حول “اليسار الليبرالي”…  

October 10th 2016 | كتبها

 

إبراهيم علوش/ نداء الوطن 9/10/2016

 

الليبرالية هي فلسفة نشأت في خضم الصراع ما بين نمط الإنتاج الإقطاعي ونمط الإنتاج الرأسمالي وقد تميزت بالسعي لتحرير الفرد من القيود التي كان يفرضها المجتمع الإقطاعي في سياق الانتقال إلى اقتصاد السوق الرأسمالية.

حيث أن الإقطاع كان يربط الإنسان بالإقطاعية (الأرض) بصفته قنّاً، وهو ما يعرف بنظام القنانة، حيث كان الإنسان مربوطاً بالأرض التي يملكها الإقطاعي وكان ليس عبداً بالمعنى الحرفي إنما كان ينتقل من سيد إقطاعي إلى آخر مع الأرض التي تنتقل ملكيتها للسيد الإقطاعي الجديد.

عندما نشأت السوق الرأسمالية وانتقل مركز الاقتصاد من الريف إلى المدينة بات من الضروري لتقدم نمط الإنتاج الرأسمالي تحرير الفلاح القن من الارتباط بالأرض تحت مبدأ رأسمالي معروف هو “دعه يعمل، دعه يمر”. وقد ارتبط هذا أيضاً على مستوى البناء الفوقي بالتأكيد على أن الإنسان الفرد هو مركز العالم، وهذا انعكس في رسومات مرحلة النهضة وفنّها، هذا كان في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية وكان مرتبطاً بوضع الإنسان مقابل هيمنة الكنيسة، بالفلسفة الليبرالية يصبح الأهم هو الإنسان – الفرد تحديداً.

هذه المرحلة هي المرحلة التقدمية بالفكر الليبرالي لأنها جاءت على خلفية التخلص من نمط إنتاج إقطاعي بائد لمصلحة صعود نمط الإنتاج الرأسمالي الذي كان تقدمياً في تلك المرحلة.

الليبرالية إذن بشكلها العام كفلسفة وكمنظومة فكرية، هي الفلسفة التي تنطلق من مركزية الإنسان الفرد في الكون، فهو يصبح مرجعية الصح والخطأ ويصبح مرجعية الأحكام الأخلاقية والمسألة المحورية في الليبرالية، هي أولوية المصلحة الفردية وبالتالي الرؤى الفردية التي تصبح كلها متساوية أخلاقياً ومعرفياً وهذا يشكل في مرحلة العولمة لاحقاً الأساس الذي انبنى عليه فكر ما بعد الحداثة الذي يسقط السرديات الكبرى برمتها لمصلحة السياقات الفردية، هذه في المرحلة اللاحقة.

هذا الفكر الليبرالي، منذ أفول المرحلة التقدمية للطبقة البرجوازية، صار في تعارض مع الرؤى التي تنطلق من حس جمعي مثلاً الحس القومي أو الطبقي، لذلك اصطدمت الاشتراكية أو اليسار في أوروبا منذ القرن التاسع عشر بالفكر الليبرالي لأن اليسار انطلق في تلك المرحلة من منطلق مصلحة البروليتاريا كطبقة والطبقة العاملة عموماً ومصلحة الكادحين ككتلة، وبالتالي مرجعية النقاش هنا لا تعود فردية ولا تعود مثل هذه المرجعية الفردية بالضرورة قابلة للتطبيق في مرحلة التحرر الوطني بالنسبة لأمم وشعوب العالم الثالث لأن المنطلق الجمعي هو بالضرورة في حالة تعارض مع المنطلق الفردي الليبرالي ونذكر هنا أن الليبرالية كانت منذ البداية أيديولوجيا البرجوازي الصاعد في مواجهة الإقطاع، والكنيسة المتحالفة معه.

أما بعد أن تثبتت أركان نمط الإنتاج الرأسمالي، وتحولت البرجوازية في الدول المتقدمة إلى مرحلة رجعية، وبات النظام الرأسمالي في مراحله العليا إمبريالياً، فإن الفكر الليبرالي أصبح أداة في يده لتفكيك كل حس جمعي سواء كان في الدول المتقدمة أو في العالم الثالث، ومن هنا نلاحظ التركيز مثلاً في أفلام هوليوود الأمريكية على مرجعية الفرد والتميز الفردي والميزان الفردي في الأخلاق والتهكم على أي حس جمعي… إلخ.

الآن أصبح لدينا في الغرب نزعة ليبرالية متطرفة تواجه الدولة الرأسمالية نفسها، بذريعة الحرية الفردية، هنا أصبح الفكر الليبرالي يمينياً متطرفاً ونشأت في نفس الوقت نزعات ليبرالية داخل الأحزاب اليسارية نفسها، التي تنطلق في رؤاها وبرامجها من مسائل صغيرة وجزئية وصار تعريف اليسار هنا مناقضاً للأساس الجمعي والتاريخي الذي انطلق منه، ليصبح موضوع الحريات الفردية المنفلتة من أي عقال اجتماعي بالمنطق الفرويدي هو تعريف جديد، والحقيقة مزيف، لكلمة يسار.

أما عندما يتم استيراد مثل هذه المقولات هنا، فإن ذلك يؤدي إلى الإسهام في تفكيك مجتمعاتنا وتفكيك أحزابنا وقوانا السياسية بذريعة (أريد أن أكون مستقلاً ولا يملي علي أحد شيئاً) بينما القوة بالنسبة لأي طبقة أو أمة مضطهدة تكمن في التنظيم الجماعي الذي تنتجه وهو ما يصطدم مباشرة بالحس الليبرالي الفردي المنفلت من أي قيود سوى القيود الفردية.

على مستوى البرنامج السياسي يتحول ما يسمى باليسار الليبرالي هنا إلى تفكيك الانتماء والهوية القومية ومن هنا يأتي التعالي على العروبة والحديث عن (الأخوة العربية-اليهودية) وتحول اليسار إلى مواضيع حقوق الإنسان والحيوان و”الباذنجان”، بعيداً عن قضايا التحرر القومي مثل الوحدة والتحرير والنهضة. ونلاحظ أن هذا النمط من اليسار يتهكم دوماً على التجربة الصينية وماوتسي تونغ وعلى ستالين بذريعة أنهما كانا دكتاتورين، ونلاحظ بالمقابل أن هذا اليسار يصبح في حالة خيانة لفكرة اليسار وفي حالة تصادم مع أمته وقضاياها الكبرى وأنه يصبح في النهاية عبارة عن أدوات فردية في منظمات المجتمع المدني الممولة أجنبياً وأنه يصبح في حالة اغتراب ثقافي عن أمته وشعبه.

http://wihdaparty.com/3280

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1485292621487644&id=185865588097027

الموضوعات المرتبطة

المنظومة الرسمية العربية في الميزان الغزاوي

  إبراهيم علوش – الميادين نت     كشفت المنظومة الرسمية العربية، مجدداً، عجزها عن الدفاع عن الأمن القومي العربي، حتى بأدنى سقفٍ ممكن، أو عن تواطئها عليه، أولاً، كمنظومة تجزئة، صممت كي تترك [...]

قراءة في استراتيجية الاحتلال العسكرية في غزة

  إبراهيم علوش  - الميادين نت     يقول المفكر العسكري الاستراتيجي كارل فون كلاوزفيتز في مرجعه الشهير "في الحرب" On War: "ليس هناك في الحياة، بصورةٍ عامة، ما هو أكثر أهميةً من إيجاد الزاوية [...]

معركة غزة الميدانية ما برحت في بداياتها

    إبراهيم علوش – الميادين نت لا خوف على غزة ومقاومتها إذا تمكن العدو الصهيوني من اختراقها برياً في بعض المواضع، ولا يجوز أن تنهار المعنويات حتى لو صدقت التقارير والخرائط والفيديوهات [...]

هل جاء تدمير مباني غزة رداً على “طوفان الأقصى”؟

    إبراهيم علوش – الميادين نت يسوق البعض الدمار الكبير الذي ألحقه الاحتلال الصهيوني بقطاع غزة "حجةً" على المقاومة الفلسطينية بصورةٍ عامة، وعملية "طوفان الأقصى" بصورةٍ خاصة، في أنها منحت [...]

دفاعاً عن ثقافة المقاومة، ورداً على المشككين بالطوفان

  إبراهيم علوش – الميادين نت انطلق منذ الأيام الأولى لعملية "طوفان الأقصى" المبدعة وابلٌ من السهام المشككة في مشروعيتها مبدئياً ووجاهتها سياسياً.  وكان الغربيون والصهاينة أول من سارع إلى [...]
2023 الصوت العربي الحر.