالفاً ذا طابع سياسي مؤقت.  وهكذا فالتعاون يمكن أن يحصل بين دول مختلفة متباينة في مقوماتها وأهدافها القومية.  والاتفاقيات التعاونية ليست ظواهر أو حالات اتحادية رغم أنها قد تخدم التوجه الوحدوي ضمن الأمة الواحدة.

–          أما التضامن فيفيد معنى التكاتف والتساند في مواجهة الأخطار الخارجية المحيطة بالدول المتضامنة، ولا يحتاج إلى معاهدات ثنائية أو جماعية، ويمكن أن يحصل بحكم الروابط التاريخية والمصالح المشتركة ويخدم هدف الوحدة.  وفي لسان العرب لابن منظور وردت كلمة تعاونوا بمعنى: أعان بعضهم بعضاً.  وكل شيء أعانك فهو عون لك.  وفي المنجد عوّن وعاون معاونة. ساعده.  وهكذا فالتعاون لغة تبادل المساعدة أو المؤازرة.  أما التعاون كمذهب وكنظام اقتصادي واجتماعي فيقوم على التضامن الطوعي بين جماعة من الأفراد لإقامة مشروع اقتصادي مشترك هو الجمعية التعاونية.  أما عن كلمة التضامن، فتعني التكافل.  ضَمِنَ الشيء.  كفل به (ابن منظور).  وفي المنجد تضامن الفرقاء ضَمِنَ بعضهم بعضاً تجاه صاحب الحق.  وتضامن القوم على أمر: اتحدوا متفقين عليه (على أمر محدود).  وفي مختار الصحاح التضامن الاتفاقي (تضامن بحكم الاتفاق).  والتضامن القانوني بحكم القانون.

–         أما كلمة الاتحاد في معرض الحديث عن الدول، فتعني التفاعل والتكامل بين دولتين أو أكثر بحيث يصبح لهما كيان واحدٌ موحد، له صلاحيات أعلى وأوسع من صلاحيات الكيانات المندمجة فيه.   بينماالرابطة بين الدول تربطها ببعضها وقد تكون الرابطة ضعيفة.   والجامعة تجمعها من دون تفاعل.  وهكذا فإن هذه الكلمات وكذلك التعاون والتضامن لا تعني في اللغة والحقوق قيام دولة دستورية متحدة، ولكنها تهدف إلى تحقيق أهداف جزئية وقد تكون محدودة وظرفية وطارئة.

–         أما كلمة المتحدة الواردة في تسمية هيئة الأمم المتحدة، فلا تعني أكثر من المتعاونة في حالات معينة، أو المتفقة على أهداف محددة عامة.

2 – مفهوم القومية:

القومية بصورة عامة، إحساس بالانتماء والولاء إلى الأمة واستعداد للدفاع عنها، وكما أنه لا قومية بلا أمة في وطن، فلا وحدة بلا قومية، ولا قوة لقومية بلا دولة.  يقول الأستاذ ساطع الحصري: “إن القومية حب القوم والوطنية حب الوطن”.  وهنالك تعريف أخر مماثل للأستاذ ميشيل عفلق جاء فيه: “القومية حب قبل كل شيء.  هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته، لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة”.  والقومية من كلمة قوم حيث ذُكرت في 383 آية قرآنية وكلها بمعنى جماعة اجتماعية تشد أفرادها روابط معينة تميزهم عن غيرهم.

وورد في المعجم الفلسفي أن القوم في الاصطلاح: الجماعة من الناس تؤلف بينهم وحدة اللغة والتقاليد الاجتماعية وأصول الثقافة وأسباب المصالح المشتركة، ويرادفه لفظ الأمة Nation.  وهي مجموعة الأفراد الذين يؤلفون وحدة سياسية تقوم على وحدة الوطن والتاريخ والآلام والآمال.  والقومي Nationalist هو المنسوب إلى القوم.. والقومية أيضاً، صلة اجتماعية عاطفية تتولد من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة والآمال والمصالح.

ويجدر التنويه هنا إلى أن الإشارة لقضية الجنس، لا تعني فيما نفهم منها القرابة المادية القائمة على وحدة النسب ونقاء الدم، وإنما هي اعتقاد قائم لدى الكثيرين بوجود هذه الرابطة العرقية، ورغم افتقاره إلى التبرير العلمي لديهم فقد أصبح قوة معنوية لها تأثير فعلي في التعاطف والتقارب بينهم.  وهكذا فإن الاعتقاد الراسخ في النفوس يكتسب أحياناً قوة الحقيقة رغم استناده إلى الوهم.  وبعبارة واحدة: القومية شعور يربط بين أفراد الأمة ويعبر عن الولاء لها، والأمة جماعة من الناس يربطهم الشعور القومي الناجم عن وحدة اللغة والتاريخ والتراث الحضاري والمصلحة المشتركة.  والقومية للفرد قدره وهويته ولا يستطيع الانفكاك منها، كما لا يستطيع التخلص من ملامح وجهه وبصمات أصابعه.  وعندما نقرأ أحياناً عبارات “القومية الاشتراكية”  أو “القومية العنصرية” أو “القومية البرجوازية”، فإنما يقصد بهذه الصفات تحديد السمة الغالبة لمضمونها وأهدافها.  ومما يؤسف له، أن الأيديولوجية القومية المعاصرة لم تعد تحمل الشحنة الحماسية التي كانت تحملها في الخمسينات والستينات لأن دعاتها أخفقوا بصورة عامة، ولاسيما بعد تسلمهم السلطة في كل من مصر وسورية والعراق.  غير أن منطلقات الفكر القومي لا تزال صحيحة وأن العلة في سوء التطبيق.

هذا وقد نستخدم كلمة العروبة (وهي مصطلح قديم ومن المصادر التي لا فعل لها) للدلالة على القومية العربية كاصطلاح متداول في العصر الحاضر.

وبعد: فإن الفكر القومي العربي الحديث فكر إنساني علمي متحرر، ينفي العامل العرقي والعنصري، ويشجب التعصب ويعتبر اللغة والعوامل الثقافية والروحية هي الأصل والأساس في بناء القومية العربية.

وبالاستناد إلى ما تقدم عن مفهوم القومية، نستطيع القول أن الشعور القومي قديم قدم المجتمعات والشعوب.  أما عوامل تكوينه، ومدى قوته وسعته، أو ضعفه وانكماشه، والمضامين التي تعطى له، والشعارات التي تعبر عنه في كل مرحلة من مراحل التاريخ المختلفة، فإنها تخضع لتبدل الظروف وتطور الحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل.  ومن المعروف أن كل ما هو خاضع لحالات التطور والتغير يصبح موضع اجتهادات عديدة، ومضامين جديدة مستمدة من واقع كل أمة وظروفها الخاصة.  ففي عصر الجاهلية كان الشعور القومي ضعيفاً مشتتاً بالعصبية القبلية وقلما يتخطى شبه الجزيرة العربية، ومع ذلك كان يعبر عن نفسه عن طريق اللغة الواحدة واللقاءات المتكررة في الأسواق الأدبية والاقتصادية في مكة وعكاظ ومجنة وذي المجاز، مع الاهتمام بالأنساب والتقاليد العربية المعروفة من كرم ونجدة ونخوة وإباء… وكان يبرز أيضاً عندما يقع احتكاك بين قبيلة عربية وقوى أعجمية، أو أي اعتداء من هذه على جماعة من العرب كما في معركة ذي قار بين العرب والفرس عام 611م.  ولكن بعد ظهور الإسلام وتوحيد القبائل العربية وتفجير طاقاتها، وقيام الدولة العربية الإسلامية وفق تعاليم الإسلام الجديدة، تضاءل دور القبيلة، وأصبحت العروبة الجديدة ممثلة بالإسلام ومعززة به، وبقيام الدولة القوية الواحدة في عهد الخلفاء الراشدين، فالأمويين وفي الصدر الأول من حكم بني العباس، وفي كل مرحلة كانت فيها الدولة العربية الإسلامية قوية على الصعيدين العسكري والسياسي.

كانت دائرة القومية العربية تتسع بالتعريب أو الاستعراب الذي نما في ظل الإسلام ومبادئه.  وهذا يعني أن القومية كالكائن الحي، تنمو وتتسع، أو تتقلص وتنكمش، تقوى وتضعف، وتكون في ذروة قوتها عندما تجابه تحديات داخلية وخارجية، وعندما تتجسد في دولة سياسية واحدة.  ولعلنا نشير هنا إلى أن ظهور الحركة الشعوبية المعادية للعرب، وتصدي الكتاب والساسة العرب للرد عليها في زمن العباسيين، يعبران بوضوح عن وجود المشاعر القومية، في تلك المرحلة البعيدة عنا ما يزيد عن ألف عام.  والشعوبي كما يقول ابن منظور في لسان العرب “هو الذي يُصّغر من شأن العرب”.  والشعوبية حركة فكرية اجتماعية قامت بها جماعات غير عربية لتهديم الكيان العربي بطعن ثقافته وتراثه الحضاري من خلال التقليل من شأن اللغة العربية والتشكيك بدور العرب التاريخي والاستهزاء بالقيم والمثل العربية، مقابل الاعتزاز بالإرث الحضاري الأعجمي والتمجيد بالقيم والسجايا غير العربية وإحياء الثقافات الأعجمية.

إن الشعور القومي يعبر عن نفسه بأشكال ومضامين وأهداف مختلفة، من عصر إلى آخر، فالمضمون الديني مثلاً يطغى في حالة الغزو الصليبي، بينما تبرز العوامل الأخرى كالثقافة والتراث الحضاري وإرادة التحرر والاستقلال، في حالة المجابهة مع الأتراك العثمانيين، أو مع الاستعمار الأوروبي الحديث.  ثم أن دائرة الشعور القومي قد تضيق أو تتسع، وقد يكون الشعور القومي عفوياً غامضاً أو ناضجاً ونابضاً بالقوة والإرادة، وذلك تبعاً لمستوى الوعي والقدرة على الاتصال بين أبناء الأمة الواحدة، فهو واسع وقوي وواضح في ظل الديموقراطية وانتشار الثقافة، وفي كنف الدولة الواحدة القوية، ولكنه ضعيف ومجزأ وخافت وغير فاعل في ظل التشويه والتشكيك والتبعية الثقافية والسياسية والإعلامية للدول القوية، وعقلية التجزئة وتعدد الكيانات الإقليمية في الوطن العربي الكبير.  والكتاب الغربيون – في معظمهم – ولاسيما أجهزة الإعلام تفهم القومية العربية على نحو يتناسب مع المصالح الغربية “فالعروبة كانت تقدمية حينما حالفت دول أوروبا الغربية في صراعها مع الإمبراطورية العثمانية، ولكنها تحولت إلى حركة توسعية ومناهضة للتقدم عندما أرادت التحرر من الغرب، وتحرير فلسطين من الصهاينة وتوحيد الأقطار العربية” (أنظر مجلة الدستور 9/5/1988 مقال د. رغيد الصلح في تعليقه على أراء فرنسيسكو غابريلي حول العروبة).

إن ضعف الشعور القومي وتشتته وخفوته لا يعني زواله واضمحلاله، بل ينكفئ ويعبر عن نفسه في وحدة التقاليد والعادات واللغة والطقوس الدينية، وبذلك يحافظ على الوحدة الروحية للأمة في غياب الوحدة السياسية.

3 – مفهوم الأمة:

الأمة كلمة وردت كثيراً في القرآن الكريم وكانت تحمل عدة معاني وأبرزها في مخاطبة المسلمين بمعنى الجماعة “كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” (آل عمران 110).  كما أن دائرة الأمة تتسع بانتماء أفراد جدد إليها عن طريق الاستعراب، وتعلم اللغة العربية، أو عن طريق الولاء التي اعتبرت كلحمة النسب حيث قال الرسول العربي “إن مولى القوم منهم” (طبقات ابن سعد المجلد الرابع- القسم الأول ص 155).

هذا بالإضافة إلى أن كثيرين من الشعوب الأعجمية قد تعربوا من خلال انتسابهم للإسلام وتأثرهم بلغته وعادات العرب.  وهذا ما يفسر قول ابن تيمية “من ولد في الإسلام فهو عربي” ويعني أنه “ولد في دار العرب واعتاد خطابها”.  ومن هنا نلاحظ أيضاً تقسيم المؤرخين العرب القدماء للعرب إلى قسمين: عرب عاربة وعرب مستعربة.

أما مفهوم الأمة في العصر الحديث فتعني في الاصطلاح الدولي جماعة من الناس تعيش في بقعة من الأرض حياة مستقرة وتجمع بينها اعتبارات خاصة كالرغبة المشتركة في العيش معاً في نطاق نظام اجتماعي أو سياسي معين… وتساعد على تكوين شخصية الأمة عدة عوامل منها وحدة الأصل الجنسي ووحدة اللغة ووحدة العقيدة (أنظر القاموس السياسي – أحمد عطية – ط 3، 1968، دار النهضة العربية – مصر).  وهنالك تعريف أخر ماركسي وهو: الأمة جماعة من الناس تتشكل تاريخياً، وتتميز بالظروف المادية المشتركة للحياة، الأرض والحياة الاقتصادية، وجماعية اللغة والتكوين النفسي (الموسوعة الفلسفية – لجنة من العلماء والأكاديميين السوفييت، ترجمة سمير كرم، ط 1 – بيروت – دار الطليعة – ت1 /1974).

وعندما ننفي العامل العرقي عن عوامل القومية، وتكوين الأمة، حيث من المتعذر إثباته علمياً في أي شعب أو أمة، تصبح اللغة والتراث الروحي والحضاري والمصلحة المشتركة هي الأساس، ويصبح أبناء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج أمةً واحدةً وتجمعهم مشاعر قومية مشتركة، واضحة منذ ظهور الإسلام على الأقل، وليس كما يرى الدكتور لويس عوض أن القومية العربية لا تتعدى عرب الجزيرة العربية.  وهنا يرد إلى الذهن السؤال التالي: وماذا عن الحضارات القديمة في الأرض العربية كالفرعونية في مصر والبابلية في العراق والآرامية في سورية والفينيقية في لبنان والقرطاجية في تونس؟  هذه الحضارات لم تكن معزولة عن بعضها، وان اللاحق منها تأثر بما سبقه رافقه رغم وجود نوع من الخصوصية لكل منها.  وبهذا الصدد يقول كروزيه: “هنالك مدنيتان من أضخم المدنيات التي ظهرت في التاريخ القديم، المدينة المصرية، ومدنية بلاد ما بين النهرين، تؤلفان كتلتين متجانستين، بالرغم مما بينهما من فوارق وخصائص مفردة، واستمرتا أكثر من ثلاثة آلاف سنة” (كروزيه – تاريخ الحضارات العام، ج 1، ترجمة فروم داغر، منشورات عويدات – بيروت 1964، ص 20).

وبعبارة أخرى فإن العرب المعاصرين من الوجهة الحضارية هم خلفاء الشعوب التي سكنت الأرض العربية منذ آلاف السنين، وان حضارتهم المعاصرة تمثل آخر مراحل التطور بين سكان الوطن العربي، والجيل العربي الراهن هو بأخلاقه وعاداته ومفاهيمه، أقرب إلى الجيل الذي سبقه، وهذا أقرب إلى من سبقه، وهكذا إلى نهاية السلسلة التي يمكن أن تقودنا آلاف السنين، وهذا التواصل التاريخي يسمح لنا بالقول أن الأمة العربية الحاضرة هي امتداد طبيعي حضاري تطوري لتلك الشعوب الغابرة، رغم أن الزمن البعيد وما حصل فيه من تطور هائل جعل لغة سلف القدماء غير مستخدمة عند خلفائهم الحاليين.  أنا امتداد لأجدادي ولكني لست إياهم وأختلف عنهم في همومي ومشاعري وتفكيري وطموحاتي… وإنني كعربي يفهم تاريخ الوطن العربي كسلسلة متصلة الحلقات، أشعر بالاعتزاز والفخر عندما أشاهد آثار بابل وأقرأ تشريع حمورابي، أو عندما أزور الأهرامات في مصر، وقرطاجة في تونس، وآثار تدمر في سورية…

وهنا لا بد من وقفة قصيرة حول تسخير الحكام لهذا التراث القديم وتجييره لخدمة أغراضهم السياسية والقطرية وتجريده إلى حد كبير من طابعه القومي.  ونذكر على سبيل المثال ما ورد في أجهزة الإعلام السورية “من أن حمورابي السوري وضع القوانين ليشرق العدل كالشمس فوق العالم.  وأن أرسطو اليوناني قال: الأنظمة الكنعانية أرقى قوانين الحكم في العالم… وأن المؤرخ الشهير المعاصر وِل ديورانت قال: إن قوانين سورية القديمة لا تقل رقياً عن شريعة أية دولة أوروبية حديثة” (جورجي كنعان، صحيفة تشرين السورية في 27/9/1988).

وكذلك نجد في أجهزة الإعلام العراقية مثل هذا الاعتزاز بشريعة حمورابي، وبأنها أقدم الشرائع وأن العراقيين بحضارتهم الراقية علموا العالم منذ آلاف السنين… الخ (لاحظ أن هذا الكتاب صدر في العراق عام 1993 – الناسخ).  ولعلنا نجد النزعة نفسها في أجهزة الإعلام المصرية فيما يتصل بالحضارة المصرية القديمة، وهي كذلك غنية بالتراث الذي يستحق الفخر والاعتزاز.  وينطبق ذلك على اعتزاز أجهزة الإعلام اليمنية بحضارة اليمن القديمة، وأجهزة الإعلام التونسية بالحضارة القرطاجية… الخ.

ونحن في الوقت الذي لا ننكر فيه حق الاعتزاز بهذا التراث الحضاري القديم، نجد من الخطأ والضرر معاً استخدام الأسلوب المذكور، فضرره ناجمٌ عن تعزيزه النزعة القطرية على حساب المصلحة القومية، حتى ولو كان عن غير قصد.  أما جانب الخطأ فيه فيرجع إلى سببين أساسيين: الأول – هو أن أياً من سورية والعراق لم يحمل هذه التسمية الراهنة في تلك الحقبة من الزمن.   وأن سكان هذين القطرين كانوا باستمرار جزءاً من إمبراطوريات واسعة في عهد البابليين والآشوريين والآراميين وحتى زمن الدولة العثمانية في العصر الحديث.  والثاني – أن حضارات الرافدين والهلال الخصيب والجزيرة العربية ووادي النيل لم تكن معزولة عن بعضها، بل كانت متداخلة متشابكة تتبادل التأثير والتأثر، أي أنها كانت حصيلة الاختلاط والتفاعل بين أبناء المنطقة العربية كلها.  وأخذت ملامح متقاربة في كثير من جوانبها الأساسية، ثم انصهرت في بوتقة واحدة بعد ظهور الحضارة العربية الإسلامية.

ونخلص مما تقدم إلى أن الاعتزاز بالتراث الحضاري القديم يجب أن يأخذ هذه الملاحظات بعين الاعتبار، لئلا يصبح عامل تعزيز وترسيخ للأوضاع القطرية القائمة على حساب التوجه القومي، وبناء الدولة العربية الواحدة…

على أنه لو صعدنا مع التاريخ لنصل إلى الحقبة الزمنية التي ظهر فيها الإسلام وسادت تعاليمه ودولته العربية الإسلامية، لوجدنا أن القومية العربية قد تبلورت وأخذت أبعادها الحالية بفعل اللغة التي عززها وصانها القرآن في حالات الوحدة والتجزئة على حدٍ سواء، وبفعل التراث الحضاري المشترك.

وبمناسبة الحديث عن الحضارات التي نشأت في الأقطار العربية منذ العصور القديمة حتى الوقت الحاضر، ودورها في تعزيز الشعور القومي، اعتقد بأننا كعرب لسنا بحاجة ماسة إلى الاستنجاد بالماضي وإبراز الاعتماد أو الاستشهاد بفترات القوة والازدهار التي عاشوها بفضل توحيد قواهم وامتلاكهم لمقدراتهم، وذلك على الرغم مما في إبراز هذه الجوانب المشرقة من عظة وعبرة وتعزيز للثقة بالنفس.  أقول لسنا بحاجة ماسة إلى هذا النهج، لأن مجال الاختلاف والتباين في تفسير الماضي وفهمه مجال واسع ويصعب الوصول فيه إلى القول الفصل، وإلى رأي نهائي ينال رضا الأكثرية الساحقة، ذلك لأن التاريخ العربي كأي تاريخ لأي شعب في العالم، يتضمن السلبيات إلى جانب الإيجابيات، وفيه السيئ الذي يصعب الافتخار به والحسن الذي يستحق الفخر والاعتزاز.

ومن هنا يصبح فهمه وتفسيره كما هو الأمر في وصف الكأس المملوء نصفها بالماء.  فالمتشائم يقول في وصفها: نصفها فارغ، بينما يقول المتفائل: نصفها ملآن.  وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن نخوض في مهاترات أو مجادلات عقيمة من خلال التركيز الشديد على العامل التاريخي.  وإنما التركيز في تقديري يجب أن يتم على تحديد الهدف الأساسي الذي نتطلع إليه، وهو بصورة عامة بناء الحاضر والمستقبل بما يحقق لنا التقدم والارتفاع إلى مستوى الأمم الراقية، غير أن بناء هذا الحاضر والمستقبل مرتبط بالدرجة الأولى بالمصلحة والإرادة.  ولكن وضوح المصلحة أمامنا في الإجابة على السؤال التالي: أيهما أفضل وأقوى للأمة، أية أمة، أن تكون منقسمة مجزأة أم موحدة متماسكة؟ والجواب الذي لا أشك بصحته وتؤيده التجربة والمنطق، هو أن القوة في الوحدة والتماسك.  وأن الضعف في التجزئة والتشرذم.  وإذا كان الأمر كذلك نكون قد وصلنا إلى لب المسالة، ولا يعود ثمة مبرر للتشكيك بمقومات القومية وبالتالي بشرعية الوحدة من خلال وقائع التاريخ الماضي، ولا مبرر أيضاً في تقدير أهميتها وضرورتها، وإنما يمكن أن يقع الاجتهاد أو الاختلاف حول كيفية تحقيقها، والآلية والوسائل العملية المؤدية لتحقيقها.

من كل ما تقدم نخلص إلى القول: أن القومية حقيقة حية قديمة، وليست وليدة القرن التاسع عشر، كما يذهب إلى ذلك الكثيرون.  وصحيح أن البحوث المركزة حول مفردات القومية وعوامل نشوئها ومضامينها كانت غزيرة وواضحة في القرنين الأخيرين، ولكن الحديث عنها نجده أيضاً ولو بنسبة أقل، في أحاديث ونصوص قديمة، وإليكم بعضها:

لقد ورد في القرآن الكريم “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم”، وورد أيضاً “وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم””، وفي هذا يخيل لي اعتراف بوجود المجتمعات القومية المتميزة عن بعضها باللغة، أي بالثقافة والفكر، رغم أن معنى الشعوب هنا ليست كما هي في مفهوم العصر الحاضر، ولكنها تعبر عن أقوام اجتماعية متميزة بخصائص معينة.

وقال الرسول الكريم “يا أيها الناس، إن الرب واحدٌ، والأب واحدٌ، وليست العربية بأحدكم من أبٍ وأم وإنما هي اللسان.  فمن تكلم بالعربية فهو عربي” (ابن عساكر – تهذيب تاريخ دمشق الكبير – ج 6، ص 200، ثم ص 452).  كما أن الرسول اعتبر سلمان الفارسي عربياً حين قال “سلمان من أهل البيت”، واستنكر عدم اعتبار بلال الحبشي وصهيب الرومي غير عرب.  وهكذا فكل من كان من أصل غير عربي ثم تحدث أو كتب بالعربية، ولم يصرح بانتمائه لغير العرب، فهو عربي، بل أن بعضهم دافع عن العروبة بقوة وهاجم الحركة الشعوبية.

وفي القرن الثاني للهجرة سأل أبو جعفر المنصور مولى هشام بن عبد الملك عن هويته فأجابه قائلاً: إن كانت العروبة لساناً فقد نطقنا به، وإن كانت ديناً دخلنا فيه” (عبد العزيز الدوري، مجلة شؤون عربية، العدد 43، أيلول 1987).  هذا ومن الملاحظ أن مفهوم القومية العربية هنا ينفي الجانب العرقي ويؤكد على اللغة والتراث الروحي، ثم أن الكثيرين من الكتاب العرب المعاصرين ربطوا بين العروبة والإسلام (عبد الرحمن الكواكبي، رشيد رضا، عبد الحميد بن باديس، شكيب أرسلان، نجيب عازوري، عبد العزيز الثعالبي، علال الفاسي، ميشيل عفلق، شبلي العيسمي).

وإليكم ما يذكره الجاحظ (255 هجري) عن كيفية نشوء المشاعر القومية، ففي إحدى رسائله قال: “وقد جُعِل إسماعيل (ص) وهو ابن أعجميين عربياً، لأن الله فتق لهاته بالعربية المبينة، ثم حباه من طبائعهم ومنحه من أخلاقهم وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهممهم”.  (رسائل الجاحظ – طبعة السندوبي، ص 168).  وهنا يضيف الجاحظ إلى عامل اللغة، التراث والتقاليد الاجتماعية، وهي من العوامل الفاعلة في تكوين الشعور القومي الموحد.

أما ابن تيمية (728 هجري) فيضيف إلى عاملي اللغة والتقاليد، عاملي الجنس والأرض، كما يشير إلى ظواهر تطوره في زمن الإسلام فيقول” “اسم العربي في الأصل كان اسماً لقومٍ جمعوا ثلاثة أوصاف، أحدها: أن لسانهم كان بالعربية، الثاني أنهم كانوا أولاد العرب، الثالث: أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي جزيرة العرب.  فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار وسكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب.. وما ذكرنا من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب، يثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسياً، وينتفي عمن لم يكن كذلك، وإن كان أصله هاشمياً”.  ويروي ابن تيمية لشخصيات بارزة من السلف قولهم: أن أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال: “من ولد في الإسلام فهو عربي”.  وهكذا يتحدث ابن تيمية عن تطور مفهوم العربي والعروبة.  فبعد أن كانت مقوماتها اللغة والعنصر العربي والأرض، أصبحت في زمن الإسلام اللسان العربي والأخلاق العربية وتراث الإسلام. (ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، المؤسسة السعودية بمصر، شباط 1980، ص 164-166).

أما ابن منظور (711 هجري) في كتابه المشهور “لسان العرب” فيرى أن العربي هو من سكن بلاد العرب ونطق بلسان أهلها… وأن المستعربة قومٌ من العجم دخلوا في العرب فتكلموا بلسانهم وحكوا هيئاتهم… (ابن منظور- لسان العرب- دار صادر- الجزء الأول- مادة عرب).  ولعلنا نشير أخيراً إلى أن ابن خلدون تحدث عن دور العصبية في تسلم الحكم وحمايته بما يشبه دور الرابطة القومية في بناء الدولة وحمايتها، فقال أنها تقوم على النسب أو مجرد الاعتقاد بوجوده “فاللحمة الحاصلة عن الولاء، مثل لحمة النسب أو قريب منها..” كما أن الدين بما فيه من عقيدة وإيمان، يربطان المنتمين إليه “يشكل قوة تضاعف من العصبية وتمكن من الغلبة في الحكم” (تاريخ ابن خلدون – المقدمة – دار البيان – المجلد الأول ص 129 ثم ص 158).

وبانتقالنا إلى العصر الحاضر، لا نجد اختلافاً كبيراً في توضيح معنى القومية العربية ومقوماتها ومضامينها، وأهمها اللغة والتراث والولاء للأمة، مع نفي الجانب العرقي وتوكيد الطابع الإنساني.  ففي المادة العاشرة من دستور حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أقره مؤتمره التأسيسي عام 1947 ورد “إن العربي هو من كانت لغته العربية وعاش في الأرض العربية، أو تطلع إلى الحياة فيها وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية”.  كما ورد في المادة الثالثة من دستور الحزب أنه “يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة، وبأن الشعور القومي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً، هو شعور مقدس حافز على التضحية، باعث على الشعور بالمسؤولية، عامل على توجيه إنسانية الفرد توجيها عملياً مجدياً.  والفكرة القومية هي إرادة الشعب العربي أن يتحرر ويتوحد، وأن تعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ، وأن يتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرها القويم إلى الخير والرفاهية”.

وبعد: فإن الفكر القومي العربي الحديث فكر إنساني علمي متحرر ينفي العامل العرقي والعنصري ويشجب التعصب ويعتبر اللغة والعوامل الثقافية والروحية هي الأصل والأساس في بناء القومية العربية.

2024 الصوت العربي الحر.