الجزء التاسع: مفاهيم أساسية في القومية والقومية العربية، والعلاقة العربية-التركية في ظل العثمانيين/ عصمت سيف الدولة

March 19th 2010 | كتبها

سلسلة التثقيف القومي

 

الجزء التاسع: مفاهيم أساسية في القومية والقومية العربية، والعلاقة العربية-التركية في ظل العثمانيين/ عصمت سيف الدولة

 

لائحة القومي العربي arab_nationalist@yahoogroups.com

 

 

 

مفاهيم أساسية في القومية والقومية العربية، والعلاقة العربية-التركية في ظل العثمانيين، من المفكر الكبير عصمت سيف الدولة:

مقدمة: في هذه الحلقة من سلسلة التثقيف القومي، نقدم مجموعة من المفاهيم الأساسية في القومية والقومية العربية من “نظرية الثورة العربية” للمفكر القومي العربي الكبير عصمت سيف الدولة، كما نقدم منه نبذة عن العلاقة العربية-التركية في ظل العثمانيين، أما البطاقة التعريفية الخاصة بالمفكر سيف الدولة، فتجدونها في نهاية المادة – إ. ع

 

عصمت سيف الدولة * (بطاقة التعريف في نهاية المادة)

 

مقتطفات من الكتاب الثالث ل”نظرية الثورة العربية”، ص 135- 155.

 

وحدة الوجود القومي:

 

يقولون في تعريف الأمة: “إنها جماعة من البشر تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة… الخ…”.  فلماذا – إذن – نسرد كل هذا لنصل إلى ما يقولون؟  لأن هناك أقوالاً أخرى في “الأمة” غير صحيحة وإن كانت متداولة في الفكر العربي.  ونعني بها تلك الآراء التي لا تُدخِل “الأرض المشتركة” عنصراً في التكوين القومي (ساطع الحصري – إ. ع).  وهو خطأٌ كبير. إذ أن أية نظرية في “الأمة” لا تسلم بأن “الأرض المشتركة” عنصر لازمٌ لأية جماعة لتكون أمة هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة.  ذلك لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية الألمانية، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي، أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية، أو حتى وحدة الإرادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية… الخ… كل هذه عناصر ممكن أن تتوافر، وأن تجتمع، لجماعات بشرية لا ترقى إلى مستوى “الأمة” كالمجتمعات القبلية مثلاً.  إن هذه نقطة هامة لا نعتقد أن الأدب القومي قد منحها كل العناية التي تستحقها، مع أنها – كما سنرى – من العناصر الجوهرية في نظرية القومية.

 

على أي حال لقد عرفنا من حديثنا عن كيف يتكون الوجود القومي، وكيف تكتمل الأمة تكويناً، أن المميز الأساسي للأمة عن الجماعات الإنسانية السابقة عليها هو عنصر الأرض الخاصة المشتركة، الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الإنسانية الأخرى، المشتركة يما بين الناس فيها.  ومن تكون الأمة تكويناً واحداً من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معاً.  فنحن عندما نقول – مثلاً – أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل (الأمة) الذي يتضمن الجزء (الوطن).  فالشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكوِّنان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي عليها إلى أمة، أو من أرض لا تخص شعباً بعينه إلى أمة، إلا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكوِّنا وجوداً واحداً هو الأمة العربية.

 

وإذا كان لا بد من تعريف فإن الأمة مجتمع ذو حضارة متميزة، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة، تكون نتيجة تطور تاريخي مشترك.  أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة أو الثقافة أو الدين… فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من أمة إلى أمة تبعاً لظروف التطور التاريخي الذي كونها.  أما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن أمة.  وأما الحالة النفسية المشتركة، والولاء المشترك… الخ فتلك معبرات في الأفراد عن انتمائهم إلى أمة قائمة.  وتختلف من فرد إلى فرد في الأمة الواحدة تبعاً لوعيه بعلاقته بمجتمعه القومي.  ولكن الوجود القومي لا يتوقف عليها.  وقد قلنا أن الأمة مجتمع تكون نتيجة “تطور” تاريخي مشترك لأن القول بأنها تكوين تاريخي لا يكفي للدلالة على أنها طور من المجتمعات أكثر تقدماً من الأطوار السابقة عليه.

 

ولا بأس من أن ننبه – هنا – إلى أن معرفة أو تعريف “الأمة” ليست مباراة في المقدرة على الصياغة، بل هي ضرورة لازمة لمعرفة الظاهرة الاجتماعية التي سيكون كل الحديث – بعد هذا – دائراً حول تطورها.  ولقد نعرف من كثير مما كتب عن الأمة في الأدب العربي “تساهلاً” في معرفة الأمة والتعريف بها.  فإذا بالانطلاق منها إلى قضايا المستقبل يصل بهم إلى مآزق غير سهلة.  ونضرب لهذا ثلاثة أمثلة حية: المثل الأول “التساهل” في عنصر الأرض الخاصة والمشتركة والتركيز على الوحدة الثقافية أو الروحية وهي النظرية في الأمة التي قامت عليها الحركة الصهيونية.  والمثل الثاني “التساهل” في عنصر التطور التاريخي والتركيز على وحدة الإرادة وهي النظرية التي أدت وتؤدي بكثير من المثقفين العرب إلى الخطأ في فهم مشكلة الأقليات القومية.  والمثل الثالث هو الاختلاف في الرأي حول تقييم الحركة القومية الراجع إلى الاستعمالات المتباينة لكلمة “أمة”.  ويغذي هذا الاختلاف أن اللغات ذات الأصل اللاتيني تتضمن، وتستعمل، مفردات لغوية لا تتفق مع المفردات العربية المستعملة في الأدب القومي.  أهمها ما يترجم عادةً إلى كلمة “قوميات”.  المهم – هناك – يقصدون بها ما يمكن أن تدل عليه كلمة: “أمم” أو “أقليات قومية”.  ونحن نعرف اللبس الذي أدت إليه الترجمة – الخاطئة أو المتعمدة – لما كتب في الأدب الماركسي عن “المسألة القومية” فإذا بها تصبح “المسألة الوطنية”.  وقد عرفنا من قبل ما يؤدي إليه هذا اللبس من خلط بين “حركات التحرر الوطني” و”الحركات القومية”.

 

أياً ما كان الأمر فإن فيما سبق بياناً للأمة كما نفهمها.  وبذلك المفهوم سنستعملها فيما يلي من حديث.

 

وحدة المصير القومي:

 

والآن نعيد السؤال:  ما هو مجتمعنا الذي ننتمي إليه؟  ما هي حقيقته الموضوعية كتكوين تاريخي؟  هل نحن ما زلنا مجموعات من القبائل، أم أننا مجموعة من الأمم، أم أننا ننتمي إلى أمة عربية واحدة؟

 

والإجابة هنا تكاد تكون جاهزة: نحن أمة عربية واحدة.  والأمة العربية هي مجتمعنا الذي ننتمي إليه.  وهي إجابة غير منكورة من كل الذين يعنينا أن نقيم معهم حواراً بناءً حول المستقبل العربي ونظريته.  وقد اكتشف كثيرون حقيقة الوجود القومي العربي من شعورهم بالانتماء إلى هذه الأمة العربية التي تتجاوز مجتمعاتهم السياسية بشراً وأرضاً، أي من خلال ما يسمونه “الحالة النفسية المشتركة” التي تعبر بذاتها عن اكتمال التكوين الاجتماعي الذي تعكسه.  واكتشفه آخرون عن طريق البحث العلمي في تاريخ الأمة العربية.  واكتشفه غيرهم عن طريق الممارسة حيث تعاملهم شعوب الأمم الأخرى على أساس أنهم “عرب” ينتمون إلى أمة عربية، بل أن كثيرين اكتشفوا انتماءهم القومي إلى الأمة العربية من خلال صدمة النكبة سنة 1948، وصدمة النكسة سنة 1967.  المهم أنه قد أصبح مسلماً بأننا ننتمي إلى أمة عربية مكتملة التكوين، وهذا يعفينا من جهد لا مبرر له لإثباته.  فنحن مقبولون “كأمة” وهذا يكفي.  يكفي لنقول أننا أمة عربية.  وبعد؟

 

هذا هو السؤال الدقيق.  إن مجرد القول بأننا أمة عربية واحدة قد لا يعني شيئاً عند الكثيرين.  ونحن نعرف أن كثرة من الناس يسلمون معنا بأننا أمة عربية ثم لا يرون أن لهذا أثراً في مخططات النضال من أجل المستقبل.  ومعنى هذا أن ثمة فجوة في الحوار لا بد من أن تملأ لنلتقي.  خاصة ونحن نتحدث عن الوجود القومي في إطار نظرية النضال من أجل المستقبل.

 

لا يمكن فهم العلاقة بين الوجود القومي ووحدة مصيره إلا إذا عرفنا “لماذا” تكونت الأمم؟ لماذا كنا أمة عربية مثلاً؟ هل كان ذلك مصادفة تاريخية، أو تم اعتباطاً لا أحد يدري لماذا؟  إنه سؤالٌ لم يكن لنا حظ التعرف على أية إجابة عليه في أية دراسة أخرى، مع أنه سؤال حاسم.

 

“في الإنسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل. ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض بالعمل.  إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ولكن تتجاوزهما إلى خلق جديد”.  هذا هو قانون التطور الجدلي كما عرفناه من “جدل الإنسان” وترجمته الاجتماعية هي: أن المجتمعات تتطور من خلال العمل المشترك (الجماعي) لحل التناقض بين الواقع (حصيلة الماضي) والمستقبل (كما تعبر عن حاجاتها) أو بتعبير أسهل: إن المجتمعات تتطور خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائماً إشباع حاجاتها المادية والثقافية المتزايدة أبداً.

 

إذا نظرنا على ضوء هذا إلى تطور المجتمعات نجد أن التكوين القبلي كان حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال حل مشكلات الطور الذي سبقه.  فهو أكثر منه تقدماً، وأكثر منه شمولاً، فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف إليه ما يحدده كما يحدد الكلُ الجزءَ.  فالمجتمع القبلي لم يلغِ الأسرة فيه، بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة بين ذوي الدم الواحد في حدود مشكلاتهم العائلية، تضاف إليها الرابطة القبلية الواحدة فيما يتجاوز حدود الأسرة إلى القبيلة إضافةً كانت حلاً لمشكلة تحققت بها للأفراد، حتى من الأسرة الواحدة، حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها من مقدرة على التحرر.  اللغة الواحدة بقيت كما كانت وسيلة للمعرفة ولتبادل الرأي ولكنها أصبحت أكثر غنى بما أضاف الناس إليها في المجتمع القبلي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والبطون والعشائر التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها.  ومثل هذا تحقق في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل فكسب به كل فرد من أية أسرة حريات أكثر مما كانت له وهو محصور في إمكانيات بني دمه… (كذلك) التكوين القومي للمجتمعات (كان) حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات.  فهو أكثر منه تقدماً، أي فيه من الحريات للإنسان أكثر مما كان.  وهو أكثر منه شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف إليه ويحدده كما يحدد الكلُ الجزءَ.  فكما أن المجتمع القبلي لم يلغِ الأسرة بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً.  يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد، بقيت الأسر في الأمة الواحدة وأضيفت إليها الروابط المحلية والإقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي، تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية، قرىً ومدناً ومناطق وأقاليم، ثم أضيفت إليها الرابطة القومية إضافةً كانت حلاً لمشكلات الأسر والأقاليم ذاتها، وتحققت بها للأفراد من الأسر ومن الأقاليم حريات لم تكن لتتحقق لمهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها أو الروابط المحلية وحدها.  اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي، وأصبحت أكثر غنى بما أضاف إليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدةٍ طورتها فتجاوزت لغة الأسر والأقاليم التي بقيت لهجات تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها.  ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل، فكسب به كل فرد من أية أسرة، ومن أي إقليم، علماً وثقافةً وحريات أكثر مما كان له وهو محصور في إمكانيات بني دمه أو عشيرته أو إقليمه.  والإضافة لا تلغي المضاف إليه ولكن تكمله فتغنيه… الخ…

 

هكذا جاء كخلاصة لدراسة طويلة في “الأسس” باللغة المنتقاة عل ما تفرضه الدراسة هناك.  ونقوله هنا باللغة البسيطة التي تناسب الحوار المفتوح: إننا لم نكن أمة عربية اعتباطاً، بل تكونَّا أمةً عربيةً من خلال بحث الناس عن حياة أفضل.

 

فإذا كنا قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية إلى الطور القومي، أي ما دمنا أمة عربية واحدة، فإن هذا يعني أن تاريخنا، الذي قد نعرف كل أحداثه وقد لا نعرفها، قد استنفذ خلال بحث أجدادنا عن حياةٍ أفضلَ كل إمكانيات العشائر القبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكوِّن أمةً عربيةً واحدة، وأنها عندما اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غير قابل للنقض، على أن ثمة “وحدة موضوعية”، قد نعرفها وقد لا نعرفها، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي، أياً كان مضمونها، وأنها، بهذا المعنى، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانات قومية، وقوى قومية، في نطاق المصير القومي.  قد يحاول من يشاء أن يحل مشكلاته الخاصة بإمكانياته القاصرة، ثم يقنع بما يصيب، ولكنه لن يلبث أن يتبين، في المدى القصير أو الطويل، أن الحل الصحيح المتكافئ مع الإمكانيات القومية، المتسق مع التقدم القومي، قد أخطأه عندما اختار أن يفلت بمصيره الخاص من الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولُها المصير القومي الواحد.

 

ذلك هو ما تعنيه “وحدة المصير القومي”.

 

إنه ذات التعبير في مجتمع قومي عن البديهية التي عرفناها من قوانين التطور الاجتماعي: “ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً… فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع أن يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل.  أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً.  مؤدى هذا أن كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عم مدى إدراك صاحبها لحقيقتها.  وإن أية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين.  قد يكون لها أكثر من حل خاطئ، قاصر أو متجاوز أو مناقض، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا أن يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد”.

 

وحدة الدولة القومية:

 

لا يتفق فقهاء علم القانون على تعريف واحد للدولة، ولكنهم يتفقون على العناصر التي يجب أن تتوافر لأي مجتمع ليكون دولة، فيقولون أنها ثلاثة: (1) شعب، (2) أرض، و(3) سلطة شاملة الشعب والأرض جميعاً مستقلة عن أية سلطة أخرى.  ويضيف بعضهم “الاعتراف” كعنصر رابع وإن كان هذا محل خلاف كبير يدور حول ما إذا كان الاعتراف لازماً لتوجد الدولة أم للإقرار بوجودها أم للأمرين معاً.  وفقهاء علم القانون، في كل هذا، “يصفون” الدولة “النموذج”، ولكنهم لا يهتمون بكيفية قيام الدولة “الواقعية”.  فيكفيهم أن تقوم في الواقع بعناصرها النموذجية لتكون عندهم دولة، ثم يبدأون، بعد هذا، في شرح دلالات عناصرها والآثار القانونية (الحقوقية) المترتبة عليها.  غير أن أكثر جهد فقهاء علم القانون كان وما يزال منصباً على شرح دلالة وآثار ذلك العنصر الثالث: “السلطة” أو “السيادة” كما يقال في كثير من كتب القانون حيث تتداول الكلمتان كما لو كانتا ذواتي مدلول واحد.  وفي هذا يدور الحوار الخصيب حول ما يسمى “المشكلة الدستورية”.  ما هي السيادة؟  أو ما هي السلطة؟  وما مصدرها؟  ومن صاحب الحق في ممارستها؟  .. وما هي حدودها.. الخ.  وما يزال ما يقولونه في هذا غير منتهٍ إلى اتفاق.  ذلك لأنهم يعالجون موضوعاً ذا جذور تاريخية موغلة في القدم كانت السلطة فيها أسبق إلى المعرفة من السيادة.  وكان مصدرها ما يسمى “بالتفويض الإلهي”.  حيث يمثل الملك إرادة الله في الأرض ولا يكون مسئولاً إلا أمامه في السماء.  وقد انتهى هذا المفهوم بنهاية القرن الثامن عشر حيث أصبح الشعب مصدر السلطة.  وفيه دخل تعبير “السيادة” لغة القانون.  فالشعب مصدر السلطات لأن الشعب، وليس الملك، هو السيد.  ولكن الشعب السيد لا يمارس سيادته فما هي العلاقة بينه وبين من يمارسها؟  أو ما هي العلاقة بين السيادة والسلطة؟  وفي هذا كلامٌ كثير، ووراءه كل تلك النظريات التي شاعت في أوروبا قبل القرن الثامن عشر وأبدعها فلاسفة الليبرالية من أمثال روسو ومنتسكيو الذين كانوا يبذرون أفكارهم للتمهيد للثورة ضد الإقطاع.  ولسنا ندخل ساحة الحوار مع هؤلاء أو مع فقهاء علم القانون.  إنما نحاول هنا أن نترجم نظريتنا القومية إلى لغة القانون.

 

ويمكننا منذ البداية أن نفرق بين السيادة والسلطة.  فالسيادة أشمل من السلطة إذ السلطة هي “ممارسة” السيادة.  أو أن حق السيادة هو مصدر حق السلطة.  وهما في علاقة قريبة من علاقة حق الملكية بحق الانتفاع، إذ الأول يتضمن الأخير وهو مصدره.  ويترتب على هذا – أولاً – أن من يملك حق السيادة يملك حق السلطة، ولكن ليس من اللازم أن يكون مالك حق السلطة مالكاً لحق السيادة.  ويقوم هذا عندما يمارس صاحب حق السيادة حقه في السلطة لا بنفسه ولكن بمن يختاره ليمثله وينوب عنه في ممارسته.  ويترتب عليه – ثانياً – أن من يمارس السلطة نيابة عن صاحب حق السيادة يظل تابعاً لمن أنابه فكما يختاره، له أن يحاسبه وأن يعزله وأن يعين غيره.  وعندما يسلب منه هذا الحق يكون قد فقد سيادته.  فإذا طبقنا هذا على المجتمعات نجد أن الشعب هو صاحب حق السيادة بما يتضمنه من سلطة.  أما محل الحق فهو الأرض.  ومن هنا يكون للسيادة مفهوم ذو حدين: سيادة الشعب على أرضه دون الشعوب والجماعات الأخرى (الاختصاص بالأرض).  وسيادة كل الشعب على أرضه (المشاركة فيها).  ولما كان الشعب مكوناً من أفراد عديدين، فإنه يمارس سيادته في حديها من خلال أفراد يمثلونه وينوبون عنه ويكونون مسئولين أمامه.  أولئك الذين يطلق عليهم لفظ الحكومة.  هنا تبقى السيادة للشعب وتمارس الحكومة السلطة نيابة عنه ثم تتوزع وظائف السلطة على أجهزة متخصصة في التشريع أو التنفيذ أو القضاء… ويصاغ كل هذا في عديد من القواعد الملزمة لكل واحد من الشعب أياً كان موقعه.  وبمجموع تلك القواعد يتحول المجتمع إلى مؤسسة منظمة.  منظمة بمعنى أن علاقة الناس فيها بالأرض وعلاقاتهم فيما بينهم وعلاقاتهم بمن ينوبون عنهم في ممارسة السلطة تكون محددة بقواعد ملزمة لهم جميعاً ولكل واحدا منهم.  ونلتقي هنا بكلمة الشرعية، أي اتفاق السلوك الفردي أو الجماعي مع قواعد ذلك النظام القانوني.  ويصبح غير مشروع كل سلوك لا يتفق معها.  تلك القواعد التي تضبط سلوك الناس في مجتمع منظم هي ما يسمى “بالقوانين” التي تطلق عليها بدورها أسماء شتى من أول الدستور (القانون الأساسي) إلى آخر الأوامر الإدارية.  المهم أنه أياً كان اسم القاعدة الملزمة فهي جزء من نظام قانوني (حقوقي) غايته أن يضبط سلوك الناس في المجتمع على قاعدتين تمثل كل منهما حداً من حدي السيادة، الأولى اختصاص الشعب بالأرض دون غيره، والثانية مشاركة الشعب على أرضه.  وعندما يقوم هذا النظام في أي مجتمع يتحول المجتمع إلى منظمة قانونية (حقوقية) من البشر والأرض، أو كما يقال من الشعب والوطن، أي يتحول إلى “دولة” بعناصرها التي يعرفها فقهاء علم القانون، الشعب والأرض والسلطة (السيادة).

 

ثم يأتي الاعتراف صادراً من دولة أخرى ويكون من آثاره التزام الدولة المعترفة بالآثار الملزمة للقواعد التي تشكل بمجموعها المنظمة القانونية (الدولة) المعترف بها.

 

ولقد عرفنا من قبل كيف يتحدد عنصرا البشر والأرض في المجتمع القومي خلال التطور التاريخي، وكيف أن الأمة هي تكوين اجتماعي من شعب معين وأرض معينة خاصة به ومشتركة فيما بينه.  ويضيف هذا إلى مفهوم السيادة مضموناً جديداً هو المشاركة التاريخية فيما بين الأجيال المتعاقبة من الشعب.  وننتهي إلى عدم شرعية تنازل الشعب، أي جيل من الشعب، عن السيادة على الأرض.  وأن شرعية الدولة ذاتها منوطة باتفاق نطاقها البشري والإقليمي مع التكوين التاريخي للمجتمع.

 

بناء على هذا كله نستطيع أن نقول أننا عندما نكون في مواجهة أمة فإن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها، بمعنى أن الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما محددان تاريخياً هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب على وطنه القومي ومشاركته التاريخية فيه.  وهي لا بد أن تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة.  إذ عندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه.  وعندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن.

 

غير أن هذا ليس كل شيء.

 

فقد عرفنا أن وحدة المصير القومي تعني أن “ثمة وحدة موضوعية”، قد نعرفها وقد لا نعرفها، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي، أياً كان مضمونها.  وأنها، بهذا المعنى، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية، وقوى قومية، في نطاق المصير القومي.  ومؤدى هذا أن وحدة الدولة القومية شرط لازم لإمكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي، وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع.  إن هذا لا يعني أن الناس في الدولة القومية سيعرفون حتماً حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو أنهم سيحلونها فعلاً إنما يعني أن كل هذا يكون متاحاً لهم في الدولة القومية أما الباقي فيكون متوقفاً على مقدرتهم على الانتفاع به.

 

ونلاحظ هنا ملحوظة دقيقة.

 

إذا كانت ممارسة حل المشكلات الاجتماعية في مجتمع قومي تتم في غير نطاق الدولة القومية، فإننا لا نستطيع أن نعرف – من مجرد الممارسة – حقيقة مشكلة غياب الدولة القومية.  لأن الدولة القومية هي الشرط الأول لمعرفة المشكلات التي يطرحها الواقع الاجتماعي القومي بما فيها مشكلة الدولة ومناسبتها لأداء وظيفتها.  نريد أن نقول أنه مهما عرفنا من المشكلات الاجتماعية في مجتمعنا القومي وحلولها والإمكانيات المتاحة لحلها، فإن غياب الدولة القومية يعني بذاته أننا نواجه مشكلة “نقص” المعرفة بالمشكلات وحلولها، و”نقص” الإمكانيات المتاحة لحلها.  إن هذا النقص في المعرفة لا يمكن أن يعوض إلا علمياً وعقائدياً.  أما النقص في الإمكانيات فلا يعوض إلا بالدولة القومية ذاتها.  لهذا فإننا نلاحظ أن الذين يتصدون لحل المشكلات الاجتماعية في غيبة الدولة القومية، بدون وعي قومي، لا يعرفون من الممارسة ضرورة الدولة القومية في المجتمع القومي إلا بقدر ما يفشلون وفي المجالات التي يفشلون فيها وفي وقت الفشل.  ومن هنا لا يتذكرون الوحدة إلا عندما يفشلون ولا يطلبونها إلا في مجالات فشلهم ولا يقبلونها إلا بقدر ما تكون “نافعة” كتعويض لهذا الفشل… نافعة في اكتمال معرفتهم بالمشكلات أو إكمال معرفتهم بحلولها أو إكمال إمكانيات حلها.  فهي مرتبطة عندهم بالمنفعة كما يلمسونها، وأينما يلمسونها، وعندما يلمسونها بالممارسة.  وهو طريق تجريبي للمعرفة طويل وباهظ الثمن، ولكنه يؤدي، في النهاية، إلى ذات المنطلق العقائدي الصحيح.  إذ لما كانت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية في الواقع الاجتماعي القومي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي (المجتمع القومي) ذاته فإن الممارسة في غيبة الدولة القومية ستعلم أصحابها كيف يقبلون الحل الصحيح لمشكلاتهم: الوحدة.  هذا لا شك فيه طال الزمان أم قصر.  كل ما في الأمر أنهم لن يتعلموا إلا بعد أن يبذلوا جهوداً مهدرة في محاولات التطور الفاشلة.  وهذا هو الفارق بين المعرفة العلمية لقوانين التطور الاجتماعي والتزامها وبين الجهل بها أو تجاهلها وممارسة التطور الاجتماعي بالتجربة والخطأ.  الفارق بين حركة التطوير الاجتماعي العقائدية وبين حركة التطور الاجتماعي التجريبية.

 

وعندما نكون عقائديين، عندما نكون علميين، ونعرف أن واقعنا الاجتماعي هو “أمة” نطلب الوحدة السياسية (الدولة القومية) حتى نوفر لأنفسنا أول شروط المقدرة على التطور ولا نطلبها لحل إحدى مشكلات التطور.  نطلب دولة الوحدة لمجتمعنا القومي لنستطيع أن نتطور “فيها” ولا نطلبها لنطور “بها” واقعنا الإقليمي مثلاً.  الأول موقف قومي سيتنصر حتماً والآخر موقف انتهازي سينكشف حتماً فينهزم.

 

فما القومية؟

 

القومية:

 

قلنا أن الإضافة إلى الاثنين – خلال الزمان – تمد أبعاد المجتمع الصغير، أو الجماعة، على مستويات ثلاثة: امتداد أفقي حيث يتعدد الناس ويحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الأفراد.  وامتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلى الحاجة الجماعية أو المشتركة.  واتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف إلى ما كان موجوداً وهكذا عندما يكتمل التكوين القومي ونكون في مواجهة “أمة”، تكون لكل أمة أبعاد ثلاثة.  البعد الأول يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الإنسانية الخارجة عنها.  والبعد الثاني يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الإنسانية الداخلة فيها.  والبعد الثالث يحددها من حيث مصيرها كأمة.  هذا بالإضافة إلى حدها الرابع (الحد الزماني) الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة في وقت معين.

 

من مجموع هذه الأبعاد التي تصل الأمة بغيرها، كما يحددها ويتحدد بها الوجود القومي نعرف أن “القومية” وصف للعلاقة التي تجمع الناس في مجتمعهم القومي.  والموقف القومي هو الذي يتحدد متفقاً مع علاقات المجتمع القومي بغيره.  والحركة القومية هي التي تستهدف تطوير المجتمع القومي في حدود التزامها تلك العلاقات.  أما المجتمع القومي فهو الأمة نفسها.

 

إننا – هنا – نلتقي بأولى مميزات “نظرية تغيير الواقع القومي”. 

 

إنها أولاً وقبل كل شيء نظرية قومية.  بمعنى أنها بيان لمنطلقات وغايات وأساليب تطوير مجتمع حقيقته التاريخية – كما هي – أنه “أمة”.  فهي تبدأ من الوجود القومي إلى مصيره القومي وتتعامل معه في حركته “كما هو”.  إذن، نحن لم القومية نظرية لتغيير واقعنا الاجتماعي تعصباً مرضياً بل قبولاً علمياً للتعامل مع واقعنا الاجتماعي “كما هو”.  وقد عرفنا من نظرية تطور المجتمعات، التي هي وحدة واحدة بالنسبة إلى كل المجتمعات، أن التعامل مع الواقع الاجتماعي “كما هو” هو أول مفاتيح النجاح في حل مشكلات التطور الاجتماعي في أي مجتمع.  فإذا كنا نرفض أية نظرية “لا قومية” مهما كانت وعودها مغرية فلأننا نعرف أنها نظرية فاشلة في تحقيق ما تعد به في واقعنا العربي المحدد موضوعياً بأنه واقع قومي.  وأنها إن تكن نظرية محدودة ومقصورة على تطوير الواقع الجزئي في مجاله (مجال اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي… الخ) أو في مكانه (تطوير الواقع في مكانٍ ما من الوطن العربي)، فإنها ستكون فاشلة أيضاً ما لم تكن متسقة كجزء مع النظرية القومية لتطور الأمة العربية، حتى لو لم يكن فشلها إلا في عجزها عن أن تحقق في واقعها الجزئي ما يمكن موضوعياً تحقيقه طبقاً للنظرية القومية.

 

ولنبدأ بالبعد الأول للوجود القومي.

 

القومية والإنسانية:

 

“في الكل الشامل للطبيعة والإنسان: كل شيء مؤثر في غيره متأثر به”.  هذا هو القانون.  وتطبيقه على الوجود القومي وحركته يؤدي إلى معرفة أن كون “الأمة” مجتمعاً من بني البشر ذا خصائص متميزة لا يعني أنه ليس جزءاً من وجود وحركة المجتمع الإنساني كله.  ومن هنا لا تعني “القومية” الانعزال عن القضايا التي تمس المجموعة الإنسانية ككل أو أية مجموعة إنسانية منها.  بل تعني، من ناحية، المشاركة فيها بقدر ما تؤثر في الوجود القومي وحركته.  وتعني، من ناحية أخرى، أن الحركة القومية منضبطة بحدود القضايا التي تمس المجموعة الإنسانية ككل أو أية مجموعة إنسانية أخرى، على أساس أنها مؤثرة فيها حتما.  إن مشكلة السلام العالمي، في عصر الأسلحة النووية، تقدم لنا مثلاً حياً لهذا التأثير المتبادل بين الوجود القومي والوجود الإنساني.  ولكنه ليس المثل الوحيد.  في حدود هذا يظل الوجود القومي مجرد وجود خاص.  فهو إضافة إلى، وليس انتقاصاً من، وجود الجماعات الإنسانية الأخرى.  وهكذا تكون “القومية” علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية. 

 

غير أنه يبدو أن “الممارسة” التاريخية لا تؤيد هذا.  فإن “القومية” متهمة بأنها كانت وما تزال علاقة عدوانية.  ويضربون لهذا مثلاً، أمثلة عديدة في الواقع، من تاريخ العدوان الاستعماري المستمر على الشعوب، ومن الحرب “الأوروبية” الثانية التي شنتها النازية والفاشية.  ويقولون أن كل هذا كان، وما يزال، أثراً من آثار القومية.  والواقع أنه ليس من الغريب – كما سنرى – أن يكون كثير من المعتدين الاستعماريين، والنازيين، والفاشيين قد شنوا حروبهم العدوانية باسم القومية.  ولكن الغريب حقاً أن يصدق بعض الذين يدعون المعرفة العلمية ما يقوله المعتدون.  إن أقل مقدرة من المعرفة العلمية بالاستعمار وبالنازية وبالفاشية، وغيرها من الحركات العدوانية، يكشف عن حقيقة القوى الكامنة وراء الحروب العدوانية، وبواعثها، وأغراضها.  إنهم الرأسماليون الذين يستغلون، أول ما يستغلون، الشعوب من أممهم ذاتها، ثم يستعملونها وقوداً للحروب التوسعية بقصد اغتصاب ما لدى الشعوب الأخرى من ثروات وقوى لاستهلاكها أو لتصنيعها ثم إعادتها إلى ذات الشعوب المقهورة لاستهلاكها في مقابل الأثمان التي يفرضها الغاصبون.  كل هذا بقصد تحقيق مزيد من “الربح” للرأسماليين.  لا جشعاً منهم، كما يقال عادة، ولكن لأن تلك هي طبيعة النظم الاستغلالية حيث لا يستطيع أحد إلا أن يكون سارقاً أو مسروقاً بحكم قانون المنافسة المخرب.  والمستغلون الذين كانوا قد أخضعوا شعوبهم قبل أن يتطلعوا إلى الشعوب الأخرى، وأبقوها على الجهالة قسراً، وسمموا عقولها بما يملكون من مقدرة اقتصادية في الإعلام والتوجيه، ما كانوا، ولا يمكن أن يكونوا، صادقين معها فيطلبوا منها أن تبعث أبنائها إلى مجازر الحروب “فيما وراء البحار” أو “فيما وراء الحدود” للبحث عن مصادر جديدة للثروة والربح، ثروتهم الخاصة وأرباحهم الخاصة، فلا يجدون ما يسترون به جرائمهم، ويدفعون به الشبهة عن مطامعهم، إلا أكثر الروابط الإنسانية بعداً عن العدوان: القومية.  وهم لا يتورعون عن استغلالها متى كانت أكثر ملاءمة لإخفاء الأسباب الحقيقية للعدوان.  بل أنهم قد يجدون حدثاً ما، وإذا لم يجدوه اختلقوه، لإيهام الناس بأن ثمة اعتداء على أمتهم، ليدفعوا الناس إلى مجازر الحروب العدوانية التي لا علاقة لها بالقومية.

 

آية هذا أننا بقدر ما نجد في التاريخ من حروب عدوانية باسم القومية، نجد حروباً تحررية باسم القومية أيضاً.  وفي الحرب “الأوروبية” الثانية كانت النازية تغزو بولندا باسم القومية الألمانية، وكانت بولندا تدافع عن وجودها باسم القومية البولندية.  وانهزمت فرنسا في حربها القومية ضد العدوان النازي.  وانتصر الاتحاد السوفييتي في حربه “القومية الكبرى” ضد النازية.  فأيهم كان أصدق قولاً في “القومية”؟ … فهل تصدق إدانة القومية بما تجني أيدي المستغلين، مصاصي دماء الشعوب، شعوبهم والشعوب الأخرى؟  إننا قبل أن ندين أية حرب ينبغي أن نعرف لماذا، ولمصلحة من يخوض كل طرف حربه، بصرف النظر عن التضليل الدعائي الذي هو واحد من مصلحة الحروب.

 

إنما المسألة هي أن الوحدة القومية تعبئ كل إمكانيات الأمة.  فهي خطوة قومية، ثم يتوقف ما بعد هذا على القوى التي تستعمل تلك الإمكانيات المتاحة.  عندما تكون القوى “قومية” لا يمكن أن تستعملها إلا في خدمة تطور الأمة ذاتها معرفة منها بأنها إمكانيات خاصة مشتركة.  ومن هنا يصر القوميون، أول ما يصرون، على ضرورة الوحدة السياسية لكل أمة، ليحولوا بذلك دون استئثار أي قوى، ولو كانت قطاعاً عريضاً من الشعب نفسه، بمصادر الثروة في ذلك الجزء من الوطن الذي يعيش فيه.  إنهم يرفضون هذا الاستئثار ويفرضون الوحدة السياسية لتشمل كل الشعب وكل الوطن تأكيداً لوحدة الأمة ووحدة مصيرها.  ولا خلاف هنا في نوع هذه الحركة وأهدافها.  فكل حركة “وحدوية” على أساس وحدة الوجود القومي، بشراً وأرضاً ومصيراً، هي حركة قومية.  وهي حركة قومية بهذا المعنى وفي هذه الحدود فقط.  ومرجع التحفظ ما عرفناه من قبل من أن المجتمعات لم تدخل كلها مرحلة التكوين القومي دفعةً واحدة في وقت واحد.  كما أن مسيرة التكوين القومي لم تكن واحدة بالنسبة إلى كل الأمم.  وقد أدى هذا إلى أن بعض الحركات القومية قد صاحبت حركة التحرر البورجوازي من القهر الإقطاعي في أوروبا.  وتولى البرجوازيون قيادتها إلى أن تحققت الوحدة القومية.  وألقى هذا شبهة كثيفة على الحركات القومية ظناً بأن كل حركة قومية هي حركة بورجوازية.  ونحن لا نريد أن نناقش هنا ما إذا كانت الحركة البورجوازية قبل القرن التاسع عشر – في أوروبا – تقدمية أم رجعية.  إنما الذي نريد أن نطرحه هو السؤال الآتي: في أية مرحلة وإلى أي مدى كانت تلك الحركات التي أقامت الدول القومية الموحدة ثم تجاوزتها إلى الاستغلال الرأسمالي، إلى أي مدى وفي أية مرحلة كانت قومية؟  لا شك في أنها كانت حركات قومية في مرحلة ما قبل الوحدة وإلى أن تمت الوحدة.  فقد كانت تلتزم الرابطة القومية التي تنفي التجزئة، ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة انقسمت قوى متصارعة: الرأسماليون من ناحية يريدون مصالحهم الخاصة، وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي، والشعب من ناحية يريد أن يحقق من التقدم ما تتيحه له الرابطة القومية، وذلك موقف قومي.  ثم لما أن تجاوز الرأسماليون استغلال شعوبهم ذاتها واتخذوا من الحروب العدوانية سبيلاً إلى قهر الشعوب الأخرى واستغلالها، كانوا أبعد ما كانوا عن القومية.  القومية كما نعرفها ونفهمها.  وحتى كما فهمها الليبراليون (الرأسماليون) لم يكن تجاوز الوحدة القومية إلى الاستغلال والاستعمار حركة قومية.  إذ أن المفهوم الليبرالي للقومية يوقف حركتها عند الوحدة القومية ولا يرى أنها – بعد هذا – ذات مضامين تتصل بمستقبل التطور بعد تحقيق الوحدة، ولكن الخلط جاء من التقييم الماركسي للقومية بمفهومها الليبرالي إذ اعتبر أن ذلك المفهوم السلبي للقومية هو المفهوم الصحيح، فاعتبر أن كل حركة قومية هي حركة ليبرالية أو بورجوازية.

 

–         القومية والإسلام:

 

الإسلام دين مشترك بين كثير من الأمم والشعوب والجماعات الإنسانية.  وهكذا يقع تحديد العلاقة بين القومية والإسلام في نطاق علاقة الأمة بالمجتمعات الإنسانية خارجها.  وكثيراً ما طُرحت الرابطة الإسلامية كبديل عن القومية.  وهو خطأ جسيم راجع إلى قصور مضاعف في المعرفة الصحيحة بالإسلام وبالقومية كليهما.  فالإسلام دين ولكنه متفرد بمميزات خاصة مثله في هذا كمثل أي دين أخر.  وقد أن كل أمة معينة تنفرد بمميزات خاصة مثلها كمثل أية أمة أخرى.  فالبحث في “الرابطة الإسلامية” وعلاقتها بالقومية على ضوء نظرية مجردة في الدين إطلاقاً أو في الأمم إطلاقاً أول خطأ يقع فيه الباحثون لأنه يتجاهل خصائص كل دين وخصائص كل أمة.   وقد أدى هذا إلى خطأ أكثر جسامةً ذلك هو تجاهل العلاقة التاريخية “الخاصة” بين الإسلام وبين الأمة العربية.  وهي علاقة لا مثيل لها – فيما نعرف من تاريخ الأديان والأمم – بين أي دين وأية أمة.

 

في الأصل كان “الدين” عنصراً من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة “الأصل” محور تكوينها “الأسر والعشائر والقبائل”.  وانقلب الأجداد الذين ماتوا إلى آلهة يعبدهم نسلهم من الأحياء.  ويتميزون بهم عن ذوي “الأجداد-الآلهة” الأخرى.  ثم استقر “الإله” رمزاً مميزاً لكل قبيل.  فكان لكل قبيلة إلهها الخاص، تختاره طبقاً لظروفها الخاصة وتعبده طبقاً لتقاليدها الخاصة، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص.  وإن تعددت مشكلاتها لم يكن ثمة ما يمنع أن تكون قبيلة أو مجتمع صغير مجموعة كبيرة من الآلهة يختص كل منها بإسداء العون لعباده في واحدة من تلك المشكلات: الحب، الحرب، الزرع، الملاحة… الخ.  ولكنها حتى وهي مجموعة “خاصة” كانت تقوم بالوظيفة المشتركة للآلهة في المجتمعات القبلية وما دونها: رمز يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها.  وكل هذا لا يزال قائماً في المجتمعات البدائية القبلية المعاصرة… ثم جاء الإسلام متميزاً قبل كل شيء، بالتوحيد.  لا إله إلا الله لا شريك له.  لم يلد ولم يولد.  وكان هذا رفضاً إسلامياً قاطعاً لقيام الدين مميزاً للمجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض لأنه رفض قاطع لاختصاص كل جماعة من الناس بدين خاص يميزهم عن غيرهم.  ولم يكن “التوحيد” ليكتمل إلا إذا قدم الإنسان ذاته إلى كل الجماعات الإنسانية كبديل مشترك، ووحيد، عن أديانها المتعددة.  إن الدين عند الله الإسلام.  وهكذا جاء الإسلام – كما هو – خطاباً للناس كافةً، لكل البشر في كل زمان وفي كل مكان.  نقول الإسلام “كما هو” احتكاماً للإسلام ذاته.  وحكمه في هذا ملزمٌ للمسلمين الذين يقفون من القومية موقفاً مضاداً باسم الإسلام.  ومضمون الحكم أن الإسلام في جوهره دين “وحدة إنسانية”.  ومما يتنافى مع جوهره هذا أن يكون ديناً خاصاً بجماعة أو جماعات إنسانية دون البشر أجمعين.  وليس للمسلم أن يكون له إله كإله بني إسرائيل.  ومن هنا ندرك كم هو جسيم ذلك الخطأ الذي يقع فيه بعض المسلمين عندما يدعون إلى “مجتمع إسلامي” مقصور على المسلمين ومحدد لعلاقتهم بغيرهم من المجتمعات.  وينسون أن مثل هذه الرابطة إن كانت قد تجمع بين المجتمعات المسلمة فإنها – في الوقت ذاته – تعزل الإسلام عن باقي البشر وتحيله إلى دين “خاص” ببعض الناس وهو للناس كافةً.  إن هذا “الاستئثار” بالإسلام مميزاً لبعض المجتمعات الإنسانية ليس من الإسلام في شيء بل هو يتنافى – قطعاً – مع طبيعة الإسلام كدين لكل بني الإنسان بدون تمييز.  والذين يقدمون الإسلام بديلاً عن “القومية” ينزلون بالإسلام من مكانه فوق الأمم جميعاً ليحصروه في أمة أو في بعض الأمم.  الإسلام إذن ليس خاصاً بأية أمة فهو ليس عنصراً لازماً في تكوين الأمم، وهو رابطة إنسانية ولا يمكن أن يكون أقل من رابطة إنسانية، وبالتالي لا يقع على مستوى واحد من القومية فيكون بديلاً عنها أو تكون بديلة عنه، بل هو يتجاوزها إلى المجتمع الإنساني كله الذي يشمل كل الأمم والشعوب والجماعات.

 

غير أن الإسلام لم يكن ديناً فحسب، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية.  وتلك إحدى خصائصه المميزة.  وهي هي التي أنشأت بينه وبين الأمة العربية علاقة تاريخية متميزة….

 

(وهي العلاقة التي نعود إليها في جزء أخر من سلسلة التثقيف القومي، خاصة من حيث دور الإسلام في تشكيل دولة الوحدة القومية، وفي استكمال التكوين التاريخي للأمة العربية، أرضاً وثقافةً، الذي بدأ لغوياً وحضارياً وجغرافياً قبل الإسلام بكثير، على الأقل بالحد الأدنى الذي أهَّل العرب، كقومٍ منفصلين عن غيرهم من الأقوام، من أن يحملوا رسالة الإسلام وينشروها.  وإذا كان أستاذنا الكبير عصمت سيف الدولة يعتبر أن الأمة العربية لم تكن مكتملة التكوين قبل الإسلام، ويعتبر أن جغرافيا المنطقة كانت تسكنها أمم منفصلة غير مكتملة التكوين وخاضعة للأجنبي، فجاء الإسلام ووحدها في أمة عربية واحدة، فإننا نعتبر أن الأمة العربية كانت قائمة وأن ما حققه الإسلام هو دولة الوحدة القومية، بالإضافة لتحرير الأمة من الأجنبي وإذابة التأثيرات الدخيلة عليها ومد حدودها الجغرافية للحد الأقصى الممكن.  وإذا كانت حقيقة دولة الوحدة قد تم تمييعها من خلال اختراق الأعاجم للسلطة الإسلامية لاحقاً، فإن دولة الوحدة العربية التامة الأولى في ظل الإسلام ما كان لها أن تنشأ من لدن أمة (أو أمم) ناقصة.  فلا يمكن أن تنشأ دولة وحدة لأمة غير مكتملة التكوين، من أمم منفصلة غير مكتملة التكوين، أو أن تنشأ أمة عربية عن دولة وحدة بينما المفروض أن الأمة هي التي تنتج دولة الوحدة، وليست الدولة هي التي تنتج أمة.  فدولة الوحدة ليست إلا التعبير الحقوقي والسياسي عن أمة موجودة.  والأمة العربية هي وحدها القادرة أن تكوِّن دولة وحدة تجسد إمكانياتها الكامنة، ولا تستطيع أية دولة أن تنتج أمة عربية من مجموعة أمم متباينة منفصلة وغير مكتملة التكوين.  ما حققه الإسلام إذن هو دولة الوحدة، وهو أنجازٌ ما كان له أن يتحقق لولا وجود أمة عربية أساساًَ كما تظهر أجزاء أخرى من سلسلة التثقيف القومي – إ. ع).

 

–         عصمت سيف الدولة، مقتطفات من الكتاب الثاني من “نظرية الثورة العربية”، ص. 71 – 77:

 

العلاقة العربية-التركية في ظل العثمانيين:

 

في ظل الفكر والثقافة والقيم الإسلامية الكامنة في تكويننا ذاته، ملأنا الزمان تاريخاً عربياً خالصاً وإن كانت لبناته من الإسلام، حتى عندما عبرنا – معاً – مرحلة الصراع الداخلي الذي يصاحب بداية التكوين القومي، كان الصراع عربياً خالصاً، دار بين الرواسب القبلية العربية والنزوع القومي العربي، واتخذ موضوعه الاستئثار بالسلطة في الدولة القومية الواحدة.  ولقد انتقلت به الدولة من المدينة إلى دمشق إلى بغداد إلى القاهرة، وقامت أكثر من عاصمة واحدة في وقت واحد، ألا أن كل عاصمة من تلك كانت تعصم العرب جميعاً، أو تحاول هذا، أو تدعيه، ولكنها لا ترتضي – في أي حال – أن تكون دولة إقليمية.  كان ذلك صراع الماضي والمستقبل في طور تكوين الأمة العربية، ولم يكن صراعاً بين أمم يغزو بعضها بعضاً.  لقد كان الأمويون والعباسيون والحمدانيون والأيوبيون والفاطميون… الخ، أحزاباً من العرب، ولم يكونوا أمماً في الأمة الواحدة.  لهذا كان الصراع مقصوراً على العرب، تعبيراً عن مشكلة تطورهم القومي، ولم يتجاوزهم إلى الأمم الأخرى في دولة المسلمين.  لم يكن فيه طرف من المسلمين في إيران أو أفغانستان أو تركيا أو الهند… الخ.

 

ولما أن اكتمل للعرب وجودهم القومي كانوا قد أصبحوا أمة صنعت تاريخها الخاص حتى خلال الصراع الداخلي الذي كان مقصوراً عليها.  فلما أن أرادت الأمة التركية أن تصل إلى الخلافة كان عليها أن تغزو الأمة العربية، بمن فيها من مسلمين وغير مسلمين، غزواً دامياً.  وبينما كانت الجيوش التركية متميزة بانتمائها القومي، لا تخفيه راية الإسلام، كان ضحاياها في كل مكان من الخليج إلى المحيط عرباً متميزين بعروبتهم وإن كان بعضهم من غير المسلمين.

 

كذلك كنا أمةً واحدة.

 

سيان بعد هذا أن نكون ساميين أو من أجناس أخرى، وسيان أن نكون من أجداد نزحوا من الجزيرة العربية أو أن نكون من أصول شتى، وسيان أخيراً أن نكون مسلمين أو غير مسلمين، فقد تم التكوين، وأصبحت لنا وحدة الوجود القومي، لا نستطيع أن نلغيه ولا يجدي أن ننكره، فنحن كما نحن أمة عربية واحدة.  قد لا يشعر الذين يكونون هذا الوجود به، ولكن الوجود القومي – كما قلنا – تمييز عن القوميات الأخرى.  وإن كل الأمم لتنظر إلينا وتعاملنا كأمة واحدة، لأنها تعرف بالقياس على وجودها القومي ذاته أن لنا وجوداً قومياً متميزاً عنها.

 

كذلك عاملتنا حتى الأمة التركية في ظل الدولة الواحدة.

 

فقد درج العثمانيون في أول عهدهم بالخلافة على سنن الإسلام الأولى، فكانت الخلافة دولة مشتركة تتحقق بها وحدة جهاز الإدارة الردع.  كانت دولة كل أمة داخل الدولة الواحدة، فقد كانت تلك المساواة حكم الشريعة السمحاء ا المطهرة تماماً من الاستعلاء والتسلط والاستعمار.  وإذا كانت الدولة الواحدة قد قسمت الأرض، أو أبقت قسمتها السابقة إدارات، منها المقصور على مدينة واحدة ومنها ما يضم إقليماً كاملاً، فلم يكن ذلك خلقاً لدول عربية داخل الدولة الواحدة.  حتى المتمردون من حكام الأقاليم وولاتها، والطامعون منهم والطامحون، كان تمردهم وطمعهم وطموحهم يدور داخل الدولة الواحدة ولو أدى القتال طريقاً إلى إقناع السلطة المركزية بما يريدون.  وإذا كان لكل ولاية مجندون من أرضها، فتلك جيوش وكتائب من جيش المسلمين، تذود عن الدولة الواحدة، ولو ذهب الجند من وادي النيل إلى جبال القرم.  كانت مصر ولاية وكانت عكا ولاية، ولم تكن مصر كما لم تكن عكا دولة، ولا كانت أيهما أمة، وفي ذلك تساوتا قسمين إداريين، ولو كان سكان مصر أضعاف سكان عكا.  كان تقسيماً إدارياً في دولة واحدة تضم قوميات عدة.  ولم يحدث قط – منذ الفتح الإسلامي حتى الاحتلال الأوروبي – أن احتاج عربي إلى إذن من أحد لينتقل، ويعيش، ويمتلك، ويتاجر، ويتعلم، ويثور، أيان شاء من الخليج إلى المحيط.  كان يسعى أيان يسعى على أرضه في أمته.

 

غير أن الأمر لم يلبث كثيراً حتى انقلبت الخلافة من دولة للمسلمين إلى دولة للترك، يسخرونها في بناء مستقبل الأمة التركية من إمكانيات الأمة العربية، ويفتدون بقاءهم كأمة بأجزاء من الوطن العربي.  فقد تآمر الاستعمار الأوروبي على دولة المسلمين.  وكان خطر الغزو الأوروبي الاستعماري يتجاوز دولة الخلافة إلى الأمم التي تعيش في ظلها.  لهذا تحصن كثير من العرب بالوحدة الإسلامية ضد التهديد الأوروبي.  وكان ذلك الموقف يمثل قمة الوعي وقمة الثورية في ذلك الزمان حاربته أوروبا المستعمرة بالموقف المضاد دعوة إلى الإقليمية.  وأغرت الأقاليم الإدارية، داخل الأمة العربية، بالاستقلال عن تركيا، لتفرض العبودية بعد الاستقلال، وتلتهمها لقمةً معزولةً فسائغة.  وقدم المتعالمون من خريجي مدارس أوروبا، والإقليميون من المشايخ والأمراء والسلاطين، أكبر عون للاستعمار باسم الاستقلال.  ولم يفطن أحد منهم إلى ما فطن إليه المستعمرون، وخططوا الطريق إليه ونفذوه، أن تكون الدول التي تستقل عن الدولة العثمانية، ليحتلها الاستعمار الأوروبي بعد هذا، قائمةً على أسس إقليمية وليس على أسس قومية.  وستثبت الأحداث فيما بعد أن الاستعمار الأوروبي كان يخشى أن يستقل العرب دولةً قوميةً واحدةً أكثر مما كان يخشى بقاء الدولة العثمانية ذاتها.  ولعل ذلك أن يكون وراء كل تلك المحاولات التي بذلتها الدول الأوروبية، وصاغتها اتفاقاً على المحافظة على الدولة العثمانية، في الوقت الذي كانت تلتهم فيه أجزاءها العربية واحداً بعد أخر.  كان تحالفاً استعمارياً “أوروبا – تركيا” ضد العرب.  لهذا وقفت الدول الأوروبية تساند الخليفة وتحرضه ضد أحمد عرابي قائد ثورة “أولاد العرب” في مصر، واجتمع المستعمرون، أوروبيين وأتراكاً، في مواجهة ما نسب إلى عرابي من أنه كان يهدف إلى قيام دولة عربية تضم أطراف الأمة العربية جميعاً.  فلما أن خان الخليفة أحمد عرابي وخذله، دخل الإنكليز مصر باسم الخلافة، وسار موكب المستعمرين يتقدمه الخديوي التركي.  على أي حال، لم يفطن المتعالمون والإقليميون في ذلك الوقت إلى أن الصراع كان بين الأمم الاستعمارية الأوروبية والأمة التركية من جانب، والأمة العربية في جانبٍ أخر، وأنه كان دائراً على أسس قومية، وأن الإقليمية – حينئذٍ – كانت تتعدى الاستقلال عن تركيا إلى تمزق الأمة العربية دولاً، لن تلبث أن تذهب جميعها ضحية الاستعمار، بينما تبقى تركيا دولة مستقلة.  هكذا خطط الاستعمار ونفذ. 

 

وقد أثبت موقف الخلافة، خلال الصراع العربي ضد الاستعمار الأوروبي، أنها دولة تركية متآمرة مع الأمم الأخرى في أوروبا المستعمرة، ضد الأمة العربية، وأن العرب قد فقدوا بذلك دولتهم القومية.  فبينما كان الأسطول العربي من الجزائر محتشداً في نافارين، حيث دُمر وهو يدافع عن الدولة الواحدة، انتهزت فرنسا الفرصة واحتلت الجزائر سنة 1830 ولم تفعل دولة الخلافة شيئاً، مضحيةً بإقليم عربي للمحافظة على الوجود التركي.  كذلك لم تفعل الخلافة شيئاً عندما حاصرت فرنسا قصر الباي في تونس سنة 1881، لتفرض عليه معاهدة تمهد بها لاحتلال تونس العربية.  وفي ذلك العام أيضاً تآمرت الخلافة التركية مع الاستعمار الإنكليزي ضد ثورة “أولاد العرب” في مصر، وتم الاحتلال الإنكليزي في سنة 1882.  ولم يلبث الإنجليز أن قمعوا ثورة “العرب” في السودان.  فلما أن قضي الأمر قبل الأتراك مشاركة الإنجليز في إدارة السودان العربي اتفاقاً سنة 1899.  ومن قبل هذا كله احتل الإنكليز الشواطئ العربية على الخليج، وفي الجنوب، بسلسلة من المعاهدات فرضت أولاً على أمير لحج وعدن سنة 1802، ثم أمير البحرين سنة 1814 ثم أمير… إلى أخر الأمراء والمشايخ والسلاطين الذين نثرت بهم إنجلترا احتلالها على طول شاطئ الجزيرة العربية.  وبينما كانت الخلافة في تركيا تدير سياساتها على أسس قومية تركية خالصة، فتعقد مع المستعمرين الأوروبيين الاتفاقات والمعاهدات، محاولةً الإبقاء على وحدتها كأمة (كادت الأمة العربية أن تهضمها)، كان المستعمرون الأوروبيون يعقدون الاتفاقات معاً قسمةً للوطن العربي فيما بينهم.  في اتفاق سنة 1902 تحتل فرنسا مراكش مقابل أن تحتل إيطاليا ليبيا وفي اتفاق 1904 تحتل إنجلترا مصر مقابل أن تحتل فرنسا المغرب.  ويوم أن أصبح احتلال إقليم عربي شرطاً، ومقابلاً، لاحتلال إقليم عربي أخر، قدم التاريخ أكثر الأدلة مرارةً على وحدة المصير.  وقد تحقق المصير الواحد في مراكش سنة 1911 وفي ليبيا 1913 وأعلن رسمياً في مصر سنة 1914.

 

كان كل ذلك كافياً، وأكثر من كافٍ، ليدور الصراع في قلب الإمبراطورية العثمانية المتداعية على أساس قومي خالص.  في معركة الوجود القومي، أمة العرب ضد أمة الترك.  وعندما طرحت تركيا دستور الإسلام وأصدرت دستور 1908، بدأت حركة تتريك العرب، وأصبح الصراع على الوجود القومي بين الأمتين سافراً.  وكان طبيعياً أن تكون طليعة النضال العربي، وضحاياه، من أولئك الذين لم يحبسهم الاستعمار الأوروبي في الدول التي اصطنعها.  فحمل أبطال العروبة في المشرق العربي كل العبء إلا قليلاً وإن كان الستار الحديدي الذي عزل به المستعمرون الأوروبيون الأجزاء المحتلة عن معركة المصير الواحد، لم يمنع كثيراً من العرب في كل مكان من أن يسهموا في النضال القومي، ولو كان الطريق إليه هروباً إلى أوروبا أو إلى الآستانة ذاتها.  كان النضال من منطلق قومي إلى غاية قومية.  وبرغم دولة الترك تأسست جمعية الإخاء العربي، وجمعية المنتدى الأدبي، وقامت منظمات سرية، عسكرية ومدنية، مثل الجمعية القحطانية، وجمعية العهد، وجمعية العربية الفتاة.  وفي قلب البرلمان العثماني تكونت كتلة من النواب العرب، تميزت بعروبتها في ظل الدستور الواحد.  كانت كلها جهوداً ثورية تهدف إلى استقلال العرب ووحدتهم ويسهم فيها أبناء العروبة من جميع الأقطار.

 

وكان طبيعياً، عندما دخلت تركيا المستعمِرة، حرب المستعمرين الأولى (1914 – 1918)، أن يحدد العرب موقفهم على ضوء غايتهم القومية في الاستقلال والوحدة، فقامت الثورة العربية 1916 ضد الأتراك، على اتفاق مع أعدائهم أن يكون للعرب الاستقلال بعد النصر.  وانهزمت تركيا وانتصرت الثورة العربية.  أما العدو التركي الذي انهزم فقد بقيت له وحدته.  وأما الحليف العربي الذي انتصر فقد مزقوه إرباً.  كذلك خططوا منذ البداية، وكذلك حققوا في النهاية، وكذلك كنا دولاً، حتى متصرفية “البلقاء” التي كانت قسماً إدارياً تابعاً لولاية الشام أصبحت دولة “شرق الأردن”.  وأكمل مصطفى كمال الشوط فألغى الحروف العربية واستعار الحروف اللاتينية، وأكمل المستعمرون الشوط فجمعوا نفاية الرجعيين من أممهم ودقوهم إسفيناً في قلب الوطن العربي باسم “إسرائيل”.

 

كذلك كنا دولاً في أمة واحدة، تحدياً من التاريخ لكل الإقليميين.  إن أحداً منهم لا يستطيع – مهما بلغ من التبجح – أن يضع أصبعه على خريطة “دولته” ويقول: أنا خططت حدودها.  فقد رسمت حدود الدول المتعددة على أرض الوطن العربي الواحد، بالخيانة أو الخديعة أو العدوان، وفي أي حال من تلك كانت تنفيذاً لإرادة المستعمرين وقهراً لإرادة العرب.

 

 

*المفكر القومي الدكتور / عصمت سيف الدولة

بطاقة تعريف

 

 

المؤهلات :

1-       ليسانس الحقوق                                       1946 جامعة القاهرة

2ـ       دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي                   1951 جامعة القاهرة

3ـ       دبلوم الدراسات العليا في القانون العام              1952 جامعة القاهرة

4ـ       دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص            1955 جامعة باريس

5ـ       دكتوراه في القانون                                   1957 جامعة باريس

المؤلفات :

1ـ       نظرية الدفاع الشرعي في القانون المصري

        المقارن                                                  1957 رسالة بالفرنسية

2ـ       أسس الاشتراكية العربية                                       1965

3ـ       أسس الوحدة العربية                                  1965

4ـ       الطريق إلى الوحدة العربية                           1966

5ـ       الطريق إلى الاشتراكية العربية                      1967

6ـ       وحدة القوى العربية التقدمية                         1968

7ـ       ما العمل ؟ حول هزيمة 1967                       1969

8ـ       الطريق إلى الديموقراطية                                      1971

9ـ       الوحدة ومعركة تحرير فلسطين                      1971

10ـ     نظرية الثورة العربية ( سبعة أجزاء)               1972

11ـ     النظام النيابي ومشكلة الديموقراطية                1975

12ـ     الحركة الطلابية                                        1975

13ـ     الأحزاب ومشكلة الديموقراطية في مصر           1976

14ـ     هل كان عبد الناصر ديكتاتورا ؟                      1977

15ـ     التقدم على الطريق المسدود                          1977

16ـ     إعدام السجان                                          1978

17ـ     حوار مع الشباب العربي                              1978

18ـ     رأسماليون وطنيون ورأسمالية خائنة               1979

19ـ     هذه المعاهدة                                           1980

20ـ     دفاع عن الشعب                                       1980

21ـ     الاستبداد الديموقراطي                                1980

22ـ     دفاع عن الوطن                                       1980

23ـ     هذه الدعوة للاعتراف المستحيل                     1983

24ـ     المحددات الموضوعية لدور مصر في الوطن العربي

25ـ     عن الناصرين وإليهم

26ـ     عن العروبة والإسلام                                 1986

27ـ     دفاع عن ثورة مصر العربية                         1990

28ـ     الديموقراطية في فكر عبد الناصر                             1990

29ـ     الشباب العربي ومشكلة الإنتماء                     1991

30ـ     مذكرات قرية ـ الجزء الأول                          1994

31ـ     مذكرات قرية الجزء الثاني                                     1995

32ـ     حكم بالخيانة كتب في أعقاب مفاوضات فض

         الاشتباك مع العدو الصهيوني في أعقاب حرب1973

33ـ     عشرات المقالات والبحوث  المنشورة في الدوريات

 

تواريخ هامة :

 

ـ         الميلاد 20/8/1923 ـ مركز البداري ـ محافظة أسيوط

ـ         الرحيل 31/3/1996 القاهرة

ـ         اعتقل لأول مرة في 15/2/1972 بتهمة محاولة قلب كافة أنظمة الحكم العربية

ـ         اعتقل ثاني مرة في 5/9/1981 مع الصفوة من المناضلين المصريين

 

وقد عرف الدكتور أيضا كفنان وأديب وله العديد من الأعمال التي أنتجها أثناء فترة الاعتقال وما بعدها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2024 الصوت العربي الحر.