عندما يتحول القوميون إلى دعاة للدولة القُطرية: محمد جابر الأنصاري نموذجاً

January 29th 2021 | كتبها

هل يتوجب على القوميين أن يتبنوا دولة التجزئة في زمن التفكيك؟

إبراهيم علوش – طلقة تنوير 12

يقول د. محمد جابر الأنصاري في كتابه “مراجعات في الفكر القومي”، الصادر عن مجلة “العربي” في 15 تموز 2004، إن الفكر القومي يجب أن يطور نفسه باتجاه: 1) التركيز على تنمية دولة التجزئة، أي الدولة القُطرية التي يسميها “الدولة الوطنية”، والسعي لتأسيس “مجتمع مدني” في كلٍ منها من خلال الانخراط الفعال فيها، بما يناسب كل واحدة منها على حدة، 2) تبني منهج “الوحدة الجغرافية الطبيعية”، أو الوحدة على أساس إقليمي، على نمط “مجلس التعاون الخليجي” أو “الوحدة المغاربية” إلخ… بين الدول القُطرية التي يتألف منها كل إقليم عربي: الجزيرة العربية، الهلال الخصيب، وادي النيل، والمغرب العربي، كمدخل تدريجي بطيء لتحقيق الوحدة العربية الشاملة دون استفزاز القوى الدولية والإقليمية المعادية للوحدة العربية، 3) تلقيح الفكر القومي بالمفاهيم الليبرالية القائمة على “تقبل الرأي الآخر” و”التعددية” وإلى ما هنالك، ونبذ الأيديولوجيات الشمولية، كما يصفها، و”العسكرة” والنفس الإنقلابي التي سادت الحركات القومية عامةً بعد احتلال فلسطين!

لم يكن ما جاء به الأنصاري في “مراجعاته” للفكر القومي جديداً، في الواقع، لأنه قدم اطروحاته تلك، وأخرى مرتبطة بها، بشكل أكثر عمقاً وشمولاً وتماسكاً في مؤلفات أخرى، إنما جاء عرضها هذه المرة بلغة مبسطة نوعاً ما في كتاب شعبي للجمهور، وزعت منه “العربي” عشرات آلاف النسخ، بأسعار مخفضة (دينار واحد في الأردن)، مما يجعل من “المراجعات” أداة للتواصل الجماهيري، مقارنة بكتب الأنصاري الأخرى الموجهة للمثقفين أساساً.  ومن هنا اخترنا التركيز عليه دون غيره، خاصةً أن موضوعته المركزية، وهي الدفاع عن الدولة القُطرية ومشروعيتها ودورها التاريخي هي ذاتها رسالته الرئيسية في أكثر من كتاب للأنصاري، إلى جانب موضوعات أخرى مثل إدانة العمليات الاستشهادية في فلسطين، وإبراز ما يعتبره “دور آل سعود الوحدوي” في الجزيرة العربية، والقضية الفلسطينية كنكبة حالت دون “تشكل المجتمع المدني العربي” (ص 90-93)، والدفاع عن الرفاهية الاستهلاكية التي خلقتها الثروة النفطية في الخليج “مشكلتنا وحدُنا” على حد قوله (ص 21)، وغيرها.

لكن لو أردنا تلخيص الأنصاري بأطروحة واحدة مركزية لقلنا إنها تبرير دولة التجزئة العربية، الدولة القُطرية التي استحدثها الاستعمار، زاعماً أن تنميتها مرحلة من مراحل الوصول للوحدة العربية، وأنها تصهر التعدديات والبنى المجتمعية، وأنها “أول تجربة للعرب في الدولة وفي الوحدة… بمعنى ممارسة العيش في نطاق دولة ثابتة بصفة مستمرة… في نطاق مجتمع مدني ودولة وطنية واحدة.  وهي خطوة تاريخية لا بد منها للوحدة القومية التي لن تكون غير حاصل جمع الوحدات الوطنية” (ص 29).

المشكلة أن الأنصاري، مستشار ملك البحرين، يقدم مثل هذا الطرح المتجرثم في قالب خطاب “قومي عربي”، وأنه يوظفه مباشرةً في تكريس مشروعية الدولة القُطرية في الخليج العربي تحديداً، ولولا ذلك لما كان ثمة داعٍ للالتفات إليه، فخطابه السياسي المناهض للمقاومة وللحركات القومية والوطنية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في الوطن العربي مكشوفٌ ولا يختلف في حيثياته الأيديولوجية عن الخطاب الليبرالي المتغرب الذي يهاجم المقاومة والحركات القومية والوطنية في وسائل الإعلام العربية الممولة من قِبل البترودولار الخليجي، وهو ليس موضوعنا هنا.

موضوعنا هو انحدار الخطاب القومي إلى تبني الدولة القُطرية، ومسخ البرنامج القومي إلى برنامج لاستنهاض دولة التجزئة العربية، وهو ما يجد أفضل تعبير أيديولوجي له (بالمعنى السلبي طبعاً) عند الأنصاري، لكنها تبقى ظاهرة عامة نلمس آثارها بدرجات متفاوتة عند الكثير من القوميين اليوم، وكم من مناضل عروبي عبّر عن استغرابه وخيبة ظنه من انغماس الفصائل الناصرية في مصر، مثلاً لا حصراً، في الشأن المحلي، وتهميشها للقضايا القومية، وتحول برامجها المعلنة إلى برامج إصلاحية محلية تشبه جوانب من برامج أحزاب الأممية الاشتراكية الثانية في أوروبا، تركز على “تطوير” الدولة القُطرية وحل إشكالاتها!  وهو ما ينطبق أيضاً على التحول من الشأن القومي إلى الشأن القُطري عند جبهة التحرير الوطني الجزائري بعد بن بلا، والتحول لوهلة من المشروع العربي إلى المشروع الليبي والأفريقي في ليبيا، والانخفاض التدريجي في منسوب التركيز على الشأن القومي عند حزب البعث في العراق قبل الـ2003، وعند حزب البعث في سورية، وعند الكثير من الأحزاب القومية في الوطن العربي، التي صار بعضها يعتبر أن مصداقيتها ترتبط بقدرتها على الانخراط كلاعب سياسي في الشأن المحلي القُطري لا بمدى امتلاكه لرؤيا ولمشروع وبرنامج قومي يتجاوز حدود الاقطار.

إذن الأنصاري وأجندته أكثر وضوحاً، وأحد الفروق بينه وبين القوميين الآخرين الذين تحولوا موضوعياً إلى قُطريين هو أن التحول إلى القُطرية كان مشروع الأنصاري منذ البداية، أما هم فمعظمهم لم يشعر أين وكيف ومتى أفلت المشروع القومي من بين أيديهم، وأن الأنصاري يدافع بوعي عن أجندة سياسية ترتبط بأنظمة البترودولار تحت يافطة قومية، وأنهم مستهدفون انزلقوا انزلاقاً إلى اللعب بناءً على قوانين التجزئة القُطرية التي يناهضونها بكل إخلاص.  لكن انزلاقهم للنهج القُطري ليس مصداق طرح الأنصاري بأن “الدولة القُطرية هي الحل”، بل مصداق تراجع المشروع القومي الذي تبقى ضرورته قائمة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، كما أن دفاع الأنصاري الأيديولوجي عن منظومة التجزئة القُطرية، الذي يغلفه كدفاع عن “الدولة الوطنية”، لا يمكن فصله عن ارتباطه المباشر بمنظومة سياسية رجعية هي منظومة البترودولار التي يقودها آل سعود اليوم والتي كان همها منذ عقود تصفية الحساب مع أنظمة القوميين وأحزابهم، على عللها الكثيرة، واختلافها، وخلافاتها، وما دور تلك المنظومة في العدوان على العراق عامي 1991 و2003، وفي نشر التكفير الدموي الذي ذاقت الجزائر مرارته في “العشرية السوداء”، وفي تأجيج نيران الفتنة الدموية في سورية ومحاولة تفجيرها من الداخل، وفي العدوان العسكري على اليمن مؤخراً، إلا تصفية حساب تاريخي مع الإرث القومي في الوطن العربي، وكل بقعة عربية لم ترث نظامها السياسي مباشرة من حقبة الاستعمار.

ليس من قبيل الصدفة أن قوس “الربيع العربي” تفجر على شكل دماء ونزعات تفكيكية، أكثر ما تفجر، في الدول العربية التي نالت استقلالها عبر حركة تحرر وطني، لا كمنحة مشروطة بالتبعية من الاستعمار، أو التي تمت فيها الاطاحة بالنظام الذي خلفه الاستعمار، أو التي وصل إلى حكمها طرفٌ عروبي التوجه فترك أثره فيها ولو حاد عن النهج العروبي بعدها.  فإذا كان ذلك صحيحاً، كما يدل تسلسل الأحداث، فإن من المؤكد أن الجزائر ستكون مستهدفة بترودولارياً أسوةً بسورية والعراق وليبيا واليمن… ومصر طبعاً.  لكن ذلك لا يعني أن غول التفكيك سيتوقف عند عتبة الدول العربية التي راكمت، بالرغم من كل أخطائها وخطاياها، إرثاً من منجزات النزعة الاستقلالية والتحرر الوطني والنهج العروبي (تأميم النفط في العراق وتأميم قناة السويس وتحرير الجزائر نموذجاً).  إن غول التفكيك الذي تطلب إطلاقه تحطيم مؤسسة الدولة، لا اسقاط نظامها فحسب، في الدول العربية الوطنية ذات النزعة الاستقلالية، بات يطرق اليوم أبواب كل الدول العربية، حتى الرجعية والتابعة منها، ومنها مملكة آل سعود نفسها، أما النظام الإسلاموي في السودان، فقد أثبت أنه مستعدٌ وقادرٌ على تفكيك نفسه بنفسه.

إن النقطة المركزية التي يتجاوز عنها الأنصاري في طروحاته، عندما يقارن دولة التجزئة العربية بالإمارات الإقطاعية الأوروبية واليابانية، معتبراً أنها ستقوم بعملية بناء وتنمية ستقود موضوعياً لقيام الوحدة، أن الكيانات الإقطاعية الأوروبية واليابانية نشأت نشأة طبيعية نتيجةً لعوامل داخلية أوروبية أو يابانية، أما دولة التجزئة العربية فهي من صنع الاستعمار، وهو الذي رسم حدودها وقرر شكل نظام حكمها، إلا حيث تمت الإطاحة بالنظام الذي خلفه الاستعمار.  فالدولة القُطرية تفتقد للمشروعية لأنها قامت ضمن حدود التجزئة التي وضعها الاستعمار، ولم تأتِ نتيجة توحيد وحدات أصغر في وحدات أكبر كما حدث مع الدويلات والإمارات الألمانية التي بدأت أكثر من 500 دويلة وإمارة عام 1806، وانتهت تدريجياً ثم بالقوة العسكرية الغاشمة للوحدة عام 1870.  فالدولة القُطرية العربية ليست مخلوقاً طبيعياً، ولا جاءت نتاج دمج لإقطاعيات وإمارات أصغر، بل جاءت لتفرض قيوداً متعددة على حركة المواطن والسلعة والفكرة بين المغرب والبحرين لم تعرف الأمة مثلها حتى في أسوأ حالاتها.  إذن جاءت تلك الدولة لتجزأ موحداً، لا لتوحد مجزأً، وجاءت لتبقي الأمة العربية ضعيفة، لا لتكون محركاً لنهضتها.   وجاءت لكي تؤكد ذاتها مقابل دول التجزئة الأخرى، ولكي تكرس هويةً مصطنعة لا تاريخ لها بمعزل عن التاريخ العربي إلا في عصور الانحطاط.

النقطة الأخرى هي أن الاستعمار لم يؤسس دولة التجزئة هذه ليتركها لشأنها لتفعل ما تريده أو تخرج عن طوعه، بل وضع فيها قبل الرحيل شرائح تابعة له لتحكمها بالنيابة عنه فتجعلها دولة تابعة، وهذا يعني أنها دولٌ مفتقدة للإرادة المستقلة، ناهيك عن إرادة تحقيق الوحدة.  كما أن صيرورة تحقق الوحدة القومية من رحم الاقطاعيات الأوروبية القائمة على وجود برجوازية صناعية قومية غير متوفرة عندنا.  ولهذا فإن إقطاعية التجزئة العربية لا تتوفر بذاتها على نوازع داخلية تدفع تلقائياً باتجاه تجاوز ذاتها في الوحدة القومية، على العكس تماماً، تتوفر على نوازع لتأكيد ذاتها في مقابل اقطاعيات التجزئة العربية الأخرى التي ترك الاستعمار فيما بينها مشاكل حدودية وعوامل تفجير كامنة لا تنتهي عندما رسم حدودها، كالمشاكل الحدودية التي تركها الاستعمار الفرنسي بين الجزائر والمغرب مثلاً.

لا بل أننا نذهب إلى أبعد من ذلك للقول إن دولة التجزئة العربية تظل عاجزة عن تحقيق المشروع التنموي أو حماية أمنها الوطني نفسه استراتيجياً ولو حكمها قوميون جذريون، أو قارئ هذه السطور، بأخلص النوايا، لأن قوانين التجزئة  نفسها تمنع تحقيق التنمية والأمن في قطر عربي واحد، وبالتالي تمنع حل مشاكل الدولة القُطرية ما دامت أدواتها قُطرية، وما دامت لم تتجاوز قُطرها.  لهذا رفضنا في لائحة القومي العربي تبني برنامج “وطني ديموقراطي” قُطري، نرى أنه غير منطقي وغير ثوري، في كل دولة عربية على حدة، فالتنمية والتحرر من الاستعمار، والحفاظ على الأمن القومي، مشروع قومي عربي، وهو مشروع واحد، أو أنه مشروع فاشل مسبقاً، إلا بمقدار ما يستطيع المشروع القومي تجاوز حدود أي قُطر يجد نفسه في موضع قوة فيه، ولهذا رفضنا أيضاً فكرة “الإقليم-القاعدة” الذي يسهُل على الاستعمار ضربه، كما رأينا في العراق ومصر محمد علي باشا ومصر عبد الناصر، إلا إذا كان الإقليم قاعدة سياسية-تنظيمية للمشروع القومي، لا قاعدة صناعية وعسكرية بالمعنى التقليدي.  وللمزيد حول هذه النقطة الرجاء مراجعة الفصل الثاني من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي”، ومراجعة مادة د. سعدون حمادي في هذا العدد من طلقة تنوير حول إخفاق التجزئة القُطرية العربية.

نلاحظ أيضاً أن الاستعمار حيثما أنشأ دولة تجزئة عربية لم يكتفِ برسم حدودها، وبالتالي بتحديد حجمها ووزنها ونوعية تناقضاتها الجغرافية-السياسية مع الدول العربية الأخرى، ولم يكتفِ بتحديد الشريحة التي ستحكمها، بل أنه سعى لإقامتها لا على أسس وطنية، بل على أساس توازنات داخلية غير مستقرة مثل المحاصصة الطائفية، كما فعل الفرنسيون في لبنان عام 1943، أو الأمريكيون في العراق عام 2003، وأنه ما برح يعبث بالتناقضات الطائفية والعرقية والقبلية والجهوية في كل البلدان العربية، وأن الدولة القُطرية هي، في الكثير من الأحيان، نتاج تلك التوازنات الهشة، وأنها تجلس منذ البداية على برميل من البارود، وأن الاستثناء هنا هو فقط الحالات التي وصلت فيها قوىً قومية أو وطنية رغماً عن الاستعمار إلى سدة الحكم فسعت، ونجحت أو فشلت، في إقامة دولة وطنية، وأن تلك كانت الحالة الوحيدة التي وُجد فيها مشروع انصهار اجتماعي-سياسي على اساس وطني أو قومي.  فمثل ذلك المشروع كان في أوروبا مشروع البرجوازية الصناعية الصاعدة، وقد ارتبط مباشرة بالمشروع القومي.  ففكرة المواطنة مشروع قومي بالأساس لا تنفصل عن الوحدة والتحرير والنهضة، ولا تسقط كالمن والسلوى من السماء خارج سياق التاريخ وقوانينه.  أما الدولة القُطرية العربية، فقد صُنعت لكي تكون مرتعاً للتناقضات الداخلية، ولأنها بعجزها البنيوي عن تحقيق التنمية والأمن الاستراتيجي، ولو حكمها وطنيون شرفاء، تخلق بيئة مثلى لتفجر التناقضات الداخلية، فما بالك إذا عمل البترودولار على إذكائها؟!  بالمقابل، من لا يرى أن شرط الوحدة الوطنية في كل قُطر عربي على حدة، بين السنة والشيعة والمسيحيين، وبين القبائل والمناطق المختلفة، وبين البادية والحاضرة التي يتحدث الأنصاري عن تناقضهما كثيراً، لا بل بين الأقطار العربية المتصارعة نفسها، هو الانتماء القومي، لا يمتلك حتى مشروعاً وطنياً قُطرياً.

إن التجزئة ليست حالة ستاتيكية جامدة كلوحة زيتية للحياة الساكنة.   التجزئة حالة تفاعلية تعكس ذاتها بقوانين، يمكن أن نسميها قوانين التجزئة، تماماً كالوحدة التي تعكس ذاتها بقوانين وحدوية.  فثمة ديناميكية وحدوية، وثمة ديناميكية تجزئوية، والحالة الوحدوية تعيد إنتاج ذاتها في كل مرحلة تاريخية عند مستوى أعلى، باتجاه المزيد من الوحدة، والحالة التجزئوية تعيد أنتاج ذاتها موضوعياً عند مستوى أدنى، باتجاه المزيد من التفكيك.  فالنزعة الوحدوية عند عبد الناصر مثلاً لا تنتج نزوعاً وحدوياً على مستوى الشارع العربي فحسب، بل تنتج تعميقاً للعلاقات العربية مع حركات التحرر في أفريقيا ودول عدم الانحياز، أما نزعة الانفصال عن العروبة من أجل التركيز على الذات القُطرية فهي التي تنتج الأساس الموضوعي لتفكك الأقطار نفسها عندما يصبح القُطر فريسة الصراعات بين الهويات الفرعية المتناحرة للسيطرة عليه بعد تهميش القاسم المشترك العروبي الأوسع.

التجزئة، إذن، ليست فقط أساس ضعف الأمة والعائق الرئيسي أمام تحقيق تنميتها الاقتصادية وأمنها الاستراتيجي ومشروعها الديموقراطي، وحتى مشروع المواطنة نفسه، بل هي حاضنة مشروع التفكيك الراهن نفسه، وقاعدته الطبيعية.  فليس قومياً من يتحول إلى داعية للدولة القُطرية، والأساس في القومي العربي أن تتكون لديه حساسية عقائدية من تطبيع علاقاته مع الدولة القُطرية، إلا بمقدار تجاوزها لذاتها باتجاه مشروع قومي، وحتى عندها، من دون الخلط بين تأييد مواقفها وسياساتها النابعة من أي نزوع استقلالي أو وحدوي لديها، وبين تأييد مواقفها وسياساتها النابعة من قوانين التجزئة القُطرية نفسها.   وبعد أخذ ذلك بعين الاعتبار، وفقط بعد أخذه بعين الاعتبار، لا يجوز ولا يمكن وضع كل دول التجزئة في سلة واحدة، فبعضها يحاول تبني نهج مستقل عن الإمبريالية، وبعضها تابع للإمبريالية، وبعضها مُطبِع مع العدو الصهيوني، وبعضها يدعم المقاومة ضد العدو الصهيوني، والأساس في القومي العربي أن يدعم النهج الاستقلالي الوطني، ومقاومة العدو الصهيوني، فتلك مساحة تقاطع مع تلك الدول تكبر بمقدار ما تسعى للاستقلال وتناهض الإمبريالية والصهيونية، وبمقدار ما تتبنى نهجاً قومياً عروبياً طبعاً.

لكن ذلك لا ينسينا أن أي دولة قُطرية لها اعتباراتها القُطرية النابعة من قوانين التجزئة التي لا تتقاطع بالضرورة مع مصلحة الأمة، وهنا لا يجوز أن نؤيد أو ندعم كل السياسات بالمجان بدون أي تدقيق لكي لا نكون كمن يبيع المستقبل من أجل الحاضر، أو يخسر ذاته ومشروعه القومي من أجل لحظة سياسية زائلة، بل علينا أن نؤكد على ضرورة إبقاء مسافة مريحة، وعلى حقنا في ممارسة النقد المستند لمصلحة الأمة، حتى إزاء الدولة القُطرية التي تتخذ موقفاً وطنياً استقلالياً، عندما تنزلق لما نعتبره مواقف أو سياسات غير قومية، من دون تجاهل فرق التوقيت بين لحظات المواجهة الضارية مع أعداء الأمة، عندما يكون نقدنا قابلاً للتأجيل،  ولحظات الاستقرار النسبي، مع اختيار المكان والزمان والطريقة المناسبة للنقد بما يخدم المصلحة القومية لا مصلحة أعداء الأمة.

ماذا إذن عن الدول الرجعية أو التابعة أو المطبِعة عندما تتعرض لمشروع تفكيك؟  هل نكتفي بإلقاء محاضرة عليها بأنها مسؤولة عما آلت الأوضاع العربية إليه، ونتشمت بها بالتالي، أو نعتبر أن تفكيكها عقوبة لحكامها على سياساتهم؟

ثمة فرق بين إسقاط حدود التجزئة من أجل الوحدة، وبين إقامة المزيد من الحدود ضمن حدود التجزئة… ومن المؤكد أن أي قومي لا يرضى بتفكيك أي قُطر عربي، حتى عندما يكون حكامه من عتاة الرجعيين أو التابعين للإمبريالية، لأن القُطر ليس ملك حكامه، بل ملك الأمة العربية، ولأن التفكيك لا يبقى في حدود قُطر عربي واحد، ولأن المواطنين العرب في ذلك القُطر هم الذين سيدفعون الثمن، مع كل الأمة، عندما يتفكك.  فالموقف المبدئي هو رفض التفكيك ومقاومته ومواجهة من يسعى إليه في الداخل أو الخارج.  فإذا كان النظام الرجعي أو المطبِع أو التابع خاضعاً أو خانعاً لمشروع التفكيك، كما فعل نظام البشير في السودان، فإن الموقف منه، كما جاء أعلاه، لا يتغير، وإذا كان بصدد مقاومة مشروع التفكيك الذي يتعرض له البلد الذي يحكمه فعلياً، كما يفترض به، ولو دفاعاً عن نفسه فقط، فإن ذلك يخلق مساحة تقاطع ما بالضرورة معه يجب أن نتعامل معها بحذر شديد، فلا يجوز أن نستمر باتخاذ موقف منه كالسابق، من دون أن يصبح ذلك ذريعة للوقوع في احضان ذلك النظام، أو أي نظام، أو للسقوط في براثنه، ويجب علينا أن نميز بشدة بين الدفاع عن مؤسسات الدولة التي تواجه مشروع التفكيك، أي المؤسسات المدنية والعسكرية التي لا بد من وجودها في أي بلد، والتي يتطلب تفكيك البلد تفكيكها، والتي لا بد من دعمها في مواجهة مشروع التفكيك، وبين الدفاع عن نظام الحكم الرجعي أو التابع أو المطبِع نفسه الذي لا يجوز الدفاع عنه مطلقاً.

وهي على كل حال خطوط عريضة لا يمكن اخذها بمعزل عن التشخيص السليم لمصلحة الأمة في كل لحظة سياسية، وعن السياسات والمواقف القومية التي يتوجب اتخاذها في تلك اللحظة، والبراغماتية والدوغمائية صنوان في تضييع مصلحة الأمة في النهاية.  ونظل نقول إننا يجب أن نكون جنود المشروع القومي الذي تحدد ثوابته وضروراته حيثما يتوجب أن نقف في كل لحظة وكيف، وليست هناك وصفات جاهزة تعفينا من التفكير، فلو فكك اليمين الصهيوني السلطة الفلسطينية مثلاً، فإن ذلك لا يجوز أن يدفعنا للدفاع عن وجودها.

30/4/2015 – مجلة “طلقة تنوير” العدد 12

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=491555602246531&id=100041762855804

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.