لكي لا تمضي ذكرى 6 أيار، أو عيد الشهداء في سورية ولبنان، كأنها يوم عطلة آخر فحسب، إليكم نبذة عن الشهيد رفيق رزق سلوم، أحد شهداء 6 أيار الذين أعدمهم المحتل التركي عام 1916، وهو ما يزال في الـ25 من عمره آنذاك، وكان قد نشر في العام 1912، أي قبلها بأربع سنوات تقريباً، وهو ما يزال في الـ21 أو 22 من عمره، أول كتاب علم اقتصاد حديث باللغة العربية… كم كان سيبدع فكراً وعلماً الشهيد رفيق رزق سلوم لو قيض لعبقريته أن تستمر بضعة عقودٍ أخرى!
كتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد” للشهيد رفيق رزق سلوم
إبراهيم علوش – طلقة تنوير 50
وقعت بيدي صدفةً يوماً ما، خلال تجوالي في شوارع دمشق قبل الحرب على سورية بسنوات، نسخة أصلية من كتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد”، المنشور عام 1912 في حمص عن مطبعة قسطنطين يني، كانت معروضة للبيع بمئة ليرة سورية على قارعة رصيف أحد الشوارع المودية لساحة المحافظة إلى جانب كتب الأبراج والطبخ والروايات البوليسية المستعملة والمعاد بيعها مراراً، وهو ما كان يعادل وقتها دولارين أمريكيين اثنين، وقد ذهلت لما حضنت أوراق ذلك الكتاب الماثلة للون البني الفاتح بيدي، لأنه، أولاً، بحسب علمي، أول كتاب علم اقتصاد حديث باللغة العربية، وثانياً لأن مؤلفه هو أحد رواد النهضة العربية القومية في بداية القرن العشرين وهو الشهيد رفيق رزق سلوم الذي أعدمه الأتراك في ساحة المرجة في دمشق يوم 6 أيار عام 1916، وثالثاً لأن النسخة أصلية عليها ختم المؤلف نفسه. وقد دُرِّس هذا الكتاب فترةً طويلة في بعض مدارس حمص، وفي مدرسة السلمية الزراعية وغيرها، فلا شك أن ثمة نسخاً كثيرة منه في مكانٍ أو أمكنة ما، لكنه غير متوفر في المكتبات، ولم أكن قد رأيته قط من قبلُ، وقد شعرت وقتها كقومي عروبي ودارس ومدرّس لعلم الاقتصاد ورث عن أبيه الشغف بالكتب أن “حياة البلاد في علم الاقتصاد” هو الذي وجدني، ولم أكن أنا الذي وجدته.
وبعد أن غُصتُ في لجج الكتاب ذي المئة والعشرين وست صفحات ذهلت مجدداً من مدى تمكن رفيق رزق سلوم من علم الاقتصاد الغربي، مقارنة بأي كتاب تدريسي عن ذلك العلم في المكتبة العربية اليوم بمستوى السنة الجامعية الرابعة، وهو كتاب مكثفٌ جداً في مضمونه مكتوبٌ بالرغم من ذلك بطريقة مبسطة جداً لأن كاتبه ليس همه استعراض قدراته الشخصية فهو صاحبُ رسالة معنيٌ بتعليم الناس علم الاقتصاد كجزء من مشروعٍ عربي نهضوي، هو بالضرورة مشروعٌ قومي، ولا يمكن أن يكون المشروع النهضوي إلا قومياً، ولا يمكن أن يتم النهوض والاستقلال والتحرر من دون بناء اقتصادي، ولا يمكن أن يتم ذلك من دون فكر ومشروع سياسي، وهو ما أدركه رفيق رزق سلوم جيداً، فلم يغرقْ بالتقنيات، مع أنه ذللها باقتدار لفهم المبتدئ النبيه، فلا يكاد يدرك إلا المتخصصون مدى امتلاكه لصنعة السهل الممتنع، وفي نهاية كل فصل من فصول الكتاب وضع سلوم أسئلة سهلة مباشرة تعرّف القارئ بمدى استيعابه لمادة الدرس، ومرر أحياناً أسئلة مفتوحة بعدها تربط المادة بالمشروع القومي النهضوي مثل: “لماذا اندثرت مدنية أجدادنا العرب العظام، وماذا يجب أن نعمل حتى نعيد تلك المدنية المجيدة؟” (نهاية الدرس الرابع، ص 17)، ومثل: “إلى أية صنائع تحتاج الأمة العربية اليوم، وكيف يجب أن تسعى لذلك؟” (نهاية الدرس الثامن، ص 26)، ومثل: “كيف يقدر أن يخدم العالِم الاقتصادي أمته؟” (نهاية الدرس العاشر، ص 32). وعندما تناول مسألة “حرية المباراة والمنافسة”، فإنه تناولها من منظور قومي موضحاً أن مفهوم المنافسة انقلب، و”نرى في هذا العصر أن هذه الحرب قد تغيرت وانقلبت إلى حرب أخرى اقتصادية” (ص 28)، و”ترى الحكومات يزاحم بعضها بعضاً في التجارة والصناعة ولا يهمها امتلاك الأرض نفسها بل يهمها في الدرجة الأولى امتلاك مصالحها الاقتصادية والشواهد أمامنا اليوم كثيرة محسوسة ولهذا السبب تعتني مدارس أوروبا بالعلوم الاقتصادية فهي بمنزلة العلوم الحربية…” (ص 29).
وقد وضع رفيق رزق سلوم لكتابه عنواناً فرعياً لكتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد” هو (ملخص باختصار عن أحدث المؤلفات في هذا العلم)، لكنه لم يقدم ملخصاً أو يترجم فحسب، بل قدم عصارة لعلم الاقتصاد الغربي تم هضمها جيداً للقارئ العربي، كمفكر، وكمعلم، وكصاحب رسالة، يصح القول أنها نقطة انطلاق علم الاقتصاد الحديث باللغة العربية، وكأن ذلك لم يكفه شرفاً، فإن المذهل حقاً أن رفيق رزق سلوم قام به وهو في الحادية العشرين من عمره، إذ أنه ولد في شهر آذار 1891، واستشهد في 6 أيار 1916 (عن خمسةٍ وعشرين عاماً)، أما كتابه “حياة البلاد في علم الاقتصاد” فقد صدر في وقتٍ ما عام 1912، وكان قد صدرت أجزاء منه على ما يبدو على شكل مقالات في جريدة “الحضارة” التي كان يصدرها وقتها الشيخ عبد الحميد الزهراوي الذي أهداه رفيق رزق سلوم الكتاب، والذي أعدمه الأتراك أيضاً في ساحة المرجة في دمشق في 6 أيار عام 1916، إلى جانب عدد من القادة والمفكرين والكتاب والرموز مثل الأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وقد ترافق ذلك مع إعدامات مماثلة في ساحة البرج في بيروت في 6 أيار أيضاً، غير الذين أعدموا في تواريخ أخرى.
كان رفيق رزق سلوم واحداً من بين عدد من الشعراء والكتاب والمفكرين العرب الذين أعدمهم الأتراك، وقد حرص والدي ناجي علوش على متابعة تراث هؤلاء الأدبي والفكري ناشراً كتاباً عن الشهيد عبد الحميد الزهراوي، وآخر عن الشهيد عبد الغني العريسي، كما عكف على إعداد كتاب عن الشهيد شكري العسلي، ويمكن إيجاد النسخ الالكترونية من كتابيه عن عبد الحميد الزهراوي وعبد الغني العريسي على هذين الرابطين:
http://www.freearabvoice.org/wp-content/uploads/2018/01/مدخل-إلى-قراءة-عبد-الحميد-الزهراوي.pdf
http://www.freearabvoice.org/wp-content/uploads/2018/01/مختارات-المفيد-1.pdf
كان رفيق رزق سلوم قد نشر رواية بعنوان “أمراض العصر الجديد” عام 1909 في السابعة عشرة من عمره وهو في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي صيف عام 1909 عاد إلى حمص وهناك التقى بالشيخ عبد الحميد الزهراوي ونشأت عشرة عمر بينهما، وقد ترك الجامعة الأمريكية في بيروت وذهب إلى الآستانة لدراسة الحقوق بناءً على تفاهم (سياسي-تنظيمي على ما يبدو) مع الشيخ الزهراوي، وهناك عكف على دراسة الحقوق وعلى كتابة المقالات للصحف العربية مثل (المقتطف ـ المهذب ـ المفيد ـ حمص ـ لسان العرب)، وكان محرر جريدة “الحضارة” التي يصدرها الشيخ الزهراوي، وقد بقي سلوم في الآستانة حتى عام 1914، كما وضع مجلداً بعنوان “حقوق الدول” من 800 صفحة هو نتاج دراسته للحقوق في الآستانة، وقد كان بارعاً في اللغات وفي العزف على الآلات الموسيقية، وله مجموعة شعرية رشحت بعض قصائدها، وقد انضم للجمعية القحطانية ذات التوجه القومي العروبي وهي إحدى الجمعيات العربية السرية التي تأسست في الآستانة في 1909، التي كان الشيخ الزهراوي عضواً فيها أيضاً بالطبع، ولعل العلاقة بين الشيخ الزهراوي ورفيق رزق سلوم الذي ولد لعائلة مسيحية أرثوذكسية، ودرس الدين المسيحي ورسم راهباً قبل أن يخلع ثوب الرهبنة ويدخل غمار الحياة العامة، ودفن بعد إعدامه في مقبرة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في دمشق، نموذجٌ لما كانت عليه الحركة العربية القومية منذ بدأت، فلا حدٌ يباعدنا، ولا دينٌ يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا، بغسانٍ وعدنانِ.
ماذا كانت ستنتج عبقرية رفيق رزق سلوم الفذة يا ترى لو قيض لها أن تستمر عشرين أو ثلاثين سنة أو أربعين أخرى؟ هذا ما لن نعرفه أبداً لأن المحتلين الأتراك قضوا عليها في المهد، كما قضوا على الكثير من مفكرينا وكتابنا، وربما على الحياة الثقافية والفكرية العربية ذاتها، لأن تاريخ حكمهم للوطن العربي، منذ السلاجقة، هو تاريخ انفصالنا عن الحضارة الإنسانية وتقدمها، وقد تعرض هذا المفكر العلمي ذو الميول اللغوية والفنية والشعرية لتعذيب وحشي على يد المحتلين الأتراك غداة اعتقاله في سجن عالية (في لبنان) في 9 تشرين أول 1915 تقريباً حيث قضى الأشهر الثمانية الباقية من حياته حتى إعدامه في 6 أيار 1916، كما جاء في رسالة لأهله من السجن في 5 نيسان 1916. وقد كتب قصيدة “صبوا الدماء على قبري بلا أسفٍ”، وهي آخر قصيدة نظمها قبل إعدامه، كدعوة للثورة على الاحتلال التركي (وتجدونها في نهاية العدد 50 من مجلة “طلقة تنوير”) ومطلعها:
لا العُرب أهلي ولا سورية داري………إن لم تهبوا لنيل الحقِ والثارِ
إن نمتمُ عن دمي لا كنتمُ أبداً……… وكان خصمكمُ في المحشر الباري
لكن هذا الرجل الرجل، الممتلئ إحساساً وضميراً وفكراً، الذي سار إلى حبل المشنقة كما نقل الرواة والشهود كأنه ذاهبٌ إلى عرس، كان يتعامل مع علم الاقتصاد بعقلٍ باردٍ وعلمي صارم كحد السكين، وكان كأنه جاء بنبوءةٍ كارثية يصف بها ما آل إليه على يد المحتلين الأتراك في الفصل المعنون “رأس المال”، حيث راح يشرح في ختامه الفرق بين أقسام رأس المال، موضحاً ضرورة اعتبار المعلومات (العلم والاختراعات والمعرفة التكنولوجية) جزءاً من رأس المال المعنوي، مقابل رأس المادي مثل الآلات والمعدات والأبنية، قائلاً أن رأس المال المادي “يمكن أن نعمل له جدولاً ونعرف قيمته في كل أمة، أما رأس المال المعنوي فلا يمكننا تقديره تماماً… ويوجد فرق آخر بين المادي والمعنوي أن الأول قائم بذاته ويثمر بنفسه وأما الثاني فوجوده منوط بحياة صاحبه وصحته، ولذلك تخسر الأمة بموت العالِم أكثر من موت الغني، لأن ثروة الغني لم تمت بموته، فتخسر الأمة سعيه فقط، وأما بموت العالِم فتخسر الأمة سعي الرجل مع رأس المال الذي كان قائماً بشخصه” (ص 36).
… لكن يا أستاذ رفيق، عندما يترك لنا المفكر والعالِم والمعلم كتباً رائدة مثل “حياة البلاد في علم الاقتصاد”، فإن ما فيها يبقى جزءاً من رأس مال الأمة المعنوي أيضاً، ومن تراثها الفكري، الذي لا بد لها أن تعيد اكتشافه عندما تصمم على المضي في طريق نهضتها، ومن المنطقي أن تقدير القيمة المالية لرأس المال المعنوي أصعب بكثير من تقدير القيمة المالية لرأس المال المادي، أساساً لأن تحويل رأس المال المعنوي إلى إنتاج أو ثروة مادية ومعنوية، يظل إمكانية كامنة لم تحقق تماماً بعد، أما ما نخسره من قتل المفكر والعالِم، لا سيما إذا كان صغير السن كبير الوعد مثلك، فهو كل الإنتاج الفكري الذي لم يتحقق بعد، وكل رأس المال المعنوي الذي كان سينتجه للأمة، فكانت خسارتنا أكبر من أن تعوض، وكانت ملخصاً لقصتنا مع الاحتلال التركي في هذه الأمة.
نبذة عن كتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد”:
بالبرود العلمي والموضوعية ذاتها التي وضع فيها رفيق رزق سلوم “حياة البلاد في علم الاقتصاد” لا بد من نبذة عن الكتاب وما فيه، مع الإشارة إلى أن من يقرأه اليوم ربما لا يجد سلاسة في فهم بعض التعابير التي اجترحها سلوم في العربية لترجمة مصطلحات علم الاقتصاد الحديث في وقتٍ لم تكن توجد فيه مثل تلك المصطلحات باللغة العربية، وهو إنجازٌ تعريبيٌ يضاف لإنجازاته، وهو يجري في التعريب مجرى علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، فيسمي الإنتاج “استحصال الثروة”، ويسمي المنظم entrepreneur الذي يجمع الموارد الاقتصادية من عمل ورأس مال ومواد أولية في منشأة اقتصادية “المتعهد”، ويسمي العمال “العَمَلَة”، ويسمي الإضراب العمالي “الاعتصاب”، ويسمي الفائدة كعائد لرأس المال، بما يختلف عن عائد منظم المنشأة الاقتصادية، “ربا”، ويسمى ربح المنظم “تمتع”، ويسمي الآلات “ماكنات”، ويسمي الريع، وهو عائد الأرض وموادها، “رانت” وهو rent طبعاً، إلخ…
على الرغم من ذلك يتناول رفيق رزق سلوم تقديمه الرائد لعلم الاقتصاد الغربي كمفكر وعالم ومعلم، وهو يبدأ بتعريف علم الاقتصاد باعتباره علم استحصال الثروة (الإنتاج الاقتصادي) وانقسامها (توزيع الناتج الوطني على الطبقات الاجتماعية المختلفة) وتداولها (التبادل وتقسيم العمل والنقود) واستهلاكها، اقرأ: الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك.