الأمير بشير الشهابي ومحمد علي باشا الكبير

April 19th 2020 | كتبها

من الظواهر المتميزة التي لم تنل حظها من الاهتمام الإيجابي من قبل الكتاب القوميين ظاهرة الأمراء العرب الذين حاولوا الاستقلال خلال فترة الحكم العثماني، ومن أبرزهم في منطقة بلاد الشام الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572-1635 م) الذي انطلق من جبل لبنان لينشأ دولة امتدت من أنطاكية وحلب إلى حمص وحوران ولبنان الحالي وفلسطين وشرق الأردن، في فترة كانت الدولة العثمانية تعيش فيها أقوى مراحلها، وقد تم إعدامه في إسطنبول عام 1635، وكان صاحب مشروع نهضوي تحديثي تحرري.

ومن هؤلاء الولاة أيضاً الشيخ ظاهر العمر الذي انطلق من الساحل الفلسطيني ليؤسس دولة في القرن الثامن عشر امتدت عبر شمال فلسطين إلى جنوب لبنان وحوران، وقد تحالف مع علي بك الكبير الذي تمرد على العثمانيين في مصر ودخل بلاد الشام بالتعاون مع ظاهر العمر عام 1770 م، وقد تمكنا من دخول دمشق، لكن الموازين انقلبت ضدهما بسرعة وانتهى كلاهما مقتولاً، وقد قتل ظاهر العمر بعد سلسلة معارك عام 1775 م.

لكن الأمير بشير الثاني الشهابي الكبير (1767 – 1850 م)، الذي انطلق من جبل لبنان أيضاً ليؤسس إمارة قوية اصطدمت بالولاة العثمانيين، ثم بالدولة العثمانية ذاتها بالتحالف مع إبراهيم محمد علي باشا القادم من مصر إلى بلاد الشام عام 1831 م، يكتسب أهمية خاصة لأنه كان الشخصية الرئيسية المتحالفة مع محمد علي باشا والمعتمدة من قبله ومن قبل ابنه إبراهيم في بلاد الشام، وقد خاضت قواته الشامية المعارك كتفاً إلى كتف مع القوات المصرية ضد قطعان الاحتلال العثماني إلى ما بعد الإسكندرون وسحقتها مراراً وتكراراً، لولا تدخل الدول الأوروبية الكبرى مجتمعة إلى جانب العثمانيين ضد المشروع الوحدوي التحرري النهضوي الذي مثله محمد علي باشا وحليفه الأمير بشير، وقد كانت تربطهما صداقة قديمة.

وقد بلغت قناعة الأمير بشير الثاني بمشروع محمد علي حداً جعله يرفض عروضاً عثمانية وبريطانية للتعاون حتى بعدما احتلت القوات الأوروبية-العثمانية المشتركة بلاد الشام عام 1840، وآثر الأمير بشير المنفى على التعاون مع المحتل، ومات في إسطنبول عام 1850 رحمة الله عليه.

المشكلة أن شخصيات عظيمة مثل فخر الدين المعني الثاني أو بشير الشهابي الثاني، أو ظاهر العمر، يتم تقزيمها وتصديرها اليوم بمقاييس قُطرية لم تنشأ إلا في القرن العشرين، أي كشخصيتين لبنانيتين، أو كشخصية فلسطينية في حالة ظاهر العمر، مع أنها لم تبنِ إماراتها على هذا الأساس، بل كان أفقها شامياً واسعاً، ومع أنها كانت تحمل رؤىً استقلالية تحررية نهضوية، مناهضة للاحتلال العثماني، ومع أنها، كما في حالة ظاهر العمر والأمير بشير، رأت مثل ذلك التحرر ممكناً فقط ضمن منطوق الجغرافيا السياسية الذي يجعل الوزن المصري القطب المكافئ لتركيا العثمانية غرب آسيا، وبالتالي كان أفقها عروبياً بالنهاية. وهذا مشروط طبعاً بأن تكون مصر في حالة نهضوية تحررية، كما في عهد عبدالناصر، لا في حالة تبعية وخنوع. وتاريخياً مثلت حلقة مصر-بلاد الشام أهم حلقة لتأسيس دولة عربية مركزية لا سيما بعد الفتح الإسلامي.

النقطة الثانية هي أن أولئك الحكام، كأصحاب مشاريع وطنية استقلالية، كانوا يتحلون بمنطق المواطنة مبكراً، وقد عرفوا كيف يتعاملون مع الحساسيات الطائفية في بلاد الشام، وكانت قواتهم مختلطة طائفياً ومناطقياً، وهذا معروفٌ عن بشير الثاني بالذات، ولكن عُرف عن ظاهر العمر أيضاً انضمام أعداد كبيرة من الشبان الشيعة لقواته عام 1771 م، كما أن محاولة فرض التجنيد الإجباري على مواطني بلاد الشام من كل الطوائف بعد دخول إبراهيم باشا إليها شكل عامل نقمة على بشير الثاني، كما شكل التجنيد الإجباري عامل نقمة على محمد علي باشا في مصر، فالقوات التي قاتلت العثمانيين والأوروبيين كانت مصرية-شامية أساساً، من أبناء المنطقة، وهذه النقطة نسوقها، مع أنها معروفة، لكثرة الهراء المتناثر، ضمن حملة التشويه المستمرة حتى اليوم لمحمد علي باشا، عن أنها لم تكن قوات عربية، بل ربما جاءت من قبائل الفايكنغ أو قبائل الهونزا!

أخيراً، عندما يكون القطب المركزي في بلاد الشام، وهو دمشق وحلب، أو في العراق، راسفاً تحت القيد العثماني الثقيل، فإن من المنطقي أن يكون هامش التحرك أوسع في الأطراف منه في المركز، ولكن حتى هذا الهامش لا يتحول إلى قطب مركزي، ولا يمتلك فرصة للانطلاق الحقيقي، إلا إذا استوطن المراكز، أو التحم بها، كما فعل الأمير بشير الثاني بتحالفه مع محمد علي باشا في مصر.

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=3559236767426866&id=100000217333066

الموضوعات المرتبطة

جوائز نوبل هذا العام سياسياً وأيديولوجياً

  إبراهيم علوش  - الميادين نت برزت، إعلامياً، 3 أسماء لدى الإعلان قبل نحو أسبوعين عن الفائزين بجائزة نوبل لعام 2025: ماريا كورينا ماشادو، الفائزة بجائزة نوبل للسلام، لأنها زعيمة للحركة [...]

“الهوية اليهودية”: قومية أم دينية؟  

إبراهيم علوش – الميادين نت تاريخياً، نحا الخطاب المقاوم في فلسطين باتجاه تصنيف اليهود أتباعاً لديانة سماوية فحسب، لا مشكلة معهم جوهرياً بصفتهم تلك، وباتجاه تركيز بوصلة التناقض الرئيس نحو [...]

اليهودية، الصهيونية، ومسألة “إسرائيل الكبرى” عقائدياً

  إبراهيم علوش – الميادين نت تقبع، بين جولات الصراع مع العدو الصهيوني، مسألة جوهرية، يتحرج كثيرون من الخوض فيها، على الرغم من أنها تمثل رافعة أيديولوجية لزعزعة استقرار المنطقة من المنظور [...]

“إسرائيل الكبرى” بين الجغرافيا السياسية والأيديولوجيا

  إبراهيم علوش ربما تبدو مقولة "إسرائيل الكبرى" شطحة أيديولوجية تعتنقها قوى وشخصيات متطرفة تتموضع في أقصى يمين الحركة الصهيونية، وربما تبدو تلك المقولة نبتاً شيطانياً يرعاه أمثال "الحزب [...]

المنظومة الليبرالية في الغرب في مواجهة “أزمة غزة” داخلياً

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان مهماً جداً الربط الذي أقامه المناضل جورج إبراهيم عبدالله، في حواره الخاص مع قناة الميادين في 3/8/2025، بين ظاهرة تصاعد الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية، [...]
2025 الصوت العربي الحر.