إبراهيم علوش ومحمد أبو نصر
16/6/2011
ينطلق التناقض بين إدارة أوباما في الولايات المتحدة، من جهة، وإدارة نتنياهو وبعض أجنحة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة من جهة أخرى، من تحول قطاعات أساسية من النخبة الحاكمة الأمريكية إلى قناعة مفادها أن تركيز الجهود الأمريكية في حقبة بوش الابن والمحافظين الجدد خلال العقد الماضي على المنطقة العربية والعالم الإسلامي أدى إلى صعود قوى دولية منافسة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل باتت تهدد الهيمنة الأمريكية-الأوروبية على العالم بشدة.
ومن هنا جاء التحول في ظل إدارة أوباما من “الحرب على الإرهاب”، التي كانت تستهدف العرب والمسلمين والحركات الإسلامية الجهادية بشدة، إلى النزوع للتفاهم مع من تعتبرهم الولايات المتحدة “إسلاميين معتدلين” من أجل التركيز على مواجهة التحديات الروسية والصينية والأمريكية اللاتينية وغيرها، وهو ما يزعج اليمين الصهيوني المتطرف داخل الولايات المتحدة وفي الكيان الصهيوني كثيراً.
ولا يعني ذلك أبداً أن هذا التوجه الجديد للإدارة الأمريكية يسير بسلاسة بلا عقبات، بل تتصارع مراكز القوى داخل النخب الحاكمة الأمريكية على فرض وجهة نظرها المتوافقة مع مصالحها. وفي النهاية، يدور الحديث هنا عن صراع ضمن العائلة الواحدة، لا عن تمزق العلاقة العضوية ما بين الإمبريالية الأمريكية من جهة، والحركة الصهيونية التي لا تتمثل قوتها باللوبي اليهودي في مجلسي النواب والشيوخ فحسب، بل تتمثل قبل ذلك في اندماجها العضوي في بنية النخبة الحاكمة الأمريكية اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، مع العلم أن ثمة جناحاً داخل يهود الولايات المتحدة أنفسهم يتبنى هذا التوجه الجديد/ القديم، كما سنرى بعد قليل، مما ينقل هذا الصراع المحتدم إلى داخل الحركة الصهيونية نفسها.
المهم أن العالم يعود لشكل من أشكال الحرب الباردة، فثمة صراع يدور على قلب العالم، وعنوان هذا الصراع اليوم هو آسيا الوسطى التي تربط ما بين قارتي آسيا وأوروبا، ويعتبر عدد من علماء الجغرافيا السياسية أن من يسيطر على منطقة أوراسيا يسيطر على العالم. ويدور هذا الصراع حالياً بين الصين وروسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة أخرى.
التحالف الروسي-الصيني في مواجهة سعي الولايات المتحدة وحلفائها لمد نفوذهم إلى قلب آسيا يتمثل بمنظمة شنغهاي للتعاون التي تنعقد هذه الأيام في أستانة في كازاخستان. وتضم منظمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة لروسيا والصين، أربع دول من آسيا الوسطى هي كازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجيكستان. وتسعى روسيا والصين لضم الهند وباكستان لمنظمة شنغهاي للتعاون. وتحظى دولٌ أخرى بصفة مراقب في منظمة شنغهاي للتعاون منها إيران.
وتحفل الصحافة الأجنبية بالدراسات والمقالات حول عودة الحرب الباردة بشكلها الجديد. وقد نشر الدبلوماسي الهندي المخضرم م. ك. بهادرا كومار ورقة في موقع “آسيا تايمز” في 7 حزيران 2011 تحمل عنوان: “الولايات المتحدة تنفث الحياة في حرب باردة جديدة” تركز بالتحديد على سياسة الطاقة والصراع على قلب العالم ما بين منظمة شنغهاي للتعاون وحلف الناتو. فالصراع على آسيا الوسطى ليس قضية جغرافيا سياسية فحسب، بل قضية نفط وغاز أيضاً، وعلى رأسه الثروات النفطية والغازية التي تفيض بها آسيا الوسطى.
وتعالج ورقة الدبلوماسي الهندي بهادرا كومار بعض الخطوط العامة لإستراتيجية الولايات المتحدة اليوم بالتركيز على آسيا الوسطى لتقويض الصين وروسيا، داعياً الهند للعب دور مركزي بالتعاون مع منظمة شنغهاي للتعاون لاحتواء الطموحات الإمبريالية الأمريكية في آسيا الوسطى. فثمة شعور منتشر بين كثير من الكتاب والمحللين في الدول الصاعدة أن زعزعة استقرار روسيا والصين والهند وأمريكا اللاتينية والدول المستقلة عن الإمبريالية، بالرغم من كل عيوبها، يخدم الإمبريالية الأمريكية بشكل حصري في سعيها لتعزيز سيطرتها على العالم. ومن هذه الزاوية أيضاً يجب أن نعيد النظر في التأييد الإمبريالي الأمريكي والأوروبي لما يسمى “الربيع العربي”، وللتدخل الإمبريالي في ثناياه، عسكرياً أو سياسياً أو غير ذلك.
ويضيف بهادرا كومار في ورقته أن إحدى أهم أولويات الولايات المتحدة في هذه المرحلة هي تفكيك لغم اعتماد أوروبا الغربية المتزايد على استيراد الطاقة الروسية. ومع أن بهادرا كومار لا يقولها، فإننا يمكن أن نستنتج أن ذلك التوجه يشكل خلفية حرب حلف الناتو على ليبيا، التي تركت الولايات المتحدة الأوروبيين يقودونها هذه المرة، للتأكد بأن أوروبا سوف تنشب مخالبها في ليبيا ومواردها من الطاقة بأفضل الشروط بالنسبة للأوروبيين، من أجل أيجاد مصدر بديل أو موازي لإمدادات النفط والغاز الروسيين إلى أوروبا، وهو ما يترك أوروبا الغربية في موقف أقوى في مواجهة روسيا.
أما بالنسبة لسوريا، فيشير بهادرا كومار أن الصراع للسيطرة عليها هو جزء من الصراع الدولي الجديد، حيث أن روسيا تحاول العودة إلى المشرق العربي عبر سوريا، وأنها تعيد بناء قواعدها العسكرية في اللاذقية وطرطوس، وتزود سوريا بالأسلحة الحديثة، تماماً كما تزود الهند بالأسلحة الحديثة. ويمكن أن نستنتج هنا أن التدخل التركي في سوريا، خاصة أن تركيا هي عضو عتيق في حلف الناتو، هو أيضاً جزء من ذلك الصراع الدولي لإعاقة ما يعتبره حلف الناتو محاولة روسية للتسلل للمشرق.
ويلاحظ بهادرا كومار أن الولايات المتحدة تروج لسوق أوروبية موحدة للطاقة، بدلاً من أسواق أوروبية قومية منفصلة، مما يضع أوروبا في موقفٍ أقوى إزاء روسيا التي تسعى لعقد اتفاقات نفطية وغازية مع كل دولة أوروبية غربية على حدة… وهذا في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لتفكيك كل بلد ليس جزءاً من حلف الناتو. ويشار هنا أن ألمانيا مثلاً قررت أن تغلق كل مفاعلاتها النووية في العقد القادم وأن تستبدل ذلك بواردات الطاقة من روسيا.
أخيراً، وعطفاً على ما ذكر سابقاً بأن ثمة جناحاً من اليهود الأمريكيين، لا بل من المحافظين الجدد سابقاً، ممن باتوا يتبنون إستراتيجية العودة للحرب الباردة بدلاً من “الحرب على الإرهاب”، نلاحظ بأن الخبيرين الإستراتيجيين اللذين يقتطف منهما بهادرا كومار بكثافة في ورقته كلاهما يهودي صهيوني، وهما: ريتشارد مورنغ ستار وأرييل كوهين. فإذا ساد هذا التوجه ضمن الحركة الصهيونية العالمية، ربما يكون الكيان الصهيوني مقبلاً على تغييرات باتجاه عودة سياسيين صهاينة للحكم أكثر استعداداً للانخراط في عملية التسوية، بدلاً من عنجهية فريق ليبرمان-نتنياهو المتعالية التي باتت تشكل مشكلة حقيقية للسياسة الخارجية الأمريكية. ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن الكيان الصهيوني سيتخلى عن صهيونيته أو ثوابته طبعاً، لكن بعض التنازلات الصغيرة قد تذهب بعيداً في تقوية يد “المعتدلين العرب” كما ترى الإدارة الأمريكية، وهو ما سيكون أكثر خطورة بالنسبة لأنصار المقاومة العرب.
ونترجم فيما يلي بعض المقتطفات من ورقة بهادرا كومار: تعود الولايات المتحدة للظهور بجلدها القديم. فثمة هبة من النشاط كما لو كانت تحاول التعويض عن الوقت الضائع تمثلت في: التدخل العسكري “الأحادي” في ليبيا، نشر سرب من طائرات الأف-16 في بولندا، تأسيس قواعد عسكرية في رومانيا، إحياء الخطط من عهد الرئيس بوش لنشر نظام الدفاع الصاروخي للولايات المتحدة في أوروبا الوسطى، إحياء الوفاق الحميم بين “الأوروبيين الجدد”، التهديد ب”التدخل الإنساني” في سوريا، تجدد الحديث عن عمل عسكري ضد إيران، الدفع باتجاه تواجد عسكري طويل المدى في العراق وأفغانستان، التسريع بعملية توسيع حلف الناتو إلى آسيا الوسطى، انتهاك سيادة والسلامة الإقليمية لباكستان، التهديد ب”تغيير النظام” في سيريلانكا، والإعلان نهاية الأسبوع المنصرم عن نشر سفن قتال خفيفة في سنغافورة.
وقد حدث كل هذا في المئة يوم الأخيرة فقط. ومن المؤكد تقريباً بأن لعبة بحر قزوين الكبرى ستتم إعادة إحيائها أيضاً. وبعد سباته غير المفسر في الفترة التي تلت خروج رئاسة بوش في بداية عام 2009، ها هو ريتشارد مورنغ ستار، مبعوث الولايات المتحدة الخاص لشؤون الطاقة الأورو-آسيوية، يعود إلى الحلبة.
وإذا كانت لشهادة مورنغ ستار في الجلسة التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأسبوع الماضي رسالة واحدة، فإنها يمكن تلخيصها بأن سياسة الولايات المتحدة الأورو-أسيوية بالنسبة للطاقة تبقى كما هي في جوهرها: تحدي قدرة روسيا على استخدام احتياطها الهائل كمصدِّر للطاقة للعودة للظهور كقوة عظمى على المسرح العالمي.
أما الأجندة الجغرافية السياسية لإستراتيجية الولايات المتحدة بالنسبة للطاقة في منطقة أوراسيا فقد عبر عنها بفظاظة مميزة أرييل كوهين، الخبير بالشؤون الروسية، في نفس جلسة مجلس النواب الأمريكي. ويمكن القول أنه لا يوجد شيء جديد بشكل بارز في أطروحة كوهين حول “الأجندة التوسعية” لروسيا كما تنعكس في سياستها المتعلقة بالطاقة، سوى أنها تستحق التكرار كخلفية لشهادة ريتشارد مورنغ ستار.
فحسب هذه الرؤيا ينظر الكرملين للطاقة كأداة لمتابعة سياسة خارجية أكثر توكيداً. فمستوى اعتماد أوروبا على روسيا من أجل الطاقة عالٍ بشكل غير مقبول. وروسيا تحاول استبعاد الولايات المتحدة من أسواق الطاقة في آسيا الوسطى وبحر قزوين، وهي تستخدم الطاقة للترابط مع الهند وجنوب شرق آسيا و”الشرق الأوسط” وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي تجبر البلدان المحاذية لها على توجيه صادراتها من الطاقة عبر شبكة أنابيبها. وغياب “حكم القانون” يمنع دخول الشركات الغربية لقطاع الطاقة في روسيا نفسها. وتبقى روسيا غير معنية بتطوير علاقات في مجال الطاقة مع الولايات المتحدة.
وقد عبر كوهين بصراحة عن البعد الجغرافي السياسي للمشكلة. أولاً، الطلب الأوروبي على الطاقة من المتوقع أن ينمو بتزايد وهذا يمكن أن يقود لاعتماد أكبر على الطاقة الروسية، وهو ما يتضمن عواقب خطيرة لروابط موسكو مع أوروبا.
والعبرة هي أن الولايات المتحدة تخشى أن موسكو سوف تستغل روابط الطاقة المتزايدة لتعميق علاقتها مع بلدان أوروبا الغربية، وهو ما يمكن أن يضعف روح العلاقة الأوروبية-الأطلسية، ويؤدي بالتدريج لإضعاف قيادة الولايات المتحدة العابرة للأطلسي.
ثانياً، اتخذت ألمانياً قراراً إستراتيجياً بالتخلي عن الطاقة النووية لتزيد عوضاً عن ذلك من وارداتها من الطاقة من روسيا. من منظور الولايات المتحدة، فإن العلاقات الروسية-الألمانية النامية باطراد ليس لها فقط صدىً تاريخياً على قدر كبير من الخطورة بالنسبة للأمن الأوروبي (يقصد تحالف روسيا وألمانيا في بداية الحرب العالمية الثانية مثلاً – المترجم)، لكن مثل تلك العلاقات يمكن لها في النهاية أن تضعف الوحدة الأوروبية وأسس حلف الناتو نفسه الذي تديره الولايات المتحدة كأداتها الرئيسية لتنفيذ إستراتيجياتها الكونية.
ثالثاً، تطمح روسيا للتخرج من دور تصدير الطاقة إلى أوروبا إلى المشاركة الفاعلة في نظام توزيعها بالجملة والمفرق. وقد تجد أوروبا نفسها في النهاية وهي “تواجه خيارات صعبة بين كلفة واستقرار إمداداتها من الطاقة، وبين اتخاذها مواقف مؤيدة للولايات المتحدة حول قضايا أساسية”، كما قال كوهين.
وبالعكس، يتوقع كوهين: “كلما ارتفع سعر النفط، من السهل التوقع أن غرور روسيا سيعود”. لكن حول ماذا يتعلق ذلك “الغرور”؟ بمصطلحات جغرافية سياسية، إنه يتعلق بروسيا أكثر توكيداً في السياسة العالمية.
ونكتفي بهذا القدر من ورقة بهادرا كومار لكي نلقي الضوء على بعض خلفيات هجمة حلف الناتو على ليبيا، على أن نعود للأجزاء الأخرى من الورقة عندما تسنح الفرصة، وكان بهادرا كومار قد نشر مقالة في موقع “آسيا تايمز” في 4 حزيران 2011، أي قبل ثلاثة أيام فقط من نشر ورقته التي ترجمنا منها هنا، محاولاً تفسير تراجع مدفيديف في قمة الثمانية الكبار في فرنسا حول ليبيا، وكيف أدى ذلك إلى مشكلة بين الصين وروسيا. وفي النهاية، لروسيا (والصين) استثمارات ضخمة في شرق ليبيا لن تتخلى عنها لفرنسا وبريطانيا. فإذا شعرت روسيا أن ليبيا يمكن أن تقسم، أو تحتل، فإنها لا تريد أن تخرج من اللعبة، كقوة عظمى، في المرحلة الثانية، لكن ذلك لا يعني أن الصراع مع روسيا والصين سوف يتوقف.