في التوظيف السياسي لفكرة “القومية الآرامية”

June 13th 2019 | كتبها

– نقلت وسائل إعلام مختلفة في أواسط شهر أيلول 2014 أن وزارة داخلية الاحتلال الصهيوني قررت الاعتراف بما أسمته “القومية الآرامية” في فلسطين المحتلة، وأنها ستبدأ، بناء على ذلك، بوضع وصف “آرامي” إلى جانب كلمة مسيحي في بطاقات هوية المواطنين المسيحيين في الأرض العربية الفلسطينية المحتلة عام 1948.

– لاقت هذه الخطوة احتجاجاً عارماً من قبل المواطنين المسيحيين والكنائس العربية في فلسطين المحتلة، باستثناء حفنة تافهة من العملاء الصغار مثل الأب جبرائيل نداف، ومثل الضابط في جيش الاحتلال الصهيوني شادي حلول (من بلدة “الجِش”) الذي كان قد أسس قبلها بخمس سنوات “الجمعية الآرامية في إسرائيل” التي تعمل على استقطاب العرب الفلسطينيين من اتباع الديانة المسيحية إلى صفوف الجيش الصهيوني.

– ولا تزال قضية وضع “آرامي”، إلى جانب مسيحي، في السجلات الثبوتية تتفاعل في الأرض المحتلة، وإزاء المعارضة العارمة، تُرك الأمر للأهل المسيحيين ليسجلوا اطفالهم كآراميين اختيارياً، كما بات بإمكان أي مسيحي في الأرض المحتلة عام 48 أن يسجل نفسه في “القومية الآرامية” عن طريق تقديم طلب للمحكمة.

– فتح مثل هذا الباب ليس بريئاً بكل تأكيد، وإذا كان البعض قد قرأ فيه محاولة لسلخ العرب المسيحيين عن عروبتهم، ولإحداث شرخ طائفي في فلسطين المحتلة، وهو محق في مثل تلك القراءة طبعاً، فإن أبعاده بالنسبة للجمهورية العربية السورية خصوصاً، ولسورية الطبيعية عموماً، هي أخطر بكثير، لأنها تصب في زاوية ربط الهويات الدينية ببعد قومي، تماماً كما يتم التعامل مع اتباع الديانة اليهودية كقومية، يصبح لها تالياً “الحق” في تشكيل دول أو مناطق حكم ذاتي أو في “حماية دولية” إلخ… ويصبح معنى “أخذها بالاعتبار” تقويض الدولة ونسيج المجتمع والوطن..

– الحرص المزعوم على “الهوية الآرامية” من قبل ساسة الكيان الصهيوني من اليمين الديني والمتطرف غريبٌ جداً بالنظر إلى أن التوراة ذاتها تتحدث عن معارك ضارية بين الآراميين والعبرانيين.

– يعني قرار “إسرائيل” تسجيل المسيحيين كآراميين (الآن، بعد المعارضة، إن رغبوا) محاولة إحداث شرخ بين الهوية الآرامية، من جهة، والهوية العربية، من جهة أخرى، يمكن استثماره تفكيكياً من قِبل الصهاينة والغرب، وهو ما يدلل أن إحداث مثل ذلك الشرخ هو في مرمى الصهاينة، وأنهم يعملون على تحقيقه جدياً.

– مثل هذا التوظيف السياسي هو ما يجب التنبيه له، من دون التشكيك بكل من يتحدث بـ”القومية الآرامية” التي سنجادل دعاتها بالحسنى بأنها ظاهرة عربية أصيلة سابقة للإسلام.

– الأهم، من منظور مشروع التفكيك، هو نفي الهوية العربية عن الوطن العربي، ومحاولة إظهار الوجود العربي خارج الجزيرة العربية كاحتلال أو كوجود طارئ منقطع الجذور، وتقديم الفتح الإسلامي في حدود الوطن العربي الحالية كغزوٍ غاشمٍ لأقوام بدوية من الجزيرة العربية لأقوام أصيلة لا يرتبطون معها برابط! وهي أطروحة مركزية في خطاب المستشرقين والغرب عموماً، تصوّر العروبة خارج الجزيرة العربية كاحتلال، وتركز على التاريخ الأمازيغي (البربري) للمغرب العربي، والقبطي لمصر، والزنجي للسودان، والآشوري للعراق، والآرامي لسورية، والفينيقي للبنان (وتونس)، إلخ…

– التتمة الطبيعية لمثل هذا الكلام هي الحديث عن “أقليات قومية مضطهدة من قِبل الاحتلال العربي-الإسلامي” وعن “قوميات بلا دول”، وعن “شرق أوسط بلا هوية قومية واضحة”، وهو ما يحقق أكثر من غرض، منه جعل “الدولة اليهودية أمراً طبيعياً في فسيفساء الهويات والاحتلالات”، ومساواة تأسيس دولة “إسرائيل” في القرن العشرين بـ”الغزو العربي لا لفلسطين فحسب، بل لكل المنطقة الواقعة بين المغرب والعراق”، والتأسيس عقائدياً لتفكيك الوطن العربي بذريعة “حق الأمم في تقرير مصيرها”، وتسخيف حق العرب بفلسطين، وحتى مطلب “الدويلة الفلسطينية”، باعتبار أن هناك عشرات “القوميات في المنطقة” تنتظر دورها للحصول على “دويلات” خاصة بها.

– لا بد من لفت النظر هنا لسيل الكتب والمقالات التي كرست مثل هذه الأفكار في الغرب، وأشاعت فكرة “الاحتلال العربي خارج الجزيرة العربية”، وفكرة “القوميات الشرق أوسطية المحرومة من الحقوق السياسية وحق تقرير المصير”، وهنا يبرز اسم المستشرق اليهودي الصهيوني الراحل برنار لويس طبعاً، وغيره كثر.

– كما يبرز هنا أيضاً كتاب موردخاي نيسان المنشور عن دار McFarland الأكاديمية (الأمريكية) عام 1991، والذي صدرت منه عدة طبعات مزيدة ومنقحة، كان آخرها في عام 2015، تحت عنوان Minorities in the Middle East: A History of Struggle and Self-Expression، الذي يتناول، كما جاء في تعريفه، “نضال الأقليات في الشرق الأوسط من أجل الاستقلال”، والذي يقدم “ثروة من التفاصيل التاريخية والسياسية عن السكان الأصليين للشرق الأوسط”، هذه “الأقليات المضطرة للاستمرار في بيئة معادية مثل الكرد والبربر والبلوش والدروز والعلويين والأرمن والآشوريين والموارنة والسودانيين المسيحيين واليهود والأقباط المصريين وغيرهم ممن يعيشون تجارب مماثلة وممن عُرف عنهم التعاون لتحقيق أهداف مشتركة”!

– تبرز هنا أيضاً مقالة الكاتبة والصحافية الأمريكية روبن رايت Robin Wright في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في 28 أيلول 2013، التي تتحدث عن تقسيم قادم وتحول 5 دول عربية إلى 14 دويلة، انطلاقاً من سورية التي “تضم قوميات متعددة”، والتي نُشرت معها الخريطة الافتراضية المرافقة لهذا المنشور..

– الخلاصة أن السياق العام للحديث عن قوميات وأقليات وعِرقيات وجهويات حقيقية ومفترضة، ومتناسلة دوماً تنتج المزيد والمزيد من الأقليات، تحوِّل الخصوصيات ضمن الواحد المتحِد إلى آحاد متفرقة ومتنافرة، هو سياق تفكيكي، لا سياق “ديموقراطي”، كما يزعم الخطاب الغربي والصهيوني، وهو سياق إثارة الفتن والحروب والدمار.

– الوعاء العام لمثل هذه المقولات التفكيكية هو ما يسمى بـ”الشرق الأوسط”، وهو تعبير أنتجه مكتب الاستعمار البريطاني في الهند في أواسط القرن التاسع عشر، لوصف المنطقة الممتدة من شبه الجزيرة العربية إلى الهند، والذي كرسه الأمريكي ماهان، الجغرافي السياسي عام 1902، لتصبح المنطقة الممتدة من تركيا إلى مصر “الشرق الأدنى”، وما بعد الهند “الشرق الأقصى”، فهو مصطلح استعماري، يكرس الغرب كمركز للعالم، إذ لا تسمع من يسمي أوروبا الغربية “الغرب الأوسط” وأمريكا الشمالية “الغرب الأقصى”! فضلاً عن كونه مصطلحاً مصمماً لنفي الهوية الحضارية الموحدة للوطن العربي، ولإحلال عشرات الهويات، وبالتالي الدويلات والكانتونات، محلها.

– في المغرب العربي اليوم ثمة صعودٌ كبير للنزعة الأمازيغية المناهضة للعروبة والساعية للانفصال، وجمعيات أمازيغية تشتغل بالتطبيع مع العدو الصهيوني، وهجوم شرس على العروبة كـ”احتلال”، وعلى الإسلام كله (لا التأويلات التكفيرية له فحسب)، وثمة حرب ثقافية تحتمل إمكانية التحول إلى حربٍ أهلية، بدأت منذ الآن في الفضاء الافتراضي، وثمة من يسعى لإثبات عروبة الأمازيغ، ولهجاتهم، وثقافتهم، الذين جاءوا من اليمن قبل 33 قرناً، وما يجري في المغرب العربي هو الوجه الآخر مما يحاول البعض أن يقوم به في سورية تحت عنوان صراع مفتعل آخر عربي-آرامي!

(ولنا عودة أخرى لعروبة الآراميين الحضارية التي سبق أن تطرقنا إليها من قبل…)

إبراهيم علوش

للمشاركة على فيسبوك:

 

في التوظيف السياسي لفكرة "القومية الآرامية"- نقلت وسائل إعلام مختلفة في أواسط شهر أيلول 2014 أن وزارة داخلية الاحتلال…

Geplaatst door ‎إبراهيم علوش‎ op Donderdag 13 juni 2019

الموضوعات المرتبطة

التقاطع التركي-الصهيوني في معركة الشمال السوري

إبراهيم علوش – الميادين نت في التوقيت، والجغرافيا السياسية، والأدوات، وتقاطُعِ الأهداف والمصالح، كشف هجوم المجاميع الإرهابية المسلحة في الشمال السوري الصلة العضوية بين رعاته، أي بين [...]

ماذا بعد تعثر حملة الاحتلال البرية في جنوب لبنان؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت تَغِيب أو تُغَيّبُ، بالتدريج، مجريات عمليات قوات الاحتلال البرية جنوبي لبنان عن وسائل الإعلام الغربي الرئيسة منذ شهرٍ تقريباً، ويبدو أن إبعادها عن بؤرة [...]

الاقتصاد “الإسرائيلي” ينزف، ولكن

    إبراهيم علوش – الميادين نت كانت التقديرات الأولية قبل عامٍ تقريباً تشير إلى أن كلفة الحرب على غزة سوف تحمّل الموازنة العامة في الكيان الصهيوني نحو 50 مليار دولار من التكاليف. لكن [...]

لماذا خسر “الديموقراطيون” الناخب الأمريكي في الانتخابات الأخيرة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان الجمهوريون، عند لحظة كتابة هذه السطور، يعززون تقدمهم على "الديموقراطيين" في مجلس النواب الأمريكي، بـ 211 مقعداً في مقابل 199 للديموقراطيين (أصبحت الآن 212 [...]

أزمة الطرف الأمريكي-الصهيوني على الجبهة اليمنية

إبراهيم علوش – الميادين نت من بين كل جبهات القتال المرتبطة بمعركة "طوفان الأقصى"، لا يوجد ميدان ينخرط فيه البنتاغون والغرب الجماعي بصورةٍ عسكريةٍ مباشرةٍ إلى جانب العدو الصهيوني أكثر من [...]
2024 الصوت العربي الحر.