إبراهيم علوش – الميادين نت
نزلت عملية الشهيد خيري علقم البطولية مقابل كنيس يهودي في مستعمرة “النبي يعقوب” شرقي القدس، بعد سلسلة عمليات القتل العشوائي والاغتيالات المنهجية التي نفذها العدو الصهيوني في الضفة الغربية، ولا سيما في مخيم جنين، برداً وسلاماً على أفئدة عامة العرب والفلسطينيين.
وأظهر تفاعل الشارع العربي والفلسطيني مع بسالة الإنجاز المظفر الذي اجترحه خيري علقم بمسدسٍ واحدٍ فحسب زخم التأييد الشعبي للعمل المسلح في فلسطين أولاً، وبأن شعبنا يعدّ كل محتل يدب على أرض فلسطين التاريخية هدفاً مشروعاً، لا بل محبذاً، ثانياً.
هذا الموقف الشعبي العربي ثابتٌ منذ أن راحت تتضح معالم المشروع الصهيوني مع بدء الاستيطان اليهودي المكثف في فلسطين مع نهاية القرن الـ 19 الميلادي، فالمشروع الصهيوني أساسه الاستيطان اليهودي في فلسطين الذي ما برح يعمل على توسيعه اليوم، ومن يزعم أنه يناهض الصهيونية من دون أن يناهض ذلك الاستيطان، كقاعدة ديموغرافية للصهيونية في فلسطين، يتلهى بالفروع ولا يناهض المشروع الصهيوني جذرياً.
اتخذ التأييد الشعبي لعملية خيري علقم طابعاً أكثر احتفاليةً وصخباً هذه المرة في الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي، لأن عملية كنيس “أتيرت أفراهام” (وترجمتها “تاج إبراهيم” حرفياً)، بعد المغالاة في استباحة دماء الفلسطينيين صهيونياً، وبعد أقل من 24 ساعة من مجزرة مخيم جنين، شفت صدور قومٍ مؤمنين، فكانت شهداً لنا وعلقماً لهم.
جاءت إدانات بعض الأنظمة العربية لعملية العلقم الفذة، على خلفية إصرار الشعب العربي على إشهار موقفه منها بوضوح، مخزياً لمن أصدروها. وبرز هنا موقف الأنظمة في الإمارات ومصر والأردن ليدينها أيما إدانة، وليخسّرها سياسياً، لأنها حشرت نفسها علناً في صف العدو الصهيوني في مواجهة موقف شعبي عربي مشتعل.
يمثل ذلك الموقف الرسمي أحد استحقاقات التطبيع والمعاهدات مع العدو الصهيوني؛ فإذا كان المطبعون يزعمون أنهم ينأون بأنفسهم عن القضية الفلسطينية فحسب، القضية الأولى للأمة العربية، من أجل تحقيق “مصالح قُطرية”، فإن بعض ردود الفعل الرسمية العربية على عملية العلقم أثبتت مجدداً أن التطبيع يتطلب الاصطفاف علناً مع العدو الصهيوني، لا النأي بالنفس عن القضية الفلسطينية فحسب.
نقول هذا مع الإدراك أن خطاب “النأي بالنفس عن القضية الفلسطينية من أجل تحقيق مصالح قُطرية” ثبت خواؤه أمناً واستقراراً واقتصاداً مع كل جهة عربية طبّعت مع العدو الصهيوني، السلطة الفلسطينية نموذجاً؛ ومع الإدراك الكامل أن المرحلة الراهنة للمشروع الصهيوني هي تفكيك المحيط بالفتن وتثليم هويته بالاختراقات، إذ إنّ ذلك المشروع كان موجهاً منذ القرن 19 ضد الوطن العربي بأكمله، لا ضد فلسطين فحسب.
الموقف الرسمي المصري والأردني
أعربت الخارجية المصرية السبت الفائت عن “رفضها التام واستنكارها الشديد للهجوم الذي شهدته القدس الشرقية” (والرجاء الانتباه إلى أن مصطلح “القدس الشرقية” تطبيعي، فالقدس واحدة، وكلها محتلة، والأصح القول: شرقي القدس)، مؤكدةً “إدانتها لكافة العمليات التي تستهدف المدنيين”.
إنها محاولة لاصطناع شيء من التوازن في الموقف الذي يزعم الحرص على حياة المدنيين على الطرفين، من دون تمييز بين صاحب الأرض الأصيل والمستوطن الدخيل، ومن دون تمييز بين المحتل من جهة والمقاوِم من جهةٍ أخرى، والذي لا يعود “مدنياً”، في حين يُعد جنود الاحتياط الصهاينة خارج الخدمة مثلاً “مدنيين”، بحسب هذا المقياس الأعوج، وهو أعوج لأننا نتعامل مع احتلال استيطاني هنا، لا مع احتلالٍ عسكريٍ فحسب.
قال ناطقٌ رسميٌ للخارجية الأردنية، في بيان أيضاً، إن “الأردن يدين الهجوم الذي استهدف مدنيين في كنيس في القدس الشرقية” (لاحظوا تكرار مصطلحي “القدس الشرقية” والمحتلين “المدنيين” المخترقين)، “كما يدين كل أعمال العنف التي تستهدف المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
هذا يعني أن استهداف المقاومين صهيونياً مشروعٌ بحسب هذا المقياس الأعوج أيضاً. والشعوب تحت الاحتلال ليس لديها جيوشٌ رسميةٌ، ومن دون حركات مقاومة فإنها تبقى عزلاء في مواجهة المحتل.
كما أن مصطلح “الأراضي الفلسطينية المحتلة” ذاته أكثر تلوثاً، لأنه يفكك فلسطين المحتلة، وهو يعني اليوم شيئاً هلامياً خاضعاً للتفاوض، وهو يستثني على وجه التأكيد الأرض المحتلة عام 48، ما يعني عملياً أن قتل الفلسطينيين في الجليل أو النقب ليس مداناً.
الموقف الرسمي الإماراتي الأكثر تطرفاً
كان بيان الخارجية الإماراتية في المقابل أكثر وضوحاً في اصطفافه، ولم يراعِ اعتبارات التوازن حتى شكلياً، فهو يدين “الهجوم الإرهابي” على الكنيس باسم الإمارات، ويعرب عن “استنكارها الشديد لهذه الأعمال الإجرامية، ورفضها الدائم لجميع أشكال العنف والإرهاب التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار وتتنافى مع القيم والمبادئ الإنسانية”.
نشير هنا إلى أن رفض “جميع أشكال العنف والإرهاب التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار” تدفع للتساؤل: أمن واستقرار من؟ وبما أن السياق في البيان هو إدانة عمل مقاوِم، يصبح من الواضح أن الحديث يتعلق بأمن الاحتلال واستقراره. كما أن الصيغة توحي أن العنف والإرهاب اللذين يكرسان الأمن والاستقرار، أي الاحتلال، أو لا يزعزانه على الأقل، ليسا مدانين.
هل يحمّل هذا التأويل بيان الخارجية الإماراتية أكثر مما يحتمله نصه؟ دعونا نتابع ما جاء فيه، إذ تعرب الوزارة عن “خالص تعازيها للحكومة “الإسرائيلية” وشعبها الصديق ومواساتها لأهالي وذوي الضحايا جراء هذه الجريمة النكراء، وتمنياتها بالشفاء العاجل لجميع المصابين”!
هذا كلامٌ واضحٌ لا يحتاج إلى تأويل أو تحليل نص يؤكد استنتاجنا أعلاه، إذ إنه يعد حكومة الاحتلال وشعبها صديقين (والاحتلال ليس حكومةً فحسب) ويواسيهم إلخ… فكيف يكون الاحتلال صديقاً لدولة عربية؟!
نقارن ذلك باللهجة “الحيادية” لبيان الخارجية الإماراتية الذي يدين اقتحام مخيم جنين، كما ورد في موقعها: “أدانت دولة الإمارات اقتحام القوات “الإسرائيلية” مخيم جنين الفلسطيني، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى”، من دون اعتبار ذلك جريمة وشكلاً من أشكال العنف والإرهاب، ولا اعتبار الجهة التي تقوم به احتلالاً، ولا اعتبار “القتلى” شهداء.
يكمل البيان: “ودعت وزارة الخارجية والتعاون الدولي في بيانٍ لها السلطات “الإسرائيلية” إلى خفض التصعيد وعدم اتخاذ خطوات تفاقم التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة”. ونعود للتساؤل هنا: ماذا يعني “خفض التصعيد” في هذا السياق، وماذا تعني المطالبة بـ”عدم اتخاذ خطوات تفاقم التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة” سوى الخوف على الاحتلال من ردود الفعل، والتي جاءت سريعاً، فأدانتها الخارجية الإماراتية “بشدة”، كما لم تُدِن اقتحام المخيم أو غيره من جرائم الاحتلال؟!
موقف الخارجية السعودية والبحرينية
أصدرت الخارجية السعودية بياناً بعد عملية العلقم يدين “كل استهداف للمدنيين”، ويؤكد “على ضرورة وقف التصعيد وإحياء عملية السلام وإنهاء الاحتلال”. والمفارقة هنا أن الحديث عن احتلال، ولو في حدود الأرض المحتلة عام 67 فحسب، ينفي الصفة “المدنية” عمن استهدفتهم عملية العلقم، لأنها وقعت شرق القدس المحتل عام 67، فهم محتلون إذاً، وينطبق عليهم موقف “إنهاء الاحتلال” حتى لو افترضنا جدلاً تقزيم فلسطين إلى “أرض محتلة عام 67″، وهو ما لا يمكن أن يقبله منطق قومي أو وطني أو إسلامي أو تحرري. ويذكر، للأمانة، أن بيان الخارجية السعودية عن اقتحام مخيم جنين تضمن إدانة شديدة وواضحة.
أدانت مملكة البحرين، كما جاء في بيان في موقع الخارجية البحرينية الإلكتروني، “الهجوم الإرهابي الذي وقع بالقرب من كنيس يهودي في مدينة القدس، وأسفر عن مقتل وإصابة عدد من الأشخاص”. ويذكر أن الخارجية البحرينية أدانت هجوماً فلسطينياً على كنيس في حي “هارتوف” غربي القدس عام 2014 قضى فيه 6 أشخاص والمهاجمان، قبل 6 سنوات من توقيع الاتفاقيات “الإبراهيمية”. وأدانت السلطة الفلسطينية أيضاً تلك العملية التي نفذها البطلان غسان وعدي أبو الجمل وقتها.
وفي سياق عملية العلقم في “النبي يعقوب” التي عدتها “إرهابية”، أكدت الخارجية البحرينية في بيانها “ضرورة اتخاذ الخطوات العاجلة والفاعلة لوقف حالة التصعيد الخطيرة والمدانة التي ذهب ضحيتها مدنيون فلسطينيون و”إسرائيليون” “، مجددةً “موقفها الثابت والرافض لأعمال العنف والإرهاب بجميع صورها وأشكالها، داعية إلى عدم التصعيد وتوفير الحماية للمدنيين، وتهيئة الأجواء المناسبة لإحياء عملية السلام…”.