الغزو التركي لليبيا.. مقابلة د. إبراهيم علوش مع صحيفة “الأنوار” التونسية

June 5th 2020 | كتبها

الجمعة 5/6/2020

– س: التدخل التركي في ليبيا منذ 2011، ما هي خفاياه؟

ج: قبل عام 2011، فازت تركيا وشركاتها بالكثير من عقود البناء في ليبيا، وكان يوجد 30 ألف تركي في البلاد، وعند بدء التفاوض الدولي على فرض حظر طيران فوق ليبيا عام 2011، أعلنت تركيا معارضتها له، ورفضها للتدخل الأجنبي، ولكن في استدارة نموذجية تليق بنظام أردوغان وبتراثه الشعبوي المنافق، التحق أردوغان بالجهد الغربي لفرض منطقة حظر الطيران وللتدخل الناتوي المدعوم من الرجعية العربية، ولكنه فعل ذلك آنذاك بصفة ثانوية، كملحق، أي بصفته كومبارس.

بعد عام 2011، تم تهجير مليون ونصف المليون ليبي خارج ليبيا، لا سيما من أنصار التيار الأخضر، ناهيك عن مئات الآلاف داخل ليبيا ممن تم اقصاؤهم سياسياً في ظل ما يسمى “قانون العزل” الذي منع كل من كانت له علاقة بالجماهيرية من ممارسة أي شكل من العمل السياسي، وكان الإسلامويون يسيطرون على ما يسمى “المؤتمر الوطني العام”، ومن خلال هؤلاء تغلغل النفوذ والتأثير القطري-التركي في ليبيا.

لكن نقطة التحول في انحسار المد الإسلاموي في ليبيا أتت بعيد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم الإخوان في مصر في صيف عام 2013، وكان لا بد لمثل هذا التحول أن ينعكس على جوار مصر المباشر والإقليمي، وجاءت انتخابات عام 2014 في ليبيا لتكرس خسارة التيارات الإسلامية لمواقعها، وقد بدأت الحرب الأهلية في ليبيا في ذلك العام عملياً على خلفية رفض التيارات الإسلامية الاعتراف بخسارتها، ومحاولتها ابتكار كافة أنواع الألاعيب الدستورية والقانونية والسياسية لمنع انتقال السلطة من يدها، ناهيك عن الاستعانة بتركيا طبعاً، بدعمها العسكري وغير العسكري، ومن ذلك الدعم الإعلامي والسياسي والافتراضي الذي راحت تقدمه لها جماعات الإخوان في المنطقة.

ليبيا طبعاً تمثل بالنسبة لتركيا الفقيرة بمصادر الطاقة أكبر احتياطي نفطي في القارة الإفريقية، وفرصاً استثمارية جزيلة لعقود إعادة الإعمار، كما تمثل فرصة للانقضاض على غاز المتوسط والاعتراض على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان وقبرص، فأطماع تركيا في ليبيا جانبٌ رئيسيٌ منها اقتصادي واستثماري، لا سيما في قطاع المقاولات، وقد تداولت وسائل الإعلام التركية في شهر آذار/ مارس الفائت تقريراً يقول، نقلاً عن رئيس مجلس الأعمال التركي-الليبي، إن الأتراك يتطلعون لعقود بقيمة 120 مليار دولار في ليبيا في المدى المنظور.

ولكن لا يمكن اختزال كل مسألة الغزو التركي لليبيا بهذا الشكل الاقتصادي، لأن الاقتصاد لا يُقرأ بمعزل عن السياسة والتاريخ، وثمة بعدان آخران يحركان المطامع التركية إزاء ليبيا، أولهما البعد المتعلق بالأطماع الإمبراطورية، أي السعي لإعادة إحياء السلطنة العثمانية على أساس قومي طوراني تحت قناع إسلاموي مزيف، كما هو شأنه تاريخياً، وثانيهما البعد الاستراتيجي المتعلق بموقع ليبيا وتموضعها الجغرافي-السياسي بين مصر والمغرب الغربي.

– س: نقل 10 آلاف إرهابي من سورية إلى ليبيا، من هو المستهدف من هذه البؤرة الإرهابية الجديدة؟

ج: ليبيا حلقة الوصل بين مصر والمشرق من جهة، وبين المغرب العربي من جهةٍ أخرى، وبعد خسارة المشروع العثماني لموطئ قدمه في مصر في صيف عام 2013، وتقهقر حركة النهضة انتخابياً في تونس، وميلان الميزان العسكري والميداني والشعبي ضد الإسلامويين في ليبيا ذاتها، وانكسار مشروع التمدد التركي عبر سورية، لا سيما بعد تحرير حلب، كان لا بد من تدخل تركي مباشر في ليبيا، لكي يقطع النظام الأردوغاني الصلة بين المغرب العربي ومصر، ولكي يؤسس لموطئ قدمٍ يتيح له إعادة نشر المد الإسلاموي والعثماني باتجاه المغرب العربي من جهة، وباتجاه مصر من جهة أخرى.

لا شك في أن للغزو التركي لليبيا بعداً أساسياً هو السعي لمحاصرة مصر، ويمكن النظر للعدوان التركي على سورية من جهة، وعلى ليبيا من جهة أخرى، بأنه عملية استراتيجية كبرى لمحاصرة مصر والإطباق عليها من جهتين شرقية وغربية، لكن مصر ليست المتضرر الوحيد من هذه العملية، إذ أنها تستهدف الثقل الجزائري أيضاً، وهي عملية مصممة لمنع قيام الجزائر بملء الفراغ الذي أحدثه تخلخل الدولة الليبية بعد عام 2011 من جهة الغرب، كما أنها مصممة لمنع مصر من ملئه من جهة الشرق، فالجزائر هي الهدف العثماني الاستراتيجي التالي في شمال إفريقيا بعد مصر، وهذا ما لا يجوز أن يغيب عن ذهن أحد في الجزائر والوطن العربي.

تركيا الأردوغانية كحاضنة وراعية لكافة أنواع الإرهاب، كما خبرناها جيداً في سورية وغيرها، من الطبيعي أن تلجأ لحيلها القديمة في رعاية الإرهابيين في ليبيا أيضاً، وبعد انكسار مشروعها في سورية، لا سيما بعد معركة إدلب الأخيرة، واستحقاقات الاتفاق الروسي التركي لوقف إطلاق النار في إدلب، كان من الطبيعي أن تسعى تركيا لتوظيف الفائض الإرهابي في إدلب وريف حلب في ليبيا، وأود لفت النظر هنا بالأخص لشركة “سادات” التركية التي تتعهد نقل المرتزقة الإرهابيين إلى أماكن النزاع حول العالم، وهي تعمل لحساب “حزب العدالة والتنمية” في تركيا، والشبكة الإسلاموية حول العالم، وقد تعهدت نقل الإرهابيين السوريين من شمال سورية إلى ليبيا تحت أعين ما يسمى “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب” وأبصاره، وهو جزء صغير مما تقوم به شركة “سادات” في سياق دعم الإرهاب، بالإضافة إلى ما قامت به في سورية والعراق ودول أخرى.

باختصار، تأسيس بؤرة إرهابية تكفيرية جديدة في غرب ليبيا، أو تدعيم تلك القائمة أصلاً والمدعومة تركياً، يهدد الأمن القومي العربي عموماً، وأمن المغرب العربي ودوله خصوصاً، كما أنه يشكل مدماكاً في مشروع تقسيم المنطقة، الذي يشكل تقسيم ليبيا (إلى ثلاثة أقاليم، برقة وفزان وطرابلس) عنصراً أساسياً فيه، وهو مشروع التقسيم الصهيوني كما نعلم، يتخذ في ليبيا (وغيرها من الأقطار العربية) أشكالاً “ناعمة” أحياناً تتحدث عن “الفيدرالية” و”الأقاليم ذات الصلاحيات المعززة” وما شابه.

– س: الصمت العربي تجاه التدخل التركي في كل القضايا العربية لفائدة المحور الإخواني، ما هي أسبابه؟

ج: المشكلة الأساسية في حياتنا العربية المعاصرة هي مشكلة التجزئة، وأنا لا اتحدث بشكلٍ رومانسي من منطلقات وحدوية (مع أن ذلك ليس جريمة أبداً)، إنما من منظور تفتيت الإرادة العربية وقدرة العرب على أن يعملوا بشكلٍ جماعي، أي من منظور الجغرافيا السياسية. التجزئة، باختصار، هي أكبر تهديد للأمن القومي العربي، كما أنها العائق الرئيسي أمام انطلاق مشروع تنموي حقيقي في الوطن العربي. كل دولة عربية صُممت ورُسمت بطريقة تجعلها منيعةً ومقاوِمة لأي مشروع وحدوي أو حتى تعاوني مع الدول العربية الأخرى، وتجعلها مكشوفةً وضعيفةً أمام كافة أشكال الاختراق والتغلغل والتأثير الأجنبي، وهذا لا ينطبق على الغزو التركي لليبيا فحسب، بل على كل غزو أو تدخل قامت أو تقوم به قوة هيمنة أجنبية في زماننا المعاصر، وعلى رأسه الغزو الصهيوني للوطن العربي، الذي وصفه المفكر ياسين الحافظ بأنه “كالضفدع ينتهك فيلاً”، فبقاء الكيان الصهيوني وتغوله ليس سببه الدعم الغربي فحسب، وهذا لا ننكره طبعاً، إنما منظومة التجزئة التي تحول 440 مليون عربي اليوم إلى حالة ضعف مهين إزاء بضعة ملايين من المستعمرين الصهاينة.

الحصار على العراق، وليبيا، وسورية اليوم، من الأمثلة المعاصرة التي شاركت وتشارك فيها دولٌ عربية. نحن أمة أنعم الله عليها بالنفط والغاز بما يفيض عن حاجتها، أفليس من المعيب أن لا تصدّر إليها الدول العربية النفطية نزراً يسيراً مما لديها بعد أن وضع الاحتلال الأمريكي يده على احتياطياتها القليلة من النفط والغاز شرق الفرات؟! وهذا مجرد مثال صغير..

لكنها منظومة التجزئة القُطرية التي خلقت لتبقينا ضعفاء ومتأخرين، فكل نظام عربي يفكر، قبل أي شيء آخر، بكيفية منع النظام العربي الآخر من.. من أي شيء فعلياً.. وبعد العدوان الناتوي على ليبيا عام 2011، وتحولها إلى حاضنة للإرهاب برعاية غربية وتركية وصهيونية، أصبحت ليبيا خطراً على مصر وعلى الجزائر وتونس والسودان وتشاد والنيجر، ولكن الخطر الأكبر هو على القوتين العربيتين المركزيتن: مصر والجزائر. ولو كان هناك أدنى حد من الوعي بخطورة الموقف والحس بالمسؤولية، لما احتاج تحليل الموقف إلى علماء ذرة لكي يستنتجوا أن تعاون مصر والجزائر (وتونس والسودان) لمواجهة الخطر الإرهابي، وخطر التفكك، في ليبيا، يحمي الأمن الوطني للجميع، كما أن ملء الفراغ عربياً هو شرطٌ ضروري لعدم ملئه أجنبياً، بغض النظر عن هوية هذا الأجنبي.

ولكن لا! للأسف، وللأسف الشديد، تغلغلت تركيا في ليبيا انطلاقاً من حساسية الجزائر من تمدد مصر في ليبيا، ولا نعتب على حركة النهضة في تونس المنسجمة مع ذاتها في مشروع إلحاق المغرب العربي بالمشروع الإمبراطوري العثماني، ولا على النسخة المحدثة من الإسلام السياسي 3.0 التي يمثلها الرئيس قيس سعيد، وكان البديل المنطقي هو الوصول إلى اتفاق مصري-جزائري مع الأطراف الوطنية في ليبيا لمحاربة البؤر الإرهابية ومنع التقسيم، وإلا فإن الطوفان الإرهابي التكفيري العثماني سوف يغمر الجميع.

هنا لا بد من التركيز على أن إقصاء التيار الأخضر في ليبيا، وهو القوة الأساسية التي واجهت حلف الناتو وأذنابه، ودفعت الثمن الأكبر دفاعاً عن ليبيا، وبالتالي عن أمن شمال إفريقيا، ما يزال كعب أخيل القوى التي تريد أن تناهض الغزو التركي والجماعات التكفيرية، وما دامت الدول العربية تسير بشكل يجعلها تواجه تحديات الأمن القومي العربي فرادى، وما دام من يعمل في الساحة الليبية يريد أن يستثني التيار الأخضر وأنصاره من المعادلة، وهم بمئات الآلاف على الأقل، فإن أي حديث عن مصالحة وطنية أو مكافحة للإرهاب أو مقاومة للغزو التركي يظل منقوصاً وفاقداً لبعض أهم أوراقه وأقواها. فلا بد من أمرين إذاً لحل المعادلة الليبية: 1) تفاهم مصري-جزائري أساساً، 2) مبادرة حقيقية باتجاه التيار الأخضر وأنصاره.

المشكلة لا تقتصر على صراع أنظمة ينعكس سلبياً على ليبيا طبعاً، فلدينا حديثاً مشكلة موقف النظام في السودان من سد النهضة الذي يهدد كلاً من مصر والسودان، والأمن القومي العربي مجدداً.. بسبب حساسيات الأنظمة المرهفة من بعضها البعض، وقلة حساسيتها بالتالي من كل شيء آخر. والأمثلة كثيرة، في كل قطر عربي تقريباً، من مشكلة الصحراء المغربية إلى العدوان على اليمن والسعي لتفكيكه تحت العناوين “الفيدرالية” ذاتها.

– س: كيف يمكن مقاومة التمدد الإخواني في المنطقة؟

ج: باختصار، وببساطة، التمدد الإخواني، والتكفيري، والليبرالي المتغرب (ويجب أن لا ننسى هذا النوع من التمدد الخطير في مجتمعنا العربي أيضاً)، وكل أنواع التمدد المناهضة للهوية العربية عموماً، وللمشروع القومي العربي خصوصاً، يمثل الخط القومي بمختلف تلاوينه نقيضها المنطقي والتاريخي والسياسي والعملي. ومن يحب أن يتسلى، أو يضيع وقته بالأحرى، بدورات التنمية البشرية لمواجهة التمدد التكفيري في الوطن العربي لم يقرأ التاريخ، ولم يقرأ الحاضر، ولم يقرأ المستقبل العربي، فالموجة التكفيرية، منذ الخمسينيات والستينيات، أتت نقيضاً للمد القومي التحرري في الوطن العربي، وما يزال المد القومي التحرري نقيضها الموضوعي، والأنظمة العربية تلجأ للحلول الأمنية، وهي ضرورية على المدى القصير في مواجهة المد التكفيري والإرهاب، لكنْ على المدى الطويل سنظل في حلقة الأمن مقابل الإرهاب حتى يستعيد المد القومي التحرري عنفوانه وألقه في الشارع العربي، وعندما يحدث هذا، لن يتراجع الإرهاب التكفيري فحسب، بل ستتراجع قوى الهيمنة الخارجية على التدخل في الشؤون العربية، وحتى قدرة الغرب على فرض الحصار أو العقوبات على أي قطر عربي بمفرده.

للمشاركة على فيسبوك:

الغزو التركي لليبيا.. مقابلة د. إبراهيم علوش مع صحيفة "الأنوار" التونسيةالجمعة 5/6/2020- س: التدخل التركي في ليبيا…

Geplaatst door ‎إبراهيم علوش‎ op Vrijdag 5 juni 2020

الموضوعات المرتبطة

فيديو: إلى أين تتجه الأمور في غزة ؟ د. إبراهيم علوش في مقابلة مع فضائية القدس اليوم التي تبث من غزة

فيديو: إلى أين تتجه الأمور في غزة ؟ د. إبراهيم علوش في مقابلة مع فضائية القدس اليوم التي تبث من غزة     فيديو: إلى أين تتجه الأمور في غزة ؟ د. إبراهيم علوش في مقابلة مع فضائية القدس اليوم [...]

فيديو: زيارة الرئيس الأسد إلى الصين واللجنة العربية وسورية

فيديو: زيارة الرئيس الأسد إلى الصين واللجنة العربية [...]

حديث في مصطلح “الوحدة الوطنية الفلسطينية” – فيديو

حديث في مصطلح "الوحدة الوطنية الفلسطينية" - [...]
2024 الصوت العربي الحر.