حيث تجد “الإخوان المسلمين” تجد “القاعدة” ومن ثم تجد “داعش”، فكل واحد من تلك التنظيمات يشكل هيولى سابقة للصورة اللاحقة، بالتعبير الأرسطي، أي أن شروط “الارتقاء” باتجاه صيغة “أنقى” من الدين، بحسب الباحثين أبداً عن مثل ذلك “الجوهر”، هي نفسها شروط النكوص الدنيوي خارج التاريخ. وكلما تطلب “الارتقاء” التكفيري القيام بعملية “فك ارتباط” أكثر عمقاً مع كل المفاهيم المعاصرة، مثل الوطنية والمواطنة وحقوقها، كلما اصطدم اللاحقون مع السابقين، “داعش” مع “القاعدة”، و”القاعدة” مع “الإخوان”، لأن الأكثر “نقاء” في التكفير يؤمنون بكل جدية أنهم وجدوا طريقاً للإيمان الصافي أكثر تجرداً من شروط العمل السياسي المعاصر، أي اقل ارتباطاً بالواقع المدني وموازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، وبالتالي يعتبرون أنفسهم “أكثر صفاء”، وغيرهم من “الإسلاميين” أكثر تلوثاً وشركاً لا يمكن تطهيره إلا بالدم والنار.
هي معادلة الإيمان التكفيري التي يصعب أن يدرك من لا يمسك بها لماذا يسارع الدواعش، بكل طيب خاطر، لتفجير أنفسهم في عناصر “النصرة” في إدلب، أو لماذا يستهدف عناصرُ “النصرة” “جيشَ الإسلام” في ريف دمشق، وكلاهما يستهدف عناصر “الجيش الحر” في كل مكان، الذين يصبحون هنا قوى “علمانية” كافرة لأنهم يتقمصون خطاباً إعلامياً يزعم القبول بفكرة “سورية ديموقراطية تعددية” لإرضاء مموليهم وداعميهم الغربيين، أي لـ”عجز” الأخيرين عن فك ارتباطهم مع شروط العمل السياسي والميداني في الواقع الملموس. ولا يهم هنا إن أكد السابقون للاحقين أنهم يريدون “دولة إيمان نقية” مثلهم إنما يمارسون “التدرج” في العمل، أو أن خطابهم الإعلامي لا يعبر حقاً عما في دواخلهم، لأن التلوث المتمثل بالتعاطي تحت سقف شروط الواقع المعاصر، ما دام قد وقع، ولو جزئياً، فإنه يمثل بالضرورة “شركاً بالله”، و”تحريفاً” للدين الصحيح، وحالة اختراق خبيثة بـ”غطاء إسلامي” لا بد من التصدي لها!
ليست العبرة هنا بتنظير التكفير فلسفياً بمقدار ما هي محاولة الإمساك بالجذر الأول للنزعة التكفيرية نفسها، أي النزوع نحو ما يعتبره الكائن التكفيري “نقاءً إيمانياً أعلى”، بغض النظر عن صيرورة “ارتقاء” مثل تلك النزعة، وانحدارها الفعلي من أبي الأعلى المودودي إلى سيد قطب إلى تكفيريي القرن الواحد والعشرين، وجذورها الأصلية من الخوارج إلى ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب، فهي صيرورة عنكبوت “الأرملة السوداء”، حيث يقتات اطفال “الأرملة السوداء” على جسد الأب الذي تشله الأم بالسم بعد القيام بعملية التلاقح، وعليه، لو جاء ابن تيمية اليوم، الذي حرّم صلاة النساء في المساجد خلف الرجال مثلاً بعد أن أباحها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فستجد من يحاربه من الداعين إليه، ولعلهم يصلبونه بعد بتر يده وقدمه من خلاف بتهمة “الحرابة”.
ليست النزعة التكفيرية الصرف، التي يحركها قلق البحث عن إيمان أكثر نقاءً، والاستعداد لممارسة القتل الجماعي والعشوائي من أجله، مقتصرة على الإسلاميين بالمناسبة، وقد وجدت عند المسيحيين بقوة في القرون الوسطى في أوروبا، ووجدت عند بول بوت في كمبوديا في السبعينيات تحت عنوان يساري متطرف، لكنها لم تصل يوماً إلى ما وصلت إليه من اتساع وتناسخ وقوة دفع داخلية كما وصلت عند التكفيريين الإسلاميين المعاصرين. فلكل حالة تكفير ظروفها وسياقها، أما التكفير العربي الإسلامي المعاصر فقد اكتسب زخماً داخلياً وقوة تجدد ذاتية خاصة به، وهو ما يميزه عن غيره، أكثر من دمويته والتفنن في وسائل القتل.
التكفير العربي الإسلامي المعاصر جاء متميزاً في دوافعه، وفي لحظته التاريخية. فهو، أولاً، رد الفعل المكثف على مشروع النهضة العربية، منذ الغزالي في العصر العباسي، إلى الوهابية في مواجهة محمد علي باشا، ثم الثورة العربية الكبرى، إلى الإخوان المسلمين في مواجهة حركات التحرر الوطني العربية الحديثة، إلى بؤرة التكفير في أفغانستان في مواجهة الاتحاد السوفيتي، أي أن التكفير في ظروف بلادنا هو أيديولوجيا القوى الإقطاعية وما قبل الإقطاعية المتضررة من مشاريع النهضة القومية، ويظهر هذا الحقد الدفين بجلاء اليوم في ما يقوم به البترودولار التكفيري من سعي لتدمير كل دولة عربية وجد فيها يوماً مشروعٌ نهضوي تحرري، من العراق لسورية لليمن لمصر لليبيا للجزائر، بغض النظر عن ملاحظاتنا نحن، من الموقع النهضوي القومي، على أيٍ من تلك التجارب.
التكفير العربي الإسلامي المعاصر، ثانياً، استفاد من كل المنتجات المعاصرة التي يستطيع الوصول إليها، من تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى تكنولوجيا الأسلحة الحديثة، إلى الدولار واليورو، إلى السيارات والمعدات وغيرها، ولم يجد في ذلك ما يخالف “نقاءه” التكفيري بتاتاً، لا بل أنك تجد من يبرر “الاستعانة بالكفار على الكفار”، التعاون مع هنري برنار ليفي وحلف الناتو نموذجاً، فالمهم هو “نقاء الخطاب والسريرة”، وبهذا المعنى، فإن الإسلامي الذي يستعد للعمل تحت سقف الدولة الوطنية، أو يعلن قبوله بفكرة التداول والتعددية، ولو لم يؤمن بها حقاً، يصبح “مشركاً” أو “كافراً” يعمل بـ”غير ما أنزل الله”، في نظر الإسلامي الذي يتبنى قناعات تكفيرية “أنقى” لكنْ يتعاون مع قوى الهيمنة الخارجية أو يستخدم منتجات الغرب الكافر المعاصرة!
التكفير العربي الإسلامي المعاصر، إذن، جاء أكثر حدةً، وأكثر قدرةً على تجديد نفسه ذاتياً، لأنه ردة الفعل التاريخية المعاكسة لمشروع النهضة القومية. وقد احتضنته قوى الهيمنة الخارجية وغذته، ولو ارتد عليها أحياناً، كجزءٍ من طبيعته الأصيلة. وهو تكفير استفاد من منتجات الغرب المعاصرة بشدة رغم رجعية أيديولوجيته. باختصار، التكفير هو الوجه الآخر لعجزنا عن إعادة إنتاج مشروع النهضة القومية، وإقامة مملكة العقل والمواطنة. إنه مرآة فشلنا ومشروع النهضة معكوساً، فهو يتجدد لأن النهضة تذوي، ويخبو بمقدار ما ننهض. فهو النقيض الجدلي لصيرورة النهضة، أي الصيرورة المعاكسة للتاريخ كأيديولوجيا.
إبراهيم علوش
البناء 22/7/2015
للمشاركة على فيسبوك: