هل من تغيير حقيقي في قطر عربي واحد؟

March 8th 2010 | كتبها

هل من تغيير حقيقي في قطر عربي واحد؟

وجهة نظر قومية في مشاريع الإصلاح الوطنية والمعادية

د. إبراهيم علوش

التغيير الحقيقي لا يقوم به إلا الضالعون برياضيات الحلم.  فالنظر للواقع البائس بعين المحاسب الباردة فحسب يقود إلى اليأس، ومن ثم إلى القبول بالأمر الواقع كقدرٍ لا يرد، وبالتالي للتخلي عن حلم التغيير، وهي بداية الانجراف للانتهازية باعتبار أن الأولى مجاراة ما لا يمكن تغييره بقدر الإمكان، “وإن لم أفعلها، سيفعلها غيري”، و”الوطن ليس لي وحدي”، و”المهم أن استفيد”، “وبعد حماري ما ينبت حشيش”، كبعضٍ من عناوين ثقافة السقوط الفردية.   ومن ناحية أخرى، يؤدي النظر للواقع بعين الشاعر الحالمة فحسب، في السعي لإحداث التغيير المنشود، إلى القفز فوق قوانين الواقع وسماته الملموسة، ومن ثم إلى القبول بالوهم بديلاً عن الواقع، وبالتالي لتخلٍ من نوعٍ أخرَ – عمليٍ – عن حلم التغيير، وهي بداية الانجراف للهامشية والتقوقع في عوالمَ خاصةٍ خطابيةٍ أو شلليةٍ باعتبار الحلم الذي لا تقف قدماه على أرض الواقع الملموس، بكل ما فيه من وحلٍ وشوائبَ، يتبخر كالدخان في العراء، وتتبخر معه كل التضحيات المخلصة التي بذلت في سبيله، إلا كقصيدة تغوي المزيد من الحالمين.

فعين الشاعر ترى الممكن بين سطور الواقع البائس، وعين المحاسب ترى الكائن بكل بشاعة تفاصيله، بيد أن تحويل الممكن إلى كائن يتطلب إمعان النظر دوماً بالاثنتين معاً، عين الحالم وعين الإحصائي.   وهذا يفرض على أصحاب مشاريع التغيير الحقيقية أن يحلوا التناقض الصارخ في كل لحظة بين معطيات الرؤيتين بتشييد جسورٍ معلقة اصطلح المصلحون والثوريون على تسميتها بآليات التغيير، أي البرامج والخطوات العملية المنبثقة من وسخ الواقع لتدمر القديم وتنشئ الجديد.

ومن البديهي أن التغيير لا يحدث إن لم نحلم جيداً، ومن البديهي أن الحلم لا يتحقق إن لم نحسب جيداً.  فمن البديهي إذن أن يكون التغيير الحقيقي، غير العفوي، لعبة الضالعين برياضيات الحلم.  مثلاً، تغيير واقع الاحتلال يتطلب رفضه كشعراء بعد فهمه كرياضيين أو إحصائيين، وحل التناقض الصارخ في الذات المناضلة ما بين طغيان الرؤيتين لا يتم إلا ببرنامج للمقاومة الشاملة يتعامل مع معطيات الواقع ليقلبه وليسير بعملية التغيير بشكل محسوبٍ إلى النهاية، أي للتحرير الكامل الذي نحلم به كشعراء.

وفي وطننا العربي الكبير يحلم الكثيرون بالإصلاح، بعضهم لا يختلف تصوره للإصلاح عن ما يعتبره الطرف الأمريكي-الصهيوني إصلاحاً، وهذا مثلاً حال الليبراليين العرب، وبعضهم يرى الإصلاح من مناظير مخلصة تقوم على منطلقات يسارية أو إسلامية أو “وطنية ديموقراطية” أو غيرها، وهذا مثلاً حال الكثير من قوى المعارضة العربية، وبعضهم يقلب مشاريع إصلاحه في الهامش الصغير الذي سمحت به الأنظمة العربية لتمتص ضغوط الإصلاح خارجيةً كانت أم داخلية، وهذا حال قطاعٍ لا بأس به من الكتاب والمثقفين العرب الذين اشترتهم الأنظمة أو الذين رغبوا خائفين عن دفع ثمن بطاقة السفر إلى الجنة.

أما هذه المساهمة المتواضعة، فتنطلق من قوانين الجغرافيا السياسية وعلم الاقتصاد والتجارب التاريخية للشعوب لتحاجج باستحالة تحقيق التغيير الجذري في قطر عربي بمفرده، وأن مشاريع التغيير المخلصة، سواءٌ كانت إسلامية أو “وطنية ديموقراطية” أو غير ذلك، لا يمكن لها أن تنجح وتستقر إلا إذا كانت مرتبطة عضوياً بمشروع تغيير جذري مقاوم في الوطن العربي برمته، أي أن مشروع التغيير إما أن يكون قومياً في الممارسة، ولو لم يكن قومياً في الشعار، وإما أن ينحدر، بغض النظر عن حسن النوايا، إلى مستوى قبيلة جديدة تخوض معاركها حسب قوانين التجزئة القطرية.

أولوية الجغرافيا السياسية:

منذ وضعت حدود الدول المصطنعة في بدايات القرن العشرين، سعت النخب الحاكمة فيها إلى اختلاق تاريخ وحضارة خاصة بها تثبت مشروعيتها و تظهرها بمظهر القائم منذ الأزل، وبالتالي إلى الأزل، وكأنها شيئاً يختلف عن التراث والتاريخ العربي والإسلامي.  ومن هنا تعززت النزعات الفنيقية والفرعونية وكل النزعات التي تعزز الدولة القطرية العربية، وصارت الآثار العربية والإسلامية تقدم في مطويات وزارات السياحة العربية كآثار كيانات منفصلة ذات تاريخ، وقد انضمت السلطة الفلسطينية مؤخراً إلى جوقة تعزيز الهوية القطرية في مواجهة العرب الآخرين.

وإذا كانت هذه السلوكيات تنجم عن حاجة النخب الحاكمة لإثبات مشروعيتها، فإنها أدت عبر العقود إلى نشوء وعي قطري لوث الوعي الجمعي العربي وزرع الحواجز النفسية بين أبناء الشعب الواحد في بعض الحالات.  وبمقدار ما كان يهون أي نظام عربي إزاء الغرب والعدو الصهيوني، بالمقدار نفسه كان يسعى إلى إثبات وجوده أمام طرفين: 1) مواطنيه، و2) الأنظمة العربية الأخرى.   وأدت آليات التعويض والمبالغة في محاولة تضخيم الذات القطرية المختلقة إلى نشوء الظواهر التالية:

1) التوسع في إنشاء المؤسسات السياسية والعسكرية لتحمي المؤسسات الواسعة الكبيرة السلطة، ولتفرض ما تحتاجه من مشروعية، ولتغطي الضآلة الجغرافية والاقتصادية والضعف أمام الجماهير، ولتوفر التوازن اللازم مع الجيران الصغار والكبار،

2) الإغراق في المظاهر الاحتفالية،

3) التعبئة على أساس الولاء للأسرة الحاكمة والزعيم الأوحد والقطر،

4) المبالغة في تصوير الإنجازات السياسية والاقتصادية والعسكرية، و

5) الإسراف في تأكيد الدور السياسي والاقتصادي والثقافي للقطر إقليمياً ودولياً.

ولكن فلننسَ هنيهةً الغزل الوحدوي وروابط الدين والعروبة واللغة والتاريخ: لا يقوم أيٌ من بلدان الوطن العربي في فراغ، بل في ملعب جغرافي إقليمي محدد يستحيل تفصيل أو عزل أي مربع منه بخط خنفشاري في مياه البحر قد نسميه حدوداً.  فالعلاقات والتفاعلات التي لا مفر منها ما بين الظواهر ومكونات الأشياء تفرض وجوداً إقليمياً عابراً للحدود السياسية، وتأثيراتٍ أقوى من الخطوط في الرمال تفعل فعلها عبر القوانين الحديدية للجغرافيا السياسية.

ولا يمكن أن نفهم دافع الاستعمار الأوروبي لتأسيس دولة “إسرائيل” مثلاً إلا من منظور قوانين الجغرافيا السياسية.  فبعد قيام محمد علي باشا في مصر بضم الجزيرة العربية وبلاد الشام خرج وزير خارجية بريطانيا بالمرستون بفكرة “عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين” لقطع الطريق على مصر شرقاً.  ففلسطين لم تكن مستهدفة يوماً إلا بسبب موقعها في قلب الوطن العربي، ومعاناة الفلسطينيين ليست إلا نتاجاً فرعياً لموقع فلسطين الجغرافي السياسي!  … وهو ما ينساه كثيرون اليوم، من الفلسطينيين، وباقي العرب، فدولة العدو كانت وما زالت موجهة أولاً ضد نشوء كتلة منافسة للغرب.

مثال أخر: بعد إخراج محمد علي باشاً بالقوة من الجزيرة العربية وبلاد الشام، قام الاستعمار الأوروبي بإعادتهما إلى الدولة العثمانية، فقد كانت بريطانيا تتعامل مع العثمانيين كحاجز جغرافي سياسي فحسب ضد تمدد القياصرة الروس جنوباً وغرباً.  وعندما تم توقيع المعاهدة البريطانية-الروسية، واستعيض عن العداء التقليدي البريطاني-الروسي بالتحالف، أصبحت الدولة العثمانية بحكم المنتهية، ووقع انقلاب “تركيا الفتاة” عام 1908.

ولا يمكن فهم العلاقات الدولية أو الصراعات الإقليمية على حدٍ سواء دون الاستعانة بقوانين الجغرافيا السياسية.  فالاتحاد السوفياتي والصين تصارعا تحت أقنعة أيديولوجية على قيادة المعسكر الاشتراكي كأكبر كتلتين فيه.  ولا يخرج صراع البعثين السوري والعراقي في المشرق العربي عن هذا القانون.  وتنافست بروسيا والنمسا على قيادة باقي الولايات الألمانية في القرن التاسع عشر، فأخرجت النمسا من المعادلة حتى مجيء هتلر فابتلعتها ألمانيا.  ومعاهدة كامب ديفيد التفاف دولي على الجغرافيا السياسية الإقليمية لإخراج الوزن المصري من معادلة الصراع العربي-الصهيوني…

قوانين الجغرافيا السياسية تعني أن قيادة الوطن العربي لا تكون جيبوتي مثلاً أو فلسطين أو ليبيا أو أي الأقاليم التابعة تاريخياً لمراكز الثقل في سوريا والعراق والجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي.  والخلافة، عندما كانت عربية، كانت بالضرورة في إحدى هذه المراكز الإقليمية، ولا يمكن بالتالي أن “تستقل” الأقطار العربية الثانوية إلا بالتبعية لقوى كبرى خارج الإقليم.

فهي معادلة رياضية لا مفر منها.  ولا تنشق قطر مثلاً على السعودية دون الاستعانة بأمريكا، ولا ينشق لبنان على سوريا دون أن يصبح أمريكياً أو فرنسياً أو  “إسرائيلياً”، والسودان دون مصر يصبح مجرد فريسة، أما فلسطين، فكانت تاريخياً منطقة نفوذ مصرية أو سورية، فالقرار المستقل يعني بالضرورة التبعية للقرار الأمريكي-الصهيوني، ففلسطين ليست معلقة في فراغ!

ولو استلم السلطة في أي قطر عربي حزب إسلامي أو قومي أو ماركسي أو بوذي،  مبدئي أو انتهازي، فهو لا يملك الخروج على قوانين الجغرافيا السياسية، فهو في السودان إما أن يتبع مصر أو قوة كبرى خارج الإقليم، وهو في لبنان إما أن يتبع سوريا أو قوة كبرى خارج الإقليم، وهكذا… والأقطار العربية الثانوية إما أن تكون مواطئ قدمٍ لقوى الهيمنة الخارجية ضد المراكز الإقليمية، أو أن تكون منطقة نفوذ للمراكز الإقليمية… أو ساحة اشتباك وتصارع على النفوذ بين اللاعبين الكبار.

لذلك، فإن شعاراً مثل “العراق أولاً” أو “مصر أولاً” أو “الأردن أولاً” أو “القرار الفلسطيني المستقل” أو “حرية وسيادة لبنان” لا يعني أبداً أن ذلك المربع المصطنع اصطناعاً بخطٍ من الرمال في الصحراء سيتحول بانعزاله إلى جنة معلقة فوق الإقليم، ولا أن لبنان بعيداً عن سوريا سيكون مستقلاً، أو أن مصر بعيداً عن عمقها العربي سترفل بالنعيم، ولا أن الصحراء الغربية ستستقل فعلاً ولو اعترفت بها الأمم المتحدة.

ليكن واضحاً: لا ندعو أبداً للتبعية لأي نظام، بل لمنطق شمولي في فهم الأمور، فالمستهدف مثلاً في الهجمة اليوم على لبنان ليس وحدة وعروبة لبنان فحسب، بل سوريا المركز الإقليمي، ولو كان حاكمها معاوية بن أبي سفيان أو قارئ هذه السطور.

والجغرافيا السياسية تساعدنا أيضاً على فهم ماهية المشروع الأمريكي-الصهيوني في الوطن العربي اليوم، مشروع التفكيك وتغيير الهوية، فالهيمنة الأمريكية-الصهيونية على بلادنا لا يمكن أن تستتب إلا إذا دمرت الدول العربية المركزية لخلق مجال حيوي يمكن أن يملأه الكيان الصهيوني، والطريقة المثلى لتحقيق ذلك هي إثارة موضوعة حقوق الجزئيات (الأقليات، والأفراد، والأقاليم) في مواجهة موضوعة حقوق الأمة (في التحرير والوحدة والنهضة).  ومن هنا، لا بد أيضاً من حل الرابط الحضاري الذي يبقي نسيج المنطقة متماسكاً من الناحية الثقافية وهو الرابط العربي-الإسلامي…  والبديل بالطبع هو الهويات المتناحرة الطائفية والاثنية والأقاليمية في ظل “شرق أوسط كبير”.

لا بل أن مشاريع “الإصلاح” المتبناة أمريكياً اليوم تصب مباشرة في مشروع التغيير إلى الأسوأ، أي تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ، ولا يتورع الطرف الأمريكي-الصهيوني عن توظيف مشاريع التغيير القطرية الأخرى، ولو كانت مخلصة، سواءٌ كانت إسلامية أو “وطنية-ديموقراطية” للضغط على الأنظمة العربية سياسياً لابتزاز التنازلات منها حتى في العلاقة مع العدو الصهيوني.  ولا نبرأ الأنظمة هنا من ممارساتها بالطبع، ولكن نشير أن مجرد طرح “مشروع إصلاح” على المستوى ما دون القومي إما أن يكون ذراً للرماد في الأعين وإما أن يكون أداة سيطرة وتحكم خارجية وإما أن ينجح على المدى القصير فقط.

فتجربة محمد علي باشا النهضوية التوحيدية انتهت عندما تقوقعت في مصر، والتجربة الإسلامية في السودان انتهت عندما لم تتمكن من الامتداد إلى مصر، والتجربة الاشتراكية في اليمن الجنوبي انتهت لأنها لم تتمكن من الامتداد حتى إلى اليمن الشمالي أو عمان وقتها، ومنهما إلى باقي الجزيرة العربية، ومنظمة التحرير الفلسطينية انجرفت إلى عملية التسوية لأنها حاصرت نفسها بعقليتها القطرية وحاصرتها الأنظمة العربية، والتجربة الوطنية الديموقراطية الجزائرية لم تتمكن من التمدد خارج حدودها، فانتهت إلى صراع إقليمي على أساس قوانين التجزئة حول الصحراء الغربية، ولو تمكن البعث في أيٍ من سوريا أو العراق من التمدد خارج قطره باتجاه القطر الآخر، بالتراضي أو بالقوة، لاختلف الوضع العربي بأسره، وهكذا دواليك…

بناءً عليه، يسهل ضرب أية تجربة تغيير مخلصة، سواءٌ كانت إسلامية أو “وطنية-ديموقراطية” ما بقيت منعزلة داخل حدود القطر، وما لم تنطلق إلى رحاب الوطن العربي الكبير.  وهذا يعني أن بناء الحركة الشعبية العربية المنظمة أولى من استلام السلطة، أو حتى من المشاركة فيها، في حدود قطر عربي واحد، إلا إذا كان ذلك جزءاً من مشروع تغيير قومي شامل، وأن الشعار الوطني الصرف، أو التنموي الصرف أو الديموقراطي الصرف، لا قيمة له على الإطلاق إلا إذا كان جزءاً متكاملاً من مشروع قومي شعبي.

المشروع الوحدوي وقضية الديموقراطية في الوطن العربي:

فالديموقراطية ليست مجرد شعار، بل لها شروطاً مادية لا بد من تحقيقها كي تتحقق بها. وهي لم تأت إلى أوروبا إلا بعد الثورة الصناعية وعصر التنوير ونشوء واستقرار الدولة القومية.  وهي بالضبط الشروط التي عمل على تحقيقها أي مشروع نهضوي عربي من محمد علي باشا إلى عبد الناصر إلى الرئيس الشرعي للعراق صدام حسين.

أما منع تحقيق الشروط المادية التي تتم بها الديموقراطية، من التصنيع إلى الدولة القومية إلى البنية التحتية للنهضة العلمية-التقنية، فهو من صميم أهداف الأمريكان والصهاينة في الوطن العربي اليوم، وما استهداف العراق إلا لأنه حاول وضع اللبنة الأساسية لمشروع عربي نهضوي.

فلا يمكن فصل الديموقراطية في أي جزء من الوطن العربي عن المشروع الوحدوي التحرري.

ولا يمكن أن تقوم ديموقراطية حقيقية ضمن حدود التجزئة أو مشروع ديموقراطي حقيقي.

فالتجزئة تعني الضعف والخضوع لقوى الهيمنة الخارجية.

وقوى الهيمنة الخارجية ستسلط علينا عملاءها لأن الشعب الحر سيمنعها من تحقيق أطماعها فينا، وبالتالي، فهي لا يمكن أن تسمح بقيام ديموقراطية حقيقية في أي جزء من الوطن العربي تفرض سيطرتها عليه، ولا يمكن أن تسمح بالديموقراطية إلا في ظل سيادة الوعي التفكيكي الطائفي والاثني والعشائري في دويلات سايكس-بيكو والأسوأ الذي قد يخلفها.

وبالمقابل، لا تملك الدولة العربية القطرية وحدها دون بقية الأمة، حتى لو كانت كبيرة مثل مصر أو العراق، الموارد الكافية للتصدي للمشروع الأمريكي-الصهيوني في بلادنا. وفي مواجهة هذا الوضع لا يمكننا أن نعمل على تحقيق الديموقراطية فعلاً في أي قطر عربي إلا بالترابط مع العمل على تحقيق المشروع العربي الوحدوي، ومع دعم كل مشروع مقاومة ضد قوى الهيمنة الخارجية حتى لو جاءت هذه المقاومة من قوى لا يتفق معها المرء في كل شيء.

وهذه وجهة نظر ليس لنا أن نفرضها على أحد.  ولكن نموذج القيادة العراقية، ولو كانت لك ملاحظات على بعض ممارساتها، كان يمثل في العراق مشروعاً عروبياً نهضوياً مقاوماً شئنا أم أبينا، تماماً كما كان المشروع الناصري في مصر.  وفي الحالتين، عملت قيادة ذلك المشروع  على تحقيق التصنيع وتنمية رأس المال البشري.  والأهم، لقد ثبت الآن أن العراق أن لم يكن فيه حكم مركزي قوي، فإنه قابلٌ للتفكك والفوضى.  فالحديث عن دولة فدرالية في العراق وصفة للتفكيك المدفوع بحسابات استراتيجية إقليمية ودولية، وليس وصفة للديموقراطية.  وهذا لا يشكل خطراً على العراقيين فحسب، بل على الأمة العربية بأسرها، وعلى رأسها فلسطين.  والديموقراطية لا توجد في فراغ، بل في البلاد المستقرة والقوية والمزدهرة اقتصادياً.

من هذا المنطلق، يشكل الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق خطوات إلى الخلف بالنسبة للمشروع الديموقراطي في كل الوطن العربي، وليس فقط في العراق.  والمشروع الديموقراطي في الوطن العربي هو بالضرورة مشروعٌ وحدويٌ كما أنه مشروع صدام مع قوى الهيمنة الخارجية، أي أنه مشروع مقاوم، لا مشروع مشاركة في الدول القطرية أو ما دون القطرية، فالمقاومة العراقية إذن هي رأس حربة المشروع الديموقراطي في الوطن العربي بالمعنى التاريخي.

المشروع الوحدوي وقضية التنمية في الوطن العربي:

في زمن العولمة بالذات، فإن الحديث عن التنمية يقتضي الحديث عن الوحدات الاقتصادية الكبرى.  وإذا كانت أمريكا قد سارعت لإقامة منطقة تجارة حرة مع كندا والمكسيك رداً على خطوات الوحدة الأوروبية، وإذا كانت الدول الكبرى نفسها في كل مكان، من أمريكا اللاتينية إلى شرق آسيا تسعى جاهدة للاندماج في وحدات اقتصادية أكبر، فإن المشروع الأمريكي-الصهيوني لتجزئة الدول العربية المعبرة عن واقع تجزئة أصلاً لا يمكن أن يكون وصفة ناجحة لتحقيق التنمية الاقتصادية في الوطن العربي.

فالثورة الصناعية في أوروبا ما كانت لتقوم في ظل التفكك الإقطاعي، ولذلك كان توحيد السوق القومية في ظل دول مركزية قومية شرطاً ضرورياً لحدوث التنمية الاقتصادية فيها.  وهذا يحكمه قانون الإنتاج الكبير الذي يسمح بالتخصص وبتخفيض الكلفة.  ويسمى هذا القانون في علم الاقتصاد اقتصاديات الحجم Economies of Scale.  على سبيل المثال، مصنع السيارات يجب أن ينتج سنوياً مئة وخمسين ألف إلى مائتي ألف سيارة لكل يصل للحد الأدنى لكلفة السيارة الواحدة.  فلو أنتج أقل من ذلك، فإن الكلفة ستكون أعلى، وبالتالي يصبح من الأجدى أن يتم استيراد السيارة بدلاً من انتاجها محلياً.  فلو كان السوق صغيراً، لا يمكن الوصول لاقتصاديات الحجم.  وما ينطبق على مصنع السيارات ينطبق على كل قطاعات الصناعة الثقيلة من الحديد والصلب إلى صناعة الأسلحة إلى صناعة الطائرات إلى غيرها.  فالدول المجزأة تبقى مستهلكة لا منتجة، وتستفيد الدول الكبرى ذات الأسواق الكبرى من التصدير إليها.

وما سبق ينطبق على السلع المتجانسة Homogeneous Goods  التي تخرج متشابهة كأسنان المشط من مصنع واحد، ولكن الإنتاج الكبير اليوم بات يعتمد على التنوع والابتكار، والتفوق في هذا المضمار يحتاج أيضاً للوحدات الاقتصادية الكبيرة لأن التنوع والابتكار يحتاج إلى: 1) استثمارات هائلة في العلم والتكنولوجيا، 2) لأسواق كبيرة لاسترداد كلفة ذلك الاستثمار.  وما سبق قوله عن ضرورة الوحدات الكبيرة لتحقيق اقتصاديات الحجم أو الفوائد الاقتصادية للعلم والتكنولوجيا يثبته علم الاقتصاد الجزئي بالمعادلات الرياضية في مجال اقتصاديات الإنتاج Production Economics.  وهذا أحد أهم الأسباب التي تدعو الكيان الصهيوني وأمريكا يصران على التطبيع الاقتصادي لأن فتح الأسواق العربية أمام الصناعات الصهيونية يتيح لها أن تحقق فوائد الوحدة العربية لنفسها دون تحقيق وحدة عربية!

خلاصة:

لا مستقبل لهذه الأمة إلا بالمشروع النهضوي الوحدوي المقاوم.  ولا ديموقراطية ولا إصلاح ولا تنمية ولا تحرر من قوى الهيمنة الخارجية ولا مشروع وطني-ديموقراطي ولا مشروع إسلامي إلا إذا وجد له قواعدَ في أكثر من قطر عربي واحد.  وهذا يعني أن أي مشروع وطني فعلاً لا يمكن أن ينجح إلا على المدى القصير إن لم يصبح قومياً بالفعل وليس فقط في الشعار، وهو ما جعل جمال عبد الناصر يتحول من وطني مصري مخلص إلى قومي عربي.  ولكن القول أن لا أمل لأي مشروع إصلاحي أو “وطني-ديموقراطي” أو إسلامي، ضمن الحدود القطرية، لا يعني أن نقوم اليوم بإنكار وجود العراق أو سورية أو الأردن أو فلسطين أو مصر أو السودان أو المغرب أو الجزائر أو اليمن أو غيرها من الأقطار العربية، بل يعني أن الشعار الذي يجب أن يرفعه حملة لواء مشروع التغيير في أقطارهم هو العراق العربي أو سوريا العربية أو فلسطين العربية أو الأردن العربي أو الخليج العربي أو السودان العربي أو المغرب العربي الخ… خاصة في وجه مشروع التفكيك الذي تواجهه الأمة.  فكما لا ينفي اسمك الأول اسمك الأخير، لا ينفي انتماؤك للعراق أو فلسطين انتماءك للعروبة، بل يؤكدها، ولا ينفي انتماؤك للأمة العربية انتماءك للعالم الإسلامي، بل يؤكده.  وشعار عروبة القطر في هذه المرحلة، من المحيط إلى الخليج، هو الشعار الذي يحمل في طياته فكرة التحرر من الاحتلال والرابط المشترك في آنٍ معاً.

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.