د. إبراهيم علوش
مجلة “زهرة المدائن”، دمشق، العدد 76-77
ارتبطت الدعوة لـ”إسرائيل لمواطنيها كافةً”، يعيشون على قدم المساواة في الحقوق والواجبات في “دولة واحدة”، هي “إسرائيل” بلا “تمييز عنصري” ضد “الأقلية العربية” في فلسطين العربية المحتلة، أكثر ما ارتبطت خلال مرحلة ما قبل “الربيع العربي”، باسم داعيتها عزمي بشارة خصوصاً عندما كان لا يزال عضواً في الكنيست الصهيوني عمل على تمريرها أكثر من أي داعية أخر لأوسع جمهور فلسطيني، ثم عربي، ثم دولي، تحت غطاء “الدفاع عن القومية العربية” تارةً، حيث تصبح القومية العربية هنا هوية أقلوية ضمن دولة “إسرائيل” القائمة واقعياً وقانونياً، وتحت غطاء “مناهضة العنصرية في إسرائيل” طوراً، وتحت غطاء “الدولة المدنية” و”تغيير طبيعة إسرائيل ديموقراطياً عبر مؤسساتها” تارةً أخرى.
وكان موقفنا المحكي والمكتوب منذ التسعينيات، كما هو موثق عبر أي بحث سريع على الشبكة العنكبوتية، أن مثل هذا الطرح يجعل من عزمي بشارة أكثر خطورة على القضية الفلسطينية من أي عضو كنيست عربي آخر، لأنه لا يقتصر على أسرلة جماهير الأرض العربية الفلسطينية المحتلة في العام 1948، كغيره من أعضاء الكنيست الصهيوني العرب، عبر جرهم للانخراط انتخابياً في المؤسسة الصهيونية، بما يتضمنه ذلك من اعترافٍ بمشروعيتها وحقها بالوجود بغرض العمل على إصلاحها من داخل قنواتها “الديموقراطية”، بل يتجاوز ذلك النمط من الانتهازية السياسية المألوفة جيداً بين سياسي الأرض المحتلة في العام 48 إلى اختراق الوعي السياسي الفلسطيني والعربي القائم بثبات على مبدأ عروبة كل أرض فلسطين من النهر إلى البحر، كما يتجلى ذلك مثلاً في البند الأول من الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، وثيقة الإجماع الوطني الفلسطيني الوحيدة في التاريخ المعاصر، بفكرة “الدولة الواحدة” أو “الدولة ثنائية القومية، العربية-اليهودية”.
يبرز التناقض هنا مباشرة مع ثابت عروبة أرض فلسطين التاريخية، باعتبار “ثنائية القومية” نقيضاً سياسياً ونفياً حرفياً لعروبة الأرض، ومع جهاز المناعة العربي، باعتبار أن مشروع “الدولة الواحدة” ينطلق من الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، ومع التراث النضالي المقاوِم للشعب العربي الفلسطيني، باعتبار أن برنامج “إصلاح إسرائيل من داخلها عبر النضال السياسي العربي-الصهيوني المشترك” يتناقض رأسياً مع استراتيجية التحرير عبر الكفاح المسلح التي يجب أن تخضع لها كل وسائل المقاومة الأخرى.
برنامج “الدولة الواحدة”، الذي يأتي بتنويعات ورتوش وتهويمات “إنسانوية” مختلفة، منها خطاب “الدولة ثنائية القومية”، ينطلق بالضرورة من نفي الهوية القومية العربية لأرض فلسطين، لا لشعبها فحسب، استناداً لمقولة استشراقية شائعة بأن فلسطين مر عليها عبر التاريخ محتلون كثر، وأنها بالتالي لا تمتلك هوية محددة، واستناداً للفصل التعسفي وغير العلمي ما بين تاريخ فلسطين الكنعاني من جهة، منذ اليبوسيين (الكنعانيين) وملكي صادق مؤسس القدس، وتاريخها العربي قبل الإسلام وبعده من جهةٍ أخرى، من دون الأخذ بعين الاعتبار أن البابليين والآشوريين والآراميين والفراعنة في فلسطين لم يكونوا احتلالاً، كالرومان والبيزنطيين والساساسنين والفِرنجة والأتراك والأشكناز، بل جاؤوا من أرومة حضارية واحدة، مع الكنعانيين القادمين من شرق الجزيرة العربية، منذ نشوء الحضارة البشرية على أرضنا العربية قبل ألفياتٍ عدة، كانت هي التي أنتجت كيان الأمة العربية تاريخاً ولغةً وأرضاً وشعباً وثقافةً قوميةً. لكن أنّى لمن يستهدف الحس التاريخي لشعبنا وأمتنا أن يعترف بالفرق الجوهري ما بين الوجود العربي العراقي والسوري والمصري والجزيري الإسلامي والأموي والعباسي والفاطمي في فلسطين، وما بين الاحتلال الغريب حضارياً عن هذه الأرض؟! فمصلحته أن يخلط ما بين التحرير والاحتلال، وأن يخلط ما بين الإسلام العربي في فلسطين، والفِرنجة الأوروبيين الذين ذبحوا فيها العرب المسيحيين والمسلمين، وأن يخلط ما بين العربي الكنعاني وريث الأرض أباً عن جد وكابراً عن كابر، والغزاة اليهود القادمين من روسيا وبولونيا وكل أصقاع الأرض.
منذ البداية، كان عنوان الصراع على فلسطين هو هوية الأرض، وهل هي عربية أم يهودية، كما كان يقول الراحل بهجت أبو غربية سنديانة فلسطين، وطروحات “الدولة الواحدة” لا تكتفي بتعويم هوية الأرض وتاريخها “إنسانياً”، بل تجعل من ذلك مقدمةً لطرح “حل سياسي للصراع” على نمط نموذج جنوب إفريقيا! ومنبع التهافت هنا أننا كشعب تعرض للاحتلال الإحلالي والتهجير القسري والسعي لمحو الهوية ومصادرة ذاكرة المكان غير معنيين بطرح أي “حل سياسي” من أي نوع، لا من نوع “الدولة الواحدة” ولا من نوع “الدولتين لشعبين”، ولا من نوع “الكونفدرالية الثلاثية الفلسطينية-الأردنية-الإسرائيلية”، ولا من أي نوع آخر، ففي ذلك تصاغرٌ وذِلةٌ ومهانةٌ ووضاعةٌ وامتهان ما بعده امتهان، لأن طرح الحلول السياسية أو اقتراحها على المحتل الغاصب المتغطرس المتعالي المدعوم من الإمبريالية العالمية ليس مهمتنا، بل مهمتنا البحث عن كل وسيلة ممكنة لتكبيد المحتل أعظم الخسائر لرفع كلفة الاحتلال إلى حدٍ لا يطاق، تماماً كما يفعل اليوم شباب السكين والحجر والعمليات الاستشهادية وصواريخ المقاومة، وصولاً إلى اللحظة التي تبلور فيها الأمة مشروع التحرير الكامل الذي سيأتي لا محالة كما أتى مراراً من قبلُ على يد نبوخذنصر وخالد بن الوليد وغيرهم، وبالحد الأدنى، إن لم يأتِ التحرير فستكن مقاومة.
فليذهب مثال جنوب أفريقيا إلى الجحيم! لأن جنوب أفريقيا تساقطت أهميتها الجغرافية-السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، وتخلى الغرب عن نظامها، وقَبِل فيها نلسون ماندلا والمؤتمر الوطني الإفريقي صفقةً تاريخيةً تحافظ على بنية النظام، من دون تغييره حقاً، مع إدماج نخبة إفريقية فيه، ضمن سياق معولم في لحظة صعود القطب الواحد. فهل تزول العنصرية في الولايات المتحدة مثلاً لمجرد إدماج رئيس وبضع مسؤولين سمر البشرة في بعض المناصب العليا؟!
وبغض النظر عن كل هذا، فإن جنوب إفريقيا ليست مثالاً يحتذى، لأن شعب تلك البلاد تحت الاحتلال الهولندي والبريطاني لم يكن أكثر من نصفه من اللاجئين المهجرين قسراً خارج جنوب إفريقيا، كما هي الحال في فلسطين، ولأن مسألة هوية الأرض في نقطة طرفية من العالم مثل جنوب إفريقيا لا تحمل الثقل الجغرافي-السياسي نفسه الذي تحمله بالنسبة للأمة العربية عندما فكر بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا إبان صعود محمد علي باشا في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم رئيس وزرائها، بأن تأسيس دولة يهودية في فلسطين يشكل حاجزاً جغرافياً-سياسياً منيعاً في وجه مشروع الوحدة العربية بين الجناح الآسيوي والإفريقي للأمة العربية. ولذلك كان عنوان الصراع في جنوب إفريقيا إزالة العنصرية، ويظل في فلسطين هوية الأرض.
بجميع الأحوال، دخل نلسون مانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي صفقةً غيرَ مبدئية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية مع الاحتلال الاستيطاني غير الإحلالي في جنوب إفريقيا، خصوصاً أن أهمية الموقع الجغرافي-السياسي لجنوب إفريقيا بدأت بالتراجع بعد فتح قناة السويس كطريق للتجارة الدولية ولمستعمرات بريطانيا العظمى في الشرق، وليس هذا نموذجاً يحتذى لحركات التحرر في العالم، بل هو نموذجٌ رث لصفقات التفاهم مع المحتل من موقعِ ضعفٍ وتخلٍ عن المبدأ.
للعلم، فكرة “الدولة الواحدة” ليست من نسيج أفكار عزمي بشارة بالأساس، بل من نسيج أفكار إدوار سعيد، فهو خياطها الأول، وهو كبير السحرة الذي علمهم السحر، مع أن عزمي بشارة كان المروج الأشهر لها، ويذكر أن إدوار سعيد قال في مقابلته مع أسبوعية الأهرام القاهرية في 14/1/1999: “بعد خمسين عاماً من التاريخ الإسرائيلي، فإن الصهيونية الكلاسيكية لم تقدم حلاً للوجود الفلسطيني. لذلك لا أرى طريقاً آخر غير البدء الآن بالحديث عن مشاركة الأرض التي انفرضت علينا معاً، مشاركتها بطريقة ديموقراطية حقاً مع حقوق متساوية لكل المواطنين”. إدوار سعيد، بالمناسبة، هو رائد الفكرة الخيانية الأخرى التي تطالب الفلسطينيين بالاعتراف بأساطير المخرقة (بالخاء، كناية عن عدم تصديقها)، مما اضطرهم بحسب تلك الرواية المزيفة تاريخياً، كما أثبت المؤرخون المراجعون في الغرب، مثل روبرت فوريسون وروجيه غارودي، للهجرة إلى فلسطين وتأسيس دولة صهيونية فيها، مقابل الاعتراف الصهيوني بالذنب الأصغر بكثير، وهو تهجير الفلسطينيين من فلسطين! والحل عنده طبعاً هو “التعايش” في “إسرائيل” واحدة لمواطنيها كافة. أما المشروع الوطني الفلسطيني، على طرفي نقيض، فيظل استعادة عروبة كل أرض فلسطين عبر استراتيجية الكفاح المسلح، لا تأسيس دولة، ولا التعايش مع المحتل.
لكن فكرة “الدولة الواحدة”، لمن يظن أنها مشروعاً نضالياً، هي مشروع عددٍ من الكتاب العرب واليهود، مثل جيف هالبر ودان غيفرون وغيديون ليفي، على الجهة “الإسرائيلية”، وغيرهم من العرب، مثل أحمد قريع (السلطة الفلسطينية) الذي دعا في صحيفة القدس العربي والدولي في شهر آذار عام 2012 لمثل ذلك الحل، وغيره كثيرون، سوى أنه حل لا تتقبله الأغلبية الساحقة من الجمهور “الإسرائيلي”، بحسب استطلاعات الرأي، إنما هو حلٌ يسوّق للجمهور الفلسطيني والعربي كـ”بديل” لحل الدولتين الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها، والذي انبنى على أسس انهزامية وبراغماتية، سوى أنه، على سوئه وضلاله ، لم ينطلق من الاعتراف بالحق المبدئي لليهود بالتواجد في فلسطين أو بتأسيس كيان فيها، إنما انطلق من الحس الانهزامي القائم على اختلال ميزان القوى والركون لتأبيده، فيما تنطلق فكرة “الدولة الواحدة” من دعارة الحق المتساوي للعرب ولليهود في فلسطين.
أخيراً، وليس آخراً، فإن المروج الرئيسي لفكرة “الدولة الواحدة” اليوم لم يعد عزمي بشارة، بل حركة الـBDS، أي حركة المقاطعة ووقف الاستثمارات والعقوبات على “إسرائيل” لفرض فكرة جنوب إفريقيا عليها. ومن يرغب، فليذهب لموقع تلك الحركة على الإنترنت ليرى أن خلف التهويش المدعوم غربياً لتلك الحركة ثمة برنامجٌ يقوم على: 1) احتذاء حذاء جنوب إفريقيا، 2) تبني النهج غير العنفي لمحاربة العنصرية في “إسرائيل”، 3) للوصول إلى “إسرائيل” واحدة لكافة مواطنيها. فالسقف والطريقة والبرنامج ربما يستهوي بعض الليبراليين في الغرب، وهذا يمكن أن يقيم ضمن تلك الحدود من حيث قدرته على التشويش على الكيان الصهيوني في الغرب، أما أن تصبح تلك الحركة الوعاء الذي يفرض برنامجه السياسي المخترق ليبرالياً علينا نحن أصحاب القضية، كبديل لبرنامج عروبة الأرض واستراتيجية الكفاح المسلح، أي للميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، والميثاق القومي من قبله، فذلك ما يتوجب التصدي له بقوة.
من يتسلى حالياً بمقارعة “الدولة الواحدة” عند غير حركة الـBDS التي أبهرت العالم بإنجازاتها، بما أن الكيان الصهيوني لا يرضى حتى عن سقف السلطة الفلسطينية المتهالك والمتهاوي، فليكف عن اللعب والتسلية، لأن البي دي أس هي الإطار الذي يسعى لتمرير فكرة “الدولة الواحدة” حالياً كما تم تمرير فكرة “حل الدولتين” عبر منظمة التحرير وإنجازاتها من قبل ابتداءً من برنامج النقاط العشر المأفون في العام 1974. والبي دي أس إطارٌ يفتخر، بالمناسبة، بتواجد “إسرائيليين تقدميين” فيه، ممن يصبحون جسراً لقبول كل “الإسرائيليين” اليهود في فلسطين في المحصلة. أفلم يحن الوقت لإنتاج “حركة تضامن دولية” مع القضية الفلسطينية لا تأخذنا باتجاه برنامج سياسي مخترق، وتستند بثبات لمبادئ عروبة كل فلسطين وحقنا بممارسة كل أشكال المقاومة، وعلى رأسها الكفاح المسلح، مع كل الاحترام لجهود المنخرطين في حملة الـBDS ممن لا يعرفون شيئاً عن برنامجها السياسي إنما يسعون للقيام بأي شيء يمكن أن يفيد في مقاطعة الكيان الصهيوني؟!
للمشاركة على فيسبوك: