بولندا تتعرض لهجمة دولية بسبب قولها: لو سمحتم، لا علاقة لنا بـ”المحرقة” اليهودية

February 7th 2018 | كتبها

د. إبراهيم علوش

المعركة المستعرة حالياً بين بولندا من جهة، والكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حول مشروع قانون سنّه مجلس النواب البولندي يمنع تحميل بولندا أي مسؤولية عما زعموا أنه “محرقة” تعرض لها يهود أوروبا على يد الألمان في العهد النازي، هي معركة ذات مغزى كبير، لا سيما للعرب الذين يقولون: نعم “المحرقة” وقعت، ولكن ما علاقتنا بالموضوع؟! هؤلاء أنفسهم يتأففون مما يعتبرونه “إنكاراً للمحرقة” من قبل بعضنا، معتبرين أن في ذلك فتحاً لجبهة مجانية قد يستفيد منها الصهاينة أكثر مما نستفيد… وأن موقفنا كعرب يجب أن يكون الإقرار بـ”المحرقة” مع رفض “توظيفها سياسياً” لمصلحة الحركة الصهيونية ونفوذها العالمي ودولة الكيان الصهيوني.

أما الآن، فقد أتت المشكلة التي لا تزال مستعرة بين بولندا والكيان الصهيوني لكي ترد بمثالٍ حي: ممنوع الفصل بين “المحرقة” وتوظيفها السياسي. فالبولنديون قالوا فعلياً: نحن نقر بحدوث “المحرقة”، ولكن من قام بها هم النازيون، فلمَ تحملوننا وزرها؟ ومن هنا سنّ البرلمان البولندي قانوناً يحظر تحميل بولندا أي مسؤولية عما قام به النازيون الذين احتلوا بولندا خلال الحرب العالمية الثانية على اراضيها… وقد تدخلت الإدارة الأمريكية فوراً موجهةً التنبيهات والتهديدات لبولندا، وتدخل الإتحاد الأوروبي الذي اعتبر رئيسه أن “سمعة بولندا الدولية تلطخت بالسوء”، إلخ…

على مدى سنواتٍ طويلة، دأب العارفون منا بسردية “المحرقة” وأدبياتها، وما بُني عليها، ومن ذلك تبرير النفوذ الدولي للحركة الصهيونية، وابتزاز مئات المليارات من الغرب كـ”تعويضات”، والتمتع بتعاطف “الرأي العام الدولي” وحنانه الغامر، وإعطاء رخصة للكيان الصهيوني لممارسة الانتهاكات يومياً على طريقة “يحق له ما لا يحق لغيره”، وتأسيس “حق الكيان الصهيوني بالوجود” على مبدأ حاجة اليهود إلى “ملجأ من لاسامية هذا العالم”، على التأكيد أن “المحرقة” لا يمكن فصلها عن طريقة توظيفها السياسية، فالاعتراف بـ”المحرقة” المزعومة يعني الاعتراف بـ”فرادتها”، أي الاعتراف بها كـ”أكبر جريمة عرفها التاريخ”، قبل إبادة عشرات ملايين سكان قارة أمريكا الأصليين مثلاً، قبل استعباد عشرات ملايين الأفارقة في القارة الأمريكية، قبل استخدام السلاح النووي لأول مرة في التاريخ، ومن دون أي داعٍ عسكري، على ناكازاكي وهيروشيما، وقبل العواصف النارية التي اطلقها الأمريكان على مدنيي درسدن الألمانية في نهايات الحرب العالمية الثانية، وقبل حروب الاستعمار الأوروبي في القرون الثلاثة الأخيرة التي قضت على شعوب وبلدان بأكملها، وبالتأكيد، قبل حدثٍ “صغيرٍ” سيصبح “تافهاً” و”مجهرياً” بمقاييس “المحرقة” هو احتلال اليهود لفلسطين وتشريد شعبها وبناء قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي.

لذلك كله يقول العالم “المتحضر” اليوم لبولندا، محميته، وعضوة حلف الناتو منذ عام 1999: ممنوعٌ إنكار المسؤولية عن “المحرقة”، وإلا… الفكرة طبعاً، كما ترسخها أدبيات “المحرقة”، هي أن العالم كله، لا النازيين وحدهم، مسؤولٌ عن “المحرقة”، وبالتالي فإن عليه أن يكفّر عن ذنبه فيها. ومن يراجع تصريحات المسؤولين الغربيين عما قاله البرلمان البولندي سيجد كلاماً كثيراً من نوع: “هذا إنكار للمحرقة”! وهو ما حاول بعضنا قوله منذ البداية: هذه محرقة للحقيقة صممت لكي توظف سياسياً، فلا يمكن الاعتراف بها، إلا للاعتراف بأنها “أكبر جريمة في التاريخ”، وبالتالي للاعتراف بمسؤولية كل البشرية عنها، وبالمعية، “تسفيه” قضية فلسطين. ومن لا يدرك أن التعبئة الغربية ضد “الكيماوي السوري”، أو “النووي الإيراني”، أو ما زعموا أنه “أسلحة دمار شامل عراقية” من قبل، يرتبط بشكل وثيق بما ترسخ في الوعي الغربي عن “المحرقة” ضد اليهود، لن يستطيع أن يفهم جيداً كل أبعاد تلك الملفات في الصراع مع الإمبريالية والصهيونية. وتجدون في الصورة المرافقة “تقريراً” من نشرة صهيونية عن “غرف غاز” مزعومة أعدها العراقيون لليهود عام 1991، بعيد العدوان الثلاثيني على العراق.

العبرة ليست بالمبالغة بعدد ضحايا اليهود في “المحرقة” المزعومة بالمناسبة، وليست القصة إذا ما كان عدد اليهود الذين قتلوا في “المحرقة” هو ستة ملايين أو نصف مليون أو أقل. العبرة في “المحرقة”، وعامودها المركزي، هو “غرفة الغاز” السحرية التي زعموا أن ملاييناً قضوا فيها، فيما لم يستطع أحد حتى الآن أن يظهر طريقة عمل “غرفة الغاز” تلك هندسياً أو كيميائياً، مع العلم أن مذكرات قادة الحرب العالمية الثانية، من تشرشل إلى ديغول، لا تحتوي جملة واحدة عن “محرقة” لليهود في الحرب العالمية الثانية، ولا توجد قصاصة ورق ألمانية واحدة تظهر قراراً بإعدام يهودي واحد، أو غير يهودي، في “غرفة غاز”، في نظام إدارة نازي حديدي يوثق كل شيء ويخضع لمركزية صارمة. بالمقابل، ثمة قوانين في دول أوروبية مختلفة تحظر مناقشة حقيقة “المحرقة” أو نقدها أو تفنيدها، وقد تعرض عشرات من العلماء والكتاب والباحثين الأوروبيين لاغتيالات ومحاولات اغتيال، ولعقوباتٍ وأحكامٍ بالسجن وغراماتٍ لمجرد تجرؤهم على مناقشة أكاذيب “المحرقة” بالقول أو بالكتابة، ولذلك فإن من السخرية بمكان أن نرى من يحتج على القانون البولندي الذي يحظر تحميل بولندا أية مسؤولية عن “المحرقة” بأنه انتهاكٌ لـ”حرية التعبير”!!

7 شباط 2018

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2024340784249813&id=100000217333066

 

الموضوعات المرتبطة

لعبة “الشرطي السيئ، والشرطي الأسوأ” في الضربة الصهيو-أمريكية على إيران

  إبراهيم علوش – الميادين نت لا يمكن القول إن الضربة الكبيرة التي شنها الكيان الصهيوني على إيران فجر الجمعة كانت غير متوقعة، لا بسبب التهويل والتهديد المستمرين، فهذان كان يمكن تصريفهما في [...]

سيناريوهات حرب أوكرانيا بين الاستنزاف المطول والحل التفاوضي

  إبراهيم علوش – الميادين نت على إيقاع هجمات متبادلة تزداد ضراوةً وعمقاً، يمكن وصف مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف بأنها مسرحية تؤدى لعيون ترامب فحسب، بطلاها خصمان لدودان لا يطيق أحدهما [...]

مفهوم “السياسة الصناعية” وموسم العودة إلى فريدريك لِست Friedrich List

  إبراهيم علوش – الميادين نت لم يستفز الاستراتيجيين الأمريكيين شيءٌ مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة عشرية أطلقت سنة 2015 أيضاً لتطوير عشرة قطاعات تصنيعية صينية، من بينها الذكاء [...]

الصراع الصيني-الأمريكي من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية

  إبراهيم علوش – الميادين نت كثيراً ما يستفز "برود" الصين، في مواجهة التغول الأمريكي، أنصار التعددية القطبية ودعاة التحرر من الهيمنة الأمريكية حول العالم. فالصين، ثاني أكبر اقتصاد [...]

حصاد زيارة ترامب الخليجية: صفقات كبرى، ومنافسة الصين

  إبراهيم علوش – الميادين نت يصر تقرير في موقع "مجلس الأطلسي" (Atlantic Council)، في 13/5/2025، بشأن زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بأن هدف الزيارة يتلخص بأمرين: أ – عقد صفقات تجارية [...]
2025 الصوت العربي الحر.