الصراعات المؤجلة التي تنتظر الصين

May 25th 2019 | كتبها

الحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين، سواء من خلال فرض الرسوم والجمارك والعوائق غير الجمركية على المنتجات الصينية، أم من خلال محاربة الشركات الصينية الريادية مثل “هواوي” مباشرةً، هي أمرٌ إيجابيٌ لا سلبيٌ من وجهة نظر شعوب الأرض عموماً، والشعب العربي خصوصاً.

ذلك أن الصين اعتقدت أنها يمكن أن “تتسلل” إلى مصادر النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي والاستراتيجي العالمي بأدنى قدر من الاحتكاك مع الغرب، موظفةً خطاب وقوانين لعبة العولمة ذاتها لمصلحة مشروعها الاقتصادي القومي. وكانت الصين خلال ذلك حريصةً على تجنب الصراعات ما أمكن ما دامت لا تقترب من أمنها القومي مباشرةً (بحر الصين الجنوبي، إقليم جينجيانغ)، تاركةً الإمبرياليات الغربية تحفر قبرها بيدها (كما فعلت في العراق وأفغانستان) فيما تمضي هي في بناء عوامل قوتها على قدمين اقتصاديتين متينتين، مع الإصرار على عدم التورط في نزاعات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة ما عدا ذلك.

وما من شك في أن العبء العسكري الضخم الذي تحمله الاتحاد السوفياتي السابق في مواجهة الغرب، بالنيابة عن كل شعوب الأرض، بما لا يتناسب مع حجم اقتصاده مقارنةً بالغرب أو مستوى تطوره، لعب دوراً في انهياره، فالجسم العملاق لا يمكن أن تحمله قدمان اقتصاديتان ضعيفتان، وهو الدرس التي تعلمته الصين بهدوء، تاركةً روسيا البوتينية تملأ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفياتي، مع أن روسيا ذاتها تعلمت الدرس السوفياتي، وبدلاً من أن تقوم هي بدعم حركات التحرر، كما كان يفعل الاتحاد السوفياتي السابق، صار همها “جر” الإمبريالية إلى ملعب “الشرعية الدولية” وفرض مرجعية “مجلس الأمن الدولي” عليها، فيما صارت الإمبريالية هي التي تقوم بدعم الثورات المضادة عبر الكرة الأرضية عسكرياً وغير عسكرياً، سورية وليبيا وفنزويلا نموذجاً.

الجميل فيما يقوم به ترامب اليوم هو أنه يقوم بسد طرق التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الهادئ على الصين، وأنه يدخل صراعات مفتوحة معها، تُغلق على الصين باب التقدم بصمت، فهذه السياسة الأمريكية، إن استمرت، وأدعو لله أن تستمر، سوف تفرض على الصين أن تدخل صراعات مواجهة مفتوحة ومباشرة مع الولايات المتحدة، بالوكالة، أو بغيرها، لأن الولايات المتحدة باتت لا تترك لها خياراً إلا هذا الخيار، وهذا يعني أن مرحلة العدوان على العراق 2003 أو على ليبيا 2011 ستصبح من مخلفات التاريخ المعاصر مع نشوء عالم متعدد الأقطاب لا تفعل فيه الولايات المتحدة ما تشاء.

على صعيد حجم الاقتصاد الوطني (الناتج المحلي الإجمالي GDP) تعتبر الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.. فالناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لعام 2018 بلغ عشرين ترليون دولار ونصف ترليون فيما بلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني 13 ترليون ونصف الترليون (الترليون ألف مليار..) بحسب إحصائيات صندوق النقد الدولي. أما إذا حسبنا الناتج الإجمالي من حيث معادل القوة الشرائية PPP، أي بعد أخذ القوة الشرائية لليوان الصيني في الصين (لا في الخارج) بعين الاعتبار، فإن حجم الاقتصاد الصيني بلغ أكثر من 25 ترليون دولار عام 2018، وبحسب هذا المقياس، تخطى الاقتصادُ الصينيُ الاقتصادَ الأمريكيَ من حيث الحجم عام 2015. فكفى لعباً، لأن “التسلل الهادئ” لا يعود ممكناً عندما يصبح حجمك أكبر من التنين!

أما من حيث التقدم التكنولوجي، فتقول “المنظمة الدولية لتسجيل حقوق الملكية الفكرية”، التي تسجل براءات الاختراع والماركات المسجلة والتصاميم الصناعية أن الصين قدمت أكثر من مليون و300 ألف طلب تسجيل حقوق ملكية فكرية عام 2017، تليها الولايات المتحدة التي قدمت أكثر من 600 ألف طلب تسجيل حقوق ملكية فكرية للعام ذاته، تليها اليابان بأكثر من 318 ألف طلب، تليها كوريا الجنوبية بأكثر من 200 ألف طلب، تليها الدول الأوروبية مجتمعة بأكثر من 166 ألف طلب تسجيل! والصراع على ريادية شركة “هواوي” الصينية هو صراع حول من يملك تكنولوجيا المستقبل القريب 5G، الولايات المتحدة، أم الصين. (وفي الآن عينه بلغنا أننا سجلنا براءات اختراع جديدة في ميدان خلطات “المعسل” والفتاوى العجيبة والهويات الفرعية!)

https://www.wipo.int/pressroom/en/articles/2018/article_0012.html

يعني إذا كانت الصين التي باتت أكبر عملاق اقتصادي في العالم اليوم تريد أن تلبس بنطالاً قصيراً (شورت) وتلعب لعبة “الغميضة” أو “الغماية” بسذاجة مفتعلة، فإن مثل ذلك سوف لن يمر مرور الكرام على القوى الغربية التي تطمح الصين في أن تحل محلها، وثمة صراعات كبرى مؤجلة تنتظرها، شاءت أم أبت، ومن يريد أن يمرر مشروع “الحزام والطريق” عبر العالم تحت شعارات “التنمية والازدهار” التي طالما وظفها الغربيون لمصلحتهم، ضد الغربيين، سيجد ألف لغم وعائق بانتظاره، وسيجد أمماً كثيرة تنتظره لتقف معه عندما يقرر دخول الميدان من بابه العريض، وعلى رأسها الأمة العربية، وهو ميدان صراع صعب تجنبته الصين طويلاً، ولكن إلى متى؟!

إبراهيم علوش

الصراعات المؤجلة التي تنتظر الصينالحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين، سواء من خلال فرض الرسوم…

Geplaatst door ‎إبراهيم علوش‎ op Zaterdag 25 mei 2019

للمشاركة على فيسبوك:

 

الموضوعات المرتبطة

لعبة “الشرطي السيئ، والشرطي الأسوأ” في الضربة الصهيو-أمريكية على إيران

  إبراهيم علوش – الميادين نت لا يمكن القول إن الضربة الكبيرة التي شنها الكيان الصهيوني على إيران فجر الجمعة كانت غير متوقعة، لا بسبب التهويل والتهديد المستمرين، فهذان كان يمكن تصريفهما في [...]

سيناريوهات حرب أوكرانيا بين الاستنزاف المطول والحل التفاوضي

  إبراهيم علوش – الميادين نت على إيقاع هجمات متبادلة تزداد ضراوةً وعمقاً، يمكن وصف مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف بأنها مسرحية تؤدى لعيون ترامب فحسب، بطلاها خصمان لدودان لا يطيق أحدهما [...]

مفهوم “السياسة الصناعية” وموسم العودة إلى فريدريك لِست Friedrich List

  إبراهيم علوش – الميادين نت لم يستفز الاستراتيجيين الأمريكيين شيءٌ مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة عشرية أطلقت سنة 2015 أيضاً لتطوير عشرة قطاعات تصنيعية صينية، من بينها الذكاء [...]

الصراع الصيني-الأمريكي من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية

  إبراهيم علوش – الميادين نت كثيراً ما يستفز "برود" الصين، في مواجهة التغول الأمريكي، أنصار التعددية القطبية ودعاة التحرر من الهيمنة الأمريكية حول العالم. فالصين، ثاني أكبر اقتصاد [...]

حصاد زيارة ترامب الخليجية: صفقات كبرى، ومنافسة الصين

  إبراهيم علوش – الميادين نت يصر تقرير في موقع "مجلس الأطلسي" (Atlantic Council)، في 13/5/2025، بشأن زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بأن هدف الزيارة يتلخص بأمرين: أ – عقد صفقات تجارية [...]
2025 الصوت العربي الحر.