الصهيونية وأسس مناهضتها

May 15th 2020 | كتبها

إبراهيم علوش – طلقة تنوير 26

كثيراً ما تضيع الصورة الكبيرة حول الصهيونية في وحول الحدث السياسي الراهن وغابات التفاصيل اليومية، فلا بد من رسم الصورة بأوسع المقاييس، قبل الدخول في التفاصيل:

1) الصهيونية حركة سياسية هدفها استعماري استيطاني إحلالي فعلاً، لكن فصلها عن اليهودية يشبه الفصل ما بين النبتة والتربة، وفكرتا “أرض الميعاد” (احتلال فلسطين) و”شعب الله المختار” (استباحة الأمم الأخرى كأغيار) فكرتان توراتيتان بامتياز، كما أنها تظل في النهاية مشروع يهودي لليهود، ولو استخدم أدوات أخرى من “الأغيار”.

2) يتألف البرنامج الصهيوني من شقين، شق يتعلق باستعمار بفلسطين، وشق يتعلق بتأسيس حركة صهيونية ذات نفوذ عالمي، ولا يمكن فصل المسارين أحدهما عن الآخر، ومن هنا يختلف احتلال فلسطين عن أي احتلال آخر في أنه ليس موضعياً فحسب، بل يعتمد على شبكة نفوذ يهودية دولية.

3) يقوم البرنامج الصهيوني في فلسطين على الأسس التالية: أ – هجرة اليهود إلى فلسطين، ب – افتعال مجتمع يهودي في فلسطين، ج – تأسيس بنية تحتية لدولة في فلسطين، وهي الأسس التي تناولها كتاب ثيودور هرتزل “الدولة اليهودية”، وبالتالي فإن من يتسامح مع أيٍ من هذه الأسس لا يمكن أن يكون بأي شكل مناهضاً حقيقياً للصهيونية.

4) لا يوجد “يهودي جيد” في فلسطين، ومناهضة الصهيونية بالنسبة لليهودي تتطلب، كشرط ضروري غير كافي، مغادرة فلسطين، أما الشرط الثاني فهو بالحد الأدنى اعتزال شبكة النفوذ اليهودي خارج فلسطين، ومناهضتها إن كان يصر على اعتبار نفسه تقدمياً…

5) مناهضة الصهيونية تعني: أ – تبني عروبة أرض فلسطين كاملة، والجولان، والأراضي العربية المحتلة الأخرى، ب – دعم كل أشكال مقاومة الاحتلال، وعلى رأسها العمل المسلح والاستشهادي، ج – مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، د – مناهضة نفوذ وسياسات ومشاريع الحركة الصهيونية في الوطن العربي وحول العالم.

6) التمييز بين اليهودي الشرقي واليهودي الغربي، وبين اليهودي “التقدمي” وغير التقدمي في فلسطين عبارة عن هراء، فكلهم جزءٌ لا يتجزأ من المشروع الصهيوني ما داموا على أرض فلسطين.

7) ليس على العربي أن يثبت أنه “غير معادي لليهود”، إنما على اليهودي أن يثبت أنه مناهض للصهيونية، بحسب التعريف أعلاه.

8) ليس هناك ما يثير الشفقة والحيرة أكثر من مشهد شخص عربي يحاول أن يثبت للـ”راي العام الغربي” أنه غير “معادي للسامية”!!

9) كل مشاريع التعايش مع العدو الصهيوني، من “الدولة الواحدة” إلى “الدولتين”، هي مشاريع مناقضة لعروبة فلسطين، بالتعريف، وبالممارسة.

10) دولة العدو الصهيوني ليست مجرد قاعدة للإمبريالية في الوطن العربي، كالرجعية العربية مثلاً، بل تشكل الحركة الصهيونية جزءاً رئيسياً من المنظومة الإمبريالية، فهي ليست مجرد أداة، بل شريك عضوي في شريحة رأس المال المالي الدولي.

11) من البديهي أن صراعنا مع الإمبريالية، كأمة عربية وكعالم ثالث، لا يُحل بتخليص الغرب من “السيطرة اليهودية”، كما يزعم بعض السطحيين، فصراع العالم الثالث مع الإمبريالية أساسه منظومة الهيمنة والاستغلال الدولية، وصراعنا كعرب مع الغرب، فضلاً عن ذلك، أساسه الجغرافيا السياسية للسيطرة على حوض المتوسط والعالم القديم، كما أدرك هنيبعل في صراعه مع روما، وهو الصراع الذي كانت تتمته الطبيعية تأسيس الدولة العربية الإسلامية في الأندلس ومعركة بلاط الشهداء (بواتييه)، وكما أدرك جيداً من شنوا حملات الفِرنجة على بلاد الشام ومصر، إنما يزيد البعد الصهيوني في زماننا الصراع مع الإمبريالية احتداماً ودموية في حالتنا كعرب في الحقبة الإمبريالية الحديثة.

12) لا يوجد مناهض حقيقي للإمبريالية، من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى آسيا، لم يصطدم بالصهيونية، أي شبكة النفوذ اليهودية العالمية، ولا توجد أداة أو حليف حقيقي للإمبريالية لم يتقارب مع الصهيونية، جماعة البترودولار الخليجي اليوم نموذجاً. فقضية فلسطين مقياس دولي للعداء للإمبريالية، لا للصهيونية فحسب.

13) أساطير المخرقة، أي مزاعم إبادة النازيين لليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية في غرف الغاز الخرافية، ليست شأناً أوروبياً فحسب، بل هي إحدى الملفات الرئيسية في الصراع العربي-الصهيوني لأنها تمثل الذريعة المعنوية الكبرى لحاجة اليهود لكيان خاص بهم يحميهم من “لاسامية” هذا العالم.

14) تقوم أساطير المخرقة على ثلاث دعائم: أ – أن النازيين قتلوا ستة ملايين يهودي، ب – أنهم فعلوا ذلك في “غرف غاز” مزعومة، ج – أن النازيين كانت لديهم سياسية إبادة منهجية لليهود في الحرب العالمية الثانية.

15) الرد: أ – سياسة النازيين إزاء اليهود في الحرب العالمية الثانية كانت الترحيل من ألمانيا، باتجاه أوروبا الشرقية، ولا توجد ورقة أو أمر واحد في كل مذكرات قادة الحرب العالمية الثانية، من ديغول إلى تشرتشل، تثبت أن النازيين سعوا لإبادة اليهود في أوروبا، ب – لم يكن يوجد ستة ملايين يهودي في ظل الحكم النازي في الحرب العالمية الثانية، ومن النصف مليون ونيف من اليهود الألمان الذين عاشوا في ألمانيا أيام النازيين، ظل حوالي مئتي ألف منهم أحياء في ألمانيا بحسب الأدبيات السوفييتية، ج – لا يوجد دليل واحد أن شخصاً واحداً، أكرر، شخصاً واحداً، يهودياً أو غير يهودي، مات بغرف الغاز المزعومة، بل مات اليهود كغيرهم في الحرب العالمية الثانية بسبب الجوع والمرض والقصف وما شابه، وكان مجموع عدد ضحاياهم بمئات الآلاف، من أصل 55 مليوناً ماتوا في الحرب العالمية الثانية، فقصة “فرادة موت اليهود”، من دون غيرهم من الناس، عبارة عن هراء.

16) أساطير المخرقة، أو ما يعرف باسم “الهولوكوست”، باتت من البقرات المقدسة في عالمنا المعاصر، فهي أشبه بأصنام ما بعد الحداثة، وبالتالي فإن تحطيمها والدوس والتبول عليها بات واجباً مقدساً لكل مناهض للإمبريالية والصهيونية حول العالم، لمن يزعم أنه مناهضٌ للأصنام، فتلك هي اللات والعزة ومناة في زماننا.

17) لينتبه كل من يهمه الأمر أن هذا الموضوع حساس جداً في الغرب، وأنه مصدر ابتزاز مالي وسياسي كبير عند الحركة الصهيونية العالمية لتحقيق ما يلي: أ – تبرير وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، ب – تبرير نفوذ الشبكة اليهودية العالمية، ج – شطب كل من يجرؤ على نقد الصهيونية وكيانها ونفوذها باعتباره “معادياً للسامية”، ه – تبرير حاجة الحركة الصهيونية وكيانها لتجاوز كل القوانين الدينية والوضعية، يعني البقاء فوق أي قانون، بذريعة “حماية اليهود من تكرار المحرقة” تحت شعار Never Again.

18) للأسف، المشكلة الوحيدة في المخرقة، بحسب الرواية السائدة عنها، هو أنها لم تقع. وإذا كان هنالك عربٌ يزعجهم مثل هذا الكلام، فإن ذلك سيكون من دواعي سرورنا، ومن الطبيعي أن تتم معاملتهم معاملة اليهود الذين يتعاطفون معهم.

19) الاندفاع خلف إدانة النازية والفاشية، الذي تصر أفلام هوليود يومياً على إعادة إحيائه، لا يعنينا كثيراً كعرب. فمن استعمرنا وفككنا وأدخل الكيان الصهيوني إلى فلسطين، هو الاستعمار “الليبرالي” الإنكليزي والفرنسي. وباستثناء ليبيا التي احتلها الإيطاليون الفاشيون، فإن مشكلتنا كعرب أكبر بكثير مع الاستعمار “الليبرالي” و”الديموقراطي” المناهض للنازية والفاشية، مما هي مع النازية والفاشية..

20) على كل حال، النازية والفاشية ماتت، وما بقي منها هو الليبرالية الجديدة، المتقنعة بقناع مناهضة الفاشية والنازية، وهي أكثر خطراً علينا، وأشد عداءً، بالضبط لأنها تبتز “الحس الإنساني” فينا للاصطفاف مع الاستعمار الحقيقي هنا والآن، ضد أنفسنا، في مواجهة خطر نازي وفاشي مزعوم “صارت عظامه مكاحل”.

21) فلسطين هي بؤرة الصراع مع الحركة الصهيونية، فهي التعبير المكثف للصراع العربي-الصهيوني، ولصراع كل محبي الحرية والعدالة في العالم مع الإمبريالية والصهيونية، ولذلك فإن أي مشروع “حل سياسي” للصراع، غير تفكيك المجتمع اليهودي في فلسطين تماماً، وتصفيته جسدياً إذا اقتضى الأمر، يمثل موقفاً انتهازياً وتوفيقياً لا يجوز منحه حتى حق النقاش في المعسكر الوطني والقومي.

22) فلسطين احتلت لمنع قيام الوحدة العربية بعد مشروع محمد علي باشا الوحدوي النهضوي، وقد تبنى الاستعمار البريطاني المشروع الصهيوني ضمن ذلك السياق الجغرافي السياسي بالتحديد، لذلك يجب التعاطي مع المشروع الصهيوني كمشروع نقيض للمشروع الوحدوي النهضوي التحرري في الوطن العربي، وليس في سياق منطق إيجاد الحلول للصراع.

23) الصراع تناحري عنيف ودموي إما نحن وإما المشروع الصهيوني، كما صاغها نجيب عازوري في العام 1905: إما المشروع الصهيوني المتمدد، وإما المشروع القومي العربي، وهما مشروعان يعتمد على صراعهما مصير العالم.

24) لا يستطيع المشروع الصهيوني أن يعيش ويستمر في هذا الجزء من العالم إلا إذا فكك المنطقة وغيّر هويتها، ولذلك فإن ما نشهده من صراعات طائفية واثنية ومناطقية لخلق فسيفساء “الشرق الأوسط” هي المشروع الصهيوني في زماننا المعاصر بعد انتقاله من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.

25) النقيض الموضوعي الوحيد للمشروع الصهيوني في الوطن العربي هو المشروع القومي، وكل مشروع يتعامل مع اليهود كـ”أهل كتاب” أو كـ”تقدميين” محتملين هو مشروع مخترق يصب في جيب المشروع الصهيوني، وبالحد الأدنى يفتقد للجذرية اللازمة ليكون نقيضاً للمشروع الصهيوني.

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=3626347100715832&set=a.306925965991312&type=3&theater

الموضوعات المرتبطة

طلقة تـنوير 92: غزة وقضية فلسطين: أين مشروعنا؟

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 آذار 2024     محتويات العدد:    قراءة في أزمة العمل الوطني الفلسطيني / إبراهيم علوش    غزة: المعركة التي رسمت معالم المستقبل / [...]

طلقة تـنوير 91: الرواية الفلسطينية تنتصر/ نحو حركة شعبية عربية منظمة

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 كانون الثاني 2024        محور انتصار الرواية الفلسطينية في الصراع: - جيل طوفان الأقصى/ نسرين عصام الصغير - استهداف الصحفيين في غزة، [...]

طلــقــة تــنويــر 90: ما بعد الطوفان عربياً

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الثاني 2023 - الطوفان المقدس: غرب كاذب عاجز، ومقاومة منتصرة / كريمة الروبي   - بين حرب السويس وطوفان الأقصى / بشار شخاترة   - طوفانٌ يعمّ من [...]

طلــقــة تــنويــر 89: الهوية العربية في الميزان

  المجلة الثقافية للائحة القومي العربي - عدد 1 تشرين الأول 2023 محتويات العدد:   - مكانة الهوُية بين الثقافة والعقيدة: قراءة نظرية / إبراهيم علوش   - الهوية العربية بين الواقع والتحديات / ميادة [...]

هل القومية فكرة أوروبية مستوردة؟

  إبراهيم علوش – طلقة تنوير 88   تشيع جهالةٌ في خطاب بعض الذين لا يعرفون التراث العربي-الإسلامي حق المعرفة مفادها أن الفكرة القومية عموماً، والقومية العربية خصوصاً، ذات مصدر أوروبي مستحدث [...]
2024 الصوت العربي الحر.