كيف نؤول جمال عبدالناصر؟

April 24th 2020 | كتبها

مثّل جمال عبدالناصر طفرة استثنائية، في السياق المصري تحديداً، إذ أنه لم يأتِ نتاج نضج الحركة القومية العربية في مصر مثلاً، كما نضجت نتيجة الصراع مع المحتل العثماني في بلاد الشام.

على العكس من ذلك تماماً، أتى عبدالناصر كمفارقة قومية عربية، حتى ضمن مجلس قيادة الثورة الذي تشكل من وطنيين مصريين، وبعض الليبراليين والماركسيين، المحدودين جميعاً بالأفق القُطري المصري.

لو قيض للتجربة الناصرية حزبٌ قوميٌ عروبيٌ ذو امتدادٍ تنظيمي عابر للأقطار العربية، وممتد عبر أحياء المدن والقرى، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي في الأقطار الشامية والعراق في بداية الخمسينيات، لاختلف مسار التجربة الوحدوية تماماً، ومسار الأمة العربية والعالم. لكن ذلك لم يكن ما حدث للأسف.

ولو تمكن عبدالناصر من بناء مثل ذلك الحزب بعد بدء تبلور وعيه القومي والوحدوي، كما حاول أن يفعل من خلال “التنظيم الطليعي”، لاختلف مسار الناصرية ذاتها، قبل وبعد رحيل عبدالناصر، ولاختلف مسار التجربة الوحدوية والأمة العربية والعالم. لكن ذلك لم يحدث للأسف.

الواقع هو أن عبدالناصر جاء في لحظة تاريخية متميزة كان الاستعمار القديم البريطاني والفرنسي يخرج فيها من الباب، ليدخل الاستعمار الجديد، الأمريكي أساساً، من الشباك، فكانت تلك لحظة فراغ نسبي تاريخية تحققت فيها فرصة ذهبية لانطلاق مشروع عربي حقيقي على يد ضابطٍ مصري شاب لم يبدأ قومياً عروبياً، إنما توصل كوطني مصري، من خلال حسابات الجغرافيا السياسية والاستراتيجية العليا، إلى المشروع القومي الوحدوي كضرورة حتمية لتحقيق الاستقلال والنهضة لا لمصر وحدها، بل لكل الأقطار العربية.

ما توصل إليه عبدالناصر هو أنه ليس هناك من استقلال حقيقي، لمصر أو لغيرها من البلدان العربية، إلا في إطار دولة الوحدة العربية، وهي النتيجة ذاتها التي توصل إليها محمد علي باشا الكبير من قبله، وكل حاكم عربي مخلص لوطنيته، فتوصل إلى الحل القومي العروبي موضوعياً، كنتيجة منطقية لرياضيات الاستقلال والنهضة، ولو لم يصله من خلال قناعات أيديولوجية مسبقة هي في المحصلة انحياز عقلاني، بعيداً عن أي شحنة عاطفية، لمصلحة الأمة العربية.

ولو كان قد توصل للحل القومي العروبي مسبقاً، لفكر بضرورة العمل القومي العابر للأقطار، فالحديث عن “مسبقاً”، بمعنى الأحكام المسبقة مثلاً، ليس دوماً سلبياً، بل قد تأخذ “مسبقاً” معنى إعداد شروط النجاح والديمومة، سوى أن “مسبقاً” خارج مصر ليست مثل “مسبقاً” داخلها.

لكنْ للأسف، لم تكن النخب المصرية قد جارت جمال عبدالناصر في تطور وعيها، وبعد رحيل عبدالناصر، ثبت أن الكثير من الناصريين ارتدوا إلى مواقع قُطرية، في مصر وفي غيرها، كما ارتد كثيرٌ من غير الناصريين إلى مواقع قُطرية بعد انكفاء المشروع القومي، وكما ثبت أن المشروع القومي من دون مصر قاصر، وأن الشعار القومي الذي يتقوقع في قُطره يظل أسير الحسابات القُطرية، وبالتالي فإنه يظل مهيئاً للارتداد على ذاته، ليتحول إلى نقيضٍ لوطنيته القُطرية ذاتها.

الناصرية إذاً هي تجاوز المشروع القُطري إلى مشروع قومي، في الفكر والعمل والتنظيم، انطلاقاً من قاعدة وازنة تحمل على عاتقها عبء ذلك المشروع، بعد الإدراك أن لا مشروع قُطرياً يصل إلى مبتغاه بمعزل عن المحيط العربي، وهو بالأساس المشروع القومي قبل الناصرية وبعدها، إن أخذناه من ناحية أيديولوجية، سوى أن عبدالناصر توصل إلى تلك النتيجة بالممارسة، وهذا يزيد من مصداقية ذلك المشروع، ولا يقلل من مصداقية عبدالناصر.

من يؤول عبدالناصر، داخل مصر وخارجها، بأنه مشروع هيمنة مصرية على الوطن العربي، لا يدرك كنه المشروع الناصري حقاً، ومن يؤول عبدالناصر بأنه محاربة الاستعمار والهيمنة الاستعمارية فحسب، من دون أن يدرك أن ذلك لا يمكن أن يتم حقاً ضمن إطار حدود وطنية “قُطرية”، لا يدرك كنه المشروع الناصري حقاً، ومن يظن أن المشروع الناصري هو مناهضة الصهيونية من أجل فلسطين فحسب، من دون أن يدرك أن الصهيونية وجدت أساساً لمنع الوحدة العربية، لا يدرك كنه المشروع الناصري حقاً.

الناصرية هي مشروع تجاوز الوطنية إلى القومية، بعد الإدراك أن الوطنية المخلصة لا تتحقق في الحدود القُطرية، وأن إطارها المنطقي هو الوطن العربي الكبير. وهي بهذا مقاربة جادة ومخلصة للمشروع القومي العربي، وليست النسخة النهائية منه، لكنها حظيت بظروف تاريخية أفادتها في الصعود، ولم تحظَ ببنية تنظيمية أو فكرية مصرية أو عابرة للأقطار العربية تقيها من الهبوط وتساعدها على الاستمرار بعد عبدالناصر، الحالة الفريدة الاستثنائية، التي تشكل بشيراً لما سيأتي، لأنه يمثل بوصلة المصلحة التاريخية للأمة العربية، ولسوف يدرك كل قُطر عربي، مهما شرّق وغرّب، وحاول واجتهد، أن الارتداد إلى المشروع القُطري، تحت شعارات ليبرالية أو ماركسية أو وطنية ديموقراطية أو غيرها، أن صيرورة جمال عبدالناصر القومية العروبية هي مآله الوحيد.

للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=262793141789446&set=a.108373647231397&type=3&theater

الموضوعات المرتبطة

ماذا تعني دعوة القوى الدولية لـ”حماية الأقليات” السورية؟

إبراهيم علوش – الميادين نت كفى بالمرء دليلاً على وجود نخبة عالمية متنفذة تُؤرجِحُ خيوط المشهد من خلف الستائر ومن أمامها أن يتزايدَ الانفتاحُ، دولياً وعربياً وإسلامياً، على النظام الجديد [...]

هل طوفان الأقصى “مؤامرة” على محور المقاومة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت على ضفتي سنة 2000، احتدم جدال في الساحة الفلسطينية، وبين المعنيين بالشأن الفلسطيني، بشأن العمليات الاستشهادية التي أثخنت الكيان الصهيوني رعباً وقتلى وجرحى.  [...]

ترامب يجابه الدولة العميقة على صعيدي المساعدات الخارجية وأوكرانيا

  إبراهيم علوش – الميادين نت لأن أي تحول جوهري في بنية المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، وبالتالي في توجهاتها، تنعكس ظلاله بالضرورة على مصفوفة العلاقات الدولية، وبالتالي على مسار [...]

هل يصمد وقف إطلاق النار في غزة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان لافتاً ضغط ترامب على نتنياهو للقبول باتفاق وقف إطلاق نار في غزة.  بات واضحاً أنه الاتفاق ذاته الذي عملت إدارة بايدن على صياغته في أيار / مايو الفائت، [...]

مسألة هوية “سوريا الجديدة”: برميل بارود برسم الانفجار

  إبراهيم علوش – الميادين نت يبدو أن هناك تواطؤاً سورياً عاماً، من جراء إرهاق الحصار ربما، ووطأة سنوات القتال، على تمرير "المرحلة الانتقالية"، ريثما تتضح معالم ما يسميه البعض "سوريا [...]
2025 الصوت العربي الحر.