مقابلة خاصة مع الشهيد القومي العروبي طارق عزيز في بغداد عام 2002

June 5th 2015 | كتبها

Aziz_tarek

مقابلة خاصة مع الشهيد القومي العروبي طارق عزيز في بغداد في 29/9/2002 سبق أن نشرت في “الصوت العربي الحر” في 4/10/2002.

رابط المقابلة:
http://nointervention.com/archive/Iraq/gov/AzizInterview.20021004.htm#interview

حوار خاص لرئيس تحرير مجلة “الصوت العربي الحر” إبراهيم علوش مع الأستاذ طارق عزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء، عضو مجلس قيادة الثورة، وسابقا وزير الخارجية لمدة طويلة:

تم هذا اللقاء في مبنى رئاسة الوزراء في بغداد يوم 29 أيلول/ سبتمبر 2002 ، وغطى محاور متنوعة: من المنطق العراقي في القبول بعودة المفتشين الدوليين دون قيد أو شرط، إلى الاستراتيجية العسكرية العراقية في المواجهة المقبلة مع أمريكا، إلى قضية الديموقراطية في العراق، إلى ملف أبو نضال، إلى الموقف من السلطة الفلسطينية وياسر عرفات، إلى بعض المسائل الفكرية. وإذا كان الأستاذ طارق عزيز معروفاً بحنكته السياسية وذكائه وقدرته الفذة على التعامل مع وسائل الإعلام والآلة الديبلوماسية، فإنه لم يكن دون ما يعرف عنه عامةً فيما يلي. ولكن الحوار التالي كان يهدف إلى إماطة اللثام عن المنهج والطريقة، أي عن ما هو أبعد من السبق الصحفي المتعلق بالحدث الآني. ومن هنا، جاء هذا الحوار ليركز على الكليات، لا على الجزئيات. وقد مثّل الصوت العربي الحر فيه د. إبراهيم ناجي علوش.

الصوت العربيّ الحرّ: الأستاذ طارق عزيز، قرار إعادة المفتشين كان قراراً لا ينسجم مع مصلحة العراق ومصلحة العرب، بمعنى أنّه كان من الواضح أنّ المفتشين منهم من اعترف أنه عميل، وكان يتآمر مع الصهاينة والأمريكيين، وهناك أرشيف صحفي في هذا المجال. كما أنّ العراق كان يطلب أن تُربط عودة المفتشين برفع الحصار وبتسوية ما [لكل وضع] أسلحة الدمار الشامل في المنطقة. بالرغم من ذلك، وجدناكم قد وافقتم على قرار عودة المفتشين.
طبعا هذا حدث بعد أيام معدودة من تغيير بعض الدول العربيّة لموقفها وقولها أنها مستعدة أن تشارك بالعدوان لأن “ليس لديها خيار آخر” أو ما شابه. هل تعتقدون أنّ قبولكم بالقرار سيؤدي إلى لجم العدوان أو أن هكذا قرار سيؤدّي إلى عدم اعتداء الولايات المتحدة وبريطانيا والصهاينة على العراق؟ أم أنه تأجيل للعدوان وكسب للوقت وكشف للأوراق أكثر، حتى بالنسبة للذين يدّعون أنّ العراق كان لديه أسلحة دمار شامل؟
طارق عزيز: نحن ليس لدينا أوهام حول نوايا الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، كحركة عالمية وككيان في الأرض المحتلة. ليس لدينا أوهام. ولكن، في أيّ معركة تخوضها، لا بدّ أن تتخذ الخطوات التي تقلل من عدد الأعداء أولاً، وتساعدك على أن تكسب أصدقاء. نحن حللنا الموقف تحليلا عميقا.
التأييد للعدوان الأمريكي في العالم وفي المنطقة محدود جداً. ليس هنالك طرف عربيّ أو أجنبيّ، عدا الكيان الصهيوني، وعدا الحكومة البريطانية، مشخّصة في بلير ومجموعته، [عدا هؤلاء] لا أحد يريد هذا العمل العدوانيّ العسكريّ على العراق. الكل يخشون النتائج التي سيترتب عليه.
الصوت العربيّ الحرّ: خاصة وأنهم يطرحون علنا مسألة إعادة رسم خرائط المنطقة.
طارق عزيز: نعم، بالضبط. لذلك، نحن قلنا أننا إذا اتخذنا هذه الخطوة، فإننا سنقوّي موقف الذين لا يريدون العدوان، ويجعلنا في وضع سياسيّ مريح…مريح. إننا نتخلص من الضغوط، لأنّ الضغوط بدأت تأتينا من كل حدب وصوب: “يا إخوان، أرجوكم، تحمّلوا عودة المفتشين حتى تتجنبوا الحرب”. نحن نعرف أنّ هذا القرار قد لا يوقف الحرب أو يوقف العدوان. نعرف ذلك. ومع ذلك أخذنا هذا القرار. ولكن الآن نستطيع أن نقول أنه في حالة حصول العدوان، سيكون الموقف السياسي المعادي للعدوان أقوى مما لو حصل دون اتخاذنا قراراً كهذا.
هناك ضعفاء بسهولة يلقون اللوم على العراق. يقولون: “العراق متعصّب… العراق متشدد… لا يسمع النصيحة… الخ…”. وهذا الموقف يأتيهم ذريعة للتنصل من واجباتهم، سواء كانوا عرباً أم أجانب. نحن لدينا أصدقاء أجانب من المفترض أن يتحملوا مسؤولياتهم، القانونية أولاً، وفق القانون الدوليّ، ويتحملوا مسؤولياتهم إزاء بلد كان صديقاً لهم، مثل روسيا. فيأتي الضعيف في روسيا ويقول: “نحن نصحنا العراقيين ولكنهم كانوا معاندين. لم يتصرفوا بالحكمة المطلوبة، وبالتالي، نسكت عن العدوان”. هذه خسارة، أما العدوان فمن المحتمل أن يقع. وإذا لم يقع، فلصمود العراق أولاً، لشعور المعتدي بأنّ مغامرته ستكون باهظة التكاليف. وأنا أقول لك، تحليلي الشخصي أنّ العدوان مقرّر منذ زمن، ولكنّهم يؤجلون ساعة الصفر، إذا صحّ التعبير، لأنهم كلما تعمّقوا في دراسة الحالة العراقية، كلما وجدوا مصاعب أكثر أمامهم، ويحاولون أن يعالجوا هذه المصاعب، ولكنّهم لا يحققون نجاحاً.
سأعطيك مثالا جوهرياً: جورج بوش ربط العدوان على العراق بتغيير النظام. ولكنهم، عندما يبحثون عن كيفية تغيير النظام، يكتشفون أنّ هذا الهدف إما مستحيل، أو على أقل تقدير باهظ التكاليف، ومعقّد جداً وغير مقنع لمن يشترك معهم. حتى البريطانيين، وأنا لا أقتنع بما يقولونه، ولكنهم يقولون أننا استطعنا الآن أن نقنع بوش بأنّ العمل العسكريّ ضدّ العراق يجب أن لا يكون شعاره تغيير النظام. وهذا يأتي، باعتقادي وتصوّري، لأنّ البريطانيين أكثر معرفة بالوقائع والحقائق من هذه الإدارة الغبية في أمريكا. هي عدوانية، ولكنها في الوقت نفسه هي إدارة غبية، ولا تعرف الحقائق، سواء في العراق أو في الوطن العربيّ.
هذه هي الأسباب التي جعلتنا نأخذ هذا القرار. في الوقت نفسه، نحن سنسعى لأن نوضّح موقفنا يوميا للعالم. عندما سيأتي المفتشون، سيقومون بأنشطة، ربما سيقومون بأنشطة سيئة…
الصوت العربيّ الحرّ: هذا أكيد…
طارق عزيز: لكننا سنفضحها. ليس بمذكرات إلى مجلس الأمن، كما كنا نفعل في السابق، وإنما سنكشفها أما الرأي العام العربيّ والدوليّ. وهناك الكثير الآن من المهتمين الذين سيراقبون الموقف بشكل دقيق جداً.
الصوت العربيّ الحرّ: لكن أستاذ طارق، أريد أن أقول لك شيئين من المؤكد أنّك تعرفهما، ولكنّي أحب أن أسمع تعليقك عليهما.
أولاً، هناك قانون صادر عن الكونغرس الأمريكي عام 1998 ينصّ حرفيا، وهذا الكلام في 1998، على ضرورة تغيير النظام واتخاذ الإجراءات المالية والتنظيمية اللازمة للقيام بذلك. ثمّ هناك الورقة التي صدرت عام 1996 بعنوان Clean Break التي تتحدث عن الأمر نفسه.
أعتقد أنّ المصالح الاستراتيجية للإمبريالية والصهيونية في هذه المرحلة، أصبحت تقتضي تفكيك هذه المنطقة، وهم يقولون ذلك علناً، فلم يعد هذا مجرد تحليل..
طارق عزيز: بالضبط…
الصوت العربي الحر: إذن، هل تعتقد أنّ هذه الإجراءات [عودة المفتشين] حتى لو أجّلت العدوان، في النهاية، ستنهي الصدام مع الإمبريالية؟
طارق عزيز: لا، أنا قلت لك، نحن ليس لدينا أوهام. ولكن في أي معركة تخوضها يمكن أن تقدّم بعض التنازلات غير الجوهرية من أجل كسب موقف سياسيّ. عودة المفتشين إلى العراق لن تزعزع نظامنا. لن تؤدي إلى تخلينا عن كل الاستعدادات اللازمة لمواجهة العدوان عندما يقع. ولكنها ستعطينا فرصة سياسية أفضل من الوضع الذي كنا عليه قبل اتخاذنا هذا القرار.
نحن ليس لدينا أوهام، وأنا تحدثت في الندوة* أنّ الهدف [الأمريكي في المنطقة] هو سايكس-بيكو جديد، بدءاً في العراق، وانتهاء بدول أخرى، ومنها الأردنّ، ومنها السعودية، ودول أخرى في المنطقة. والمعادلة، حتى مع سايكس-بيكو [القديم]، التي اشتغلت لمصلحة الكيان الصهيونيّ والإمبريالية على مدى القرن الماضي، لم تعد اليوم تشتغل لمصلحة الهدف الإمبرياليّ والوجود الصهيونيّ في فلسطين. لقد أصبحت تشكل نوعا من الخطر، رغم ضعف الأنظمة المحيطة ب “إسرائيل” والأنظمة التي عقدت اتفاقيات مع “إسرائيل”. رغم حالة الضعف فيها، هذه الحالة أصبحت تشكّل خطراً. فاليوم مثلاً، عدد العرب الذين يحملون شهادات عليا أكثر من عدد سكان “إسرائيل”، ولا يحمل كل سكان “إسرائيل” شهادات عليا.
هذا تحوّل نوعيّ. صمود العراق وصمود المقاومة الفلسطينية، الانتفاضة الفلسطينية، خلق تحوّلاً نوعياً سياسياً ونفسياً لم يكن موجوداً في السابق. الآن، المواطن العربيّ يثق ثقة عميقة بأنّ مقاومة الإمبريالية والصهيونية ممكنة، وأنها لن تؤدي إلى فنائه.
نعم، هناك تضحيات وشهداء، ولكنّ هذا لن يؤدي إلى فناء الأمة. في عام 1990/1991، كان كثيرون يتصوّرون أنّ أمريكا عندما تقوم بالعدوان على العراق أنّ العراق سيفنى، ولن يبقى عراق على وجه الكرة الأرضية. صمود العراق أثبت أنه ستكون هناك تضحيات وخسائر، ولكنّ بإمكان العراق كبلد وكشعب وكقيادة أن يبقى.
الصوت العربيّ الحر: ما دمنا متفقين على مبدأ أنّ الإمبريالية والصهيونية لها مصالح استراتيجية تقتضي القيام بالعدوان، بغضّ النظر عن التوقيت، فإنّ هذا يطرح مسألة استعداد العراق للضربة. ما أريد أن أقوله هو أنّ خوض مواجهة تقليدية مع قوى متفوقة تكنولوجياً ونووياً وعسكرياً قد لا يمثل الطريقة الأنسب لخوض مواجهة في هذه الحالة. يعني، هناك من يشير إلى تجربة جنوب لبنان ومخيم جنين مؤخراً، وغيرها، للتأكيد على مبدأ أنّ خوض المعارك مع قوة متفوقة تقليدياً يكون باستخدام وسائل غير تقليدية، مثل حرب العصابات والعمليات الاستشهادية. فما هو تعليقك على ذلك؟
طارق عزيز: نحن سنقاتل داخل بلادنا. ولن نقاتل المعتدين في الأرض المكشوفة. أحدهم قال إنّ الفيتناميين كان لديهم غابات، فقلت نحن لدينا مدن، ومدننا هي الغابات.
الصوت العربيّ الحرّ: غابات إسمنتية Jungles of Concrete؟!
طارق عزيز: تمام! ونحن أعلنا هذا. حتى السيد الرئيس صدام حسين قال نحن سنقاتلهم في المدن. هم هدفهم تغيير النظام. لا يستطيعون أن يغيّروا النظام بالرموت كونترول، بالصواريخ والطائرات. نعم يستطيعون أن يوقعوا خسائر في الأبنية والمنشآت، ولكن، لا يستطيعون أن يزعزعوا النظام بالطائرات والصواريخ.
إذن، لا بدّ، إذا أرادوا فعلاً أن يحققوا هدفهم، وهدفهم الكامل هو تقسيم المنطقة والسيطرة على النفط، لا بدّ أن يحتلّوا الأرض. عند ذلك، ستبرز نقاط القوة عندنا، ونقاط الضعف عندهم.
الصوت العربيّ الحرّ: سؤال يطرحه عدد من المؤيّدين للعراق خارج العراق يتعلّق بموضوع الديمقراطية. طبعاً، نحن ندرك أنّ الولايات المتحدة تستخدم خطاب حقوق الإنسان والديمقراطية كحجة للتدخل سياسياً وعسكرياً في أماكن مختلفة من العالم، وليس فقط في العراق. ولكن، بين القوى الموجودة خارج العراق، من العراقيين، نجد أنّ هناك نوعين: هنا النوع المتعاون مع ال CIAوغيره، وهذا النوع لا يطلب أحد عاقل من العراق أن يتعاون معه، ولا أعتقد شخصياً أنّ الخيانة هي مجرّد وجهة نظر، وهذا رأي الكثيرين، من يضع يده في يد الCIA كائناً من كان، ليس صاحب وجهة نظر، بل خائن. ولكن، هناك بالمقابل بعض القوى الموجودة في سوريا، على سبيل المثال، من العراقيين، وأماكن أخرى… يعني نلتقي مع بعض العراقيين الذين يقولون ويعتبرون أنهم أيضا ضدّ الإمبريالية وضدّ المخططات الأمريكية على العراق، ولكنّ علاقتهم مع النظام في العراق ليست علاقة جيدة. ألا تعتقدون أنّ مثل هذه القوى يجب أن تُعطى فرصة للمشاركة في صدّ العدوان على قاعدة العداء للأمريكان؟ وليس مطروحاً هنا بالطبع الفهم الليبرالي للمسألة. وألا تعتقدون أنّ المطلوب هو القيام بمبادرات باتجاه هذه المجموعات، مثل المبادرات التي تمت باتجاه قوى معادية للعراق سابقاً، مثل الأنظمة في السعودية والكويت التي خاضت عملياً عدواناً ضدّ العراق؟ [السؤال يدور حول] مسألة تماسك الجبهة الداخلية على قاعدة العداء للأمريكان: هل تفكّرون بهذا الاتجاه؟ أو هل تفكّر القيادة العراقية بهذا الاتجاه؟
طارق عزيز: منذ عام 1991 وحتى اليوم، كنا مستعدين للحوار مع أي شخص أو أية مجموعة تريد أن تتحاور معنا. أنا شخصياً أجريت حوارات مطولة مع شخصيات ماركسية وقومية وإسلامية. هنالك مشكلة لا بدّ أن أتحدّث عنها بصراحة. عندما يتحدّث معك أحد هؤلاء، إذا أراد أن يأتي إلى العراق، أو أن يعود إليه ويعمل مع العراق ومع بقية العراقيين، من موقعه هو وبحجمه هو، فالباب مفتوح له، ولا نجبره على أن يكون بعثياً وأن يتطابق معنا مائة بالمائة. ولكن، لأسباب أغلبها ذاتية، يأتيك شخص معارض، وطنيّ، لا شكّ في ذلك، ومعه مجموعة من الأشخاص، ويطلب توازنا في القوى هو لا يملكه. ولكن، عندما يأتي ويطلب أن يكون شريكاً للحزب في صنع القرار، وهو لا يملك قدرات التنفيذ وتحمل المسؤولية نفسها التي يملكها الحزب، يكون هذا طبعاً طلباً غير عقلانيّ. يعني، الآن مثلاً عندما نأخذ قراراً بمقاومة الإمبريالية، نستطيع أن نضع مليون مقاتل بعثيّ في الساحة، هو يستطيع أن يضع عشرين نفراً أو خمسين أو مائة أو ألفاً. ولكنّه يريد بذلك أن يأخذ سلطات صدّام حسين نفسها، وهو باني بلد وثورة ومجتمع وحزب. هذه مغالاة سياسية ذات طبيعة نرجسية. هذه هي الإشكالية.
الصوت العربيّ الحرّ: يعني هم يضعون ذلك كشرط للعودة والتعاون؟
طارق عزيز: كلا، يوجد قسم لا يضع شروطاً، وهؤلاء عادوا واشتغلوا في البلد، كل واحد حسب موقعه، في الجامعة، في الصحافة، في الفن.
الصوت العربيّ الحرّ: ولكن لا يوجد عندكم إشكال من حيث المبدأ، رسمياً؟
طارق عزيز: لا، ليس لدينا إشكال، فنحن لا نخاف من شيء. نحن الآن كحزب، فلنفترض أنّ نظامنا تحوّل إلى نظام ليبراليّ. طبعاً، هذا مجرّد افتراض. لو دخلنا الانتخابات، فنحن واثقين بأننا سنحصل على أكثر من ثلثي المقاعد في البرلمان. ليس لدينا إشكال، فحزبنا حزب كبير، صار له 34 سنة في السلطة، وقد خدم العراق. والعراقيون الذين أعمارهم من خمسين فما فوق، يعرفون ماذا فعل حزب البعث في العراق، وكيف كان وضع العراق المعاشيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والصناعيّ والزراعيّ في عام 1968، وكيف هو اليوم. هذا إنجاز الثورة. لذلك المواطن في القرية وفي الحيّ، سيختار البعثيّ الذي يترشّح لتمثيله.
الصوت العربيّ الحرّ: لكن، هل لديكم مشاريع بهذا الاتجاه في المستقبل؟
طارق عزيز: نعم، هذا ممكن. أيضاً، الديمقراطية يجب أن تنمو نمواً تدريجيا، ولكن شرطها أن تنمو في ظروف سلمية.
الصوت العربيّ الحرّ: نعم، يذكر هنا أنّ أمريكا نفسها في ظروف الحرب…
طارق عزيز: خلينا نشوف أمريكا: لم تقع عليها حرب، بل وقعت أحداث 11 أيلول، فخلقت جواً من التخويف والهاجس الأمني، بحيث قلّصت كل الحريات التي كانت تتفاخر بها على العالم. في كل الحروب… في الحرب العالمية الثانية، حزب العمال والمحافظين في بريطانيا شكّلوا حكومة واحدة بعد أن أبعدوا كل خلافاتهم الاجتماعية والسياسية والطبقية وغيرها، في سبيل مواجهة الحرب مع ألمانيا النازية.
هذه حقائق ذهبية في العالم. أما أن يأتي أحدهم في ظرف نحن نواجه فيه عدواناً محتملاً، ليطالبنا بصيغ وتطبيقات ليبرالية، فإنّ هذا غير ممكن، ولا هو حتى مطلب شعبيّ. ولكنّ، هناك حقيقة، عندما يسمون النظام في العراق بأنّه نظام ديكتاتوريّ أو فاشيّ أو نازيّ، نحن نعرف أنّ الحزب النازيّ فاز بالانتخابات في ألمانيا، أي أنه كان هناك حرية للأحزاب، ولما استلم السلطة، ألغى الأحزاب الأخرى وبقي وحده يحكم ألمانيا. هذا هو الديكتاتور. يعني، جاء في نظام ديمقراطي، وفي صيغ ديمقراطية، ثمّ ألغى الديمقراطية. أوغستو بينوشيه جاء بانقلاب عسكريّ على نظام ديمقراطيّ منتخب من الشعب.
حسن، النظام العراقيّ خلف لمن؟ النظام العراقيّ الذي [يمثله] حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ والرئيس صدام حسين، جاء بعد نظام الرئيس عبد الرحمن محمد عارف.
الرئيس عبد الرحمن محمد عارف كان هو وعشرة من الضباط يحكمون البلد فقط، ثم جاء حزب البعث، أولاً هو حزب وليس عشرة أشخاص، ولديه عقيدة وبرنامج. ثانياً، إذا حسبت عدد الذين يساهمون في صناعة القرار السياسيّ، سواء من الحزب أو النقابات أو الاتحادات أو من المجلس الوطنيّ ومجالس الشعب في القرية أو المدينة، ستجد أنّ عدد الذين يساهمون في القرار السياسيّ أصبحوا ملايين. هذا تطور ديمقراطيّ. نعم، هو ليس تطوراً ليبرالياً متكاملاً، ولكنه تطور ديمقراطيّ. وهذا يمكن أن يستمر أكثر. في النقابات مثلاً، الحزب لا يقدّم قائمة باسم الحزب، مع أنه يستطيع أن يفرض قائمة. ففي نقابة المحامين أو الأطباء مثلاً، لدينا أغلبية بعثيّة، فلو نزلت قائمة فقط من البعثيين لفازت بالأغلبية، ولكننا لا ننزل قائمة. يترشحون كأفراد فقط حتى نعطي مجالاً للمستقلّ أيضا أن يفوز لكفاءته الشخصية. وهذا تطور…
الصوت العربيّ الحرّ: حتى النموذج الليبراليّ ليس بالضرورة النموذج الأكثر ديمقراطية في العالم…
طارق عزيز: النموذج الليبراليّ ديمقراطيّ فقط في الشكل، ولكن في الواقع من الواضح أنّ الذي لا يمتلك المال ولا يسيطر على وسائل الإعلام التي يأتي بها المال، لا يفوز، ولو كان من أكثر الناس كفاءة وإخلاصا.
الصوت العربيّ الحرّ: وبالتالي، نحن نتحدّث عن ديمقراطية حقيقية…
الصوت العربيّ الحرّ: موضوع آخر يتعلّق بالوضع الفلسطينيّ. يُروّج في بعض الأوساط بأنّ ما حدث لأبي نضال كان محاولة من العراق أن يتخلّص من آثار أو أشياء يمكن أن تدينه. طبعاً، أنا أعرف، كما تعرف أنت، أنّ أبا نضال شخص قتل الكثير من الفلسطينيين، ومئات من جماعته، وأنه شخص قام بجرائم كبيرة بحق الشعب الفلسطينيّ وضد أفراد إما أن يكون قد اختلف معهم بالرأي، أو ضد أفراد وطنيين وثوريين. ولكن بالرغم من ذلك، ما هو ردك على الادعاءات هذه؟
طارق عزيز: ردّي أولاً أنه لم يكن هناك تركيز من قِبَل القوى التي تهدد العراق على شخص أبي نضال. أنت تعرف. التركيز الآن هو على المناضلين في فلسطين. أبو نضال كان في وقت من الأوقات اسمه يتردد كناشط في الحركة الفلسطينية، ولكن انتهى أبو نضال، وفي عملية الصراع العربيّ-الصهيونيّ، لم يعد له دور منذ أكثر من عشرين عام. إذاً، هو لم يكن قضية، ولم يكن هناك طلباً من أمريكا يقول: إما أن تسلّموا أبا نضال أو أن نضربكم. كلا. لم يكن هذا هو الوضع. أبو نضال أبعد من العراق عام 1983، بقرار من القيادة، لأنه بدأ يشتط، ونحن واجهناه. وأنا من الذين واجهوه. قلت له: أنت الآن تقتل من تكرهه، حتى ولو كان وطنياً، وحتى ولو كان فلسطينيا.
الصوت العربيّ الحرّ: وكان ردّه على ذلك أنه اتهمك شخصياً ببعض القضايا.
طارق عزيز: اتهمني أنا شخصيا، وأنا واجهته، بتوجيه من القيادة، بالحقائق. نحن ساندنا كل القوى الفلسطينية، ولا نزال نساندها. ولكن كنا دائما ننصحها ونصرّ على المحافظة على وحدة الشعب الفلسطينيّ وعلى وحدة المنظمات الفلسطينية. لم نشجع انشقاق واحد في أيّ حركة فلسطينية. أما أن تقتل أفراداً، لمجرّد أنك غاضب منهم ومختلف شخصياً معهم، هذا ما لا نرضه. الشيء الآخر هو أننا كنا في حالة حرب مع إيران. أبو نضال قام بعمليات في بلدان كانت صديقة لنا أثناء الحرب. وهذا خرق لمنطق الأخوّة والعمل المشترك ودون مسوّغ. فعندما يقوم بعملية في فرنسا، فرنسا ليست عدوة له حتى يقوم بعملية في فرنسا تصيب فرنسيين ولا تصيب الموساد. لذلك قلنا له: “يكفي، أخرج”. رجع بشكل متخفّي. نحن فوجئنا بوجوده. المخابرات الأردنية قالت لنا أنّ أبا نضال موجود في العراق، فقلنا لهم أنّ هذا غير صحيح. ثمّ تبيّن أنه جاء إلى العراق بجواز سفر مزوّر واختفى. لم نقم بشيء. عرفنا أنه موجود وقلنا له أهلاً وسهلاً كمواطن عربيّ أتيت للعيش هنا، فابقى في بيتك ولا تقم بأي نشاط يخلّ بأمن وسياسة البلد. ولكنه لا يستطيع. فقد أصبح لديه هوس obsession بالعمل الضار. يعني وُجِدت في بيته كمية من المتفجرات وأجهزة وغيره، فلمن كل هذه المتفجرات؟ وضدّ من؟ إذا كنت تريد أن تقاتل الكيان الصهيونيّ، تفضل، هذه فلسطين مفتوحة، اذهب وقاتل فيها. فإذن، صار سلوكه مهدداً للأمن الوطني والقومي دون أي غاية. الكفاح ليس نظرية تشبه [نظرية] الفن للفن. الكفاح هو سياق لتحقيق هدف. إذا كان العمل المسلّح والقتل والاغتيالات ليس لها هدف، فهذا عبث. لذلك، عندما لم يلتزم بتوجيهات وتعليمات الأجهزة المختصّة، واستمرّ بتصرّفات هوجاء، قررنا إحالته إلى المحاكمة، فانتحر. هذا هو ما حصل. والإمبريالية لم تشكرنا “لأننا خلصنا من أبي نضال”، لأنه لم يكن يهددهم أصلاً.
الصوت العربيّ الحرّ: طبعاً موقفكم واضح، وموقف حزب البعث واضح في حقّ دولة العدو بالوجود، وأنا أقرأ لك شخصياً تصريحات يرى المرء فيها وضوح موقفكم من كل الاتفاقات السياسية والتنسيق الأمنيّ مع العدو الصهيونيّ. بالرغم من ذلك، وعلى خلفية هذا الموقف السياسيّ، كيف يترجم هذا إلى دعم سياسيّ للسلطة الفلسطينية؟ الجميع يقدّر موقف العراق في فلسطين على مستوى شعبي كما في حالة مساعدة عائلات الاستشهاديين، ولكن على مستوى سياسيّ، كيف نوازن بين رفض التسوية [وبين] التنسيق مع قوى تسووية؟ ألا يحتاج هذا إلى تفسير؟
طارق عزيز: هنا، لا بدّ أن نكون دقيقين، وأن نتعامل مع هذا الموضوع بالريشة الدقيقة، وليس بالقلم العريض. نحن لم نعترف بالسلطة الفلسطينية رسمياً، ولم نتعامل معها كسلطة، ولكن نحن أبقينا صلاتنا مع ياسر عرفات بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس دولة فلسطين المعلنة في الجزائر، وكزعيم لحركة فتح فقط. أيّ وزير في السلطة الفلسطينية استقبلناه، اعتبرناه ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليس للسلطة. هذا من ناحية الشكل. من ناحية الموضوع، نحن لم نقدّم أيّ دعم للسلطة الفلسطينية، ولكنا استمرينا بدعم المؤسسات الفلسطينية، وهي ليست رسمية تماماً. في الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى المساعدات التي قدّمناها إلى الشعب الفلسطينيّ مباشرة والمعروفة، صارت هناك حاجة ماسة [للمساعدات] من قِبَل بعض أطراف السلطة. قالوا لنا: ليس لدينا رواتب، فأعطيناهم بعض المبالغ. قالوا إنّ لديهم عجزاً كبيراً جداً في ميزانية التعليم، فقدّمنا لهم مساعدة لميزانية التعليم، لحدّ الآن. في مناسبة أخرى، قال وزير الإسكان الفلسطينيّ أننا [العراق] ندفع مبالغ للذين هدّمت بيوتهم، ولكنّ وزارة الإسكان الفلسطينية ستقوم أيضا بإعادة بناء بعض مساكن عدد من الفلسطينيين، فتعاونّا معهم. وهذا هو الأمر.
الصوت العربيّ الحرّ: سؤال أخير فكريّ. سمعتك في افتتاح ندوة “الفكر القوميّ العربيّ – بداية قرن ونهاية قرن” في بيت الحكمة في صباح يوم 28/9/2002، واستمتعت بمحاضرتك. ولكنّك أشرت إلى مسألة في محاضرتك تتعلق بالصراع الطبقيّ، بالتحديد انتقدت أولئك الذين حاولوا في الماضي أن يطرحوا الصراع الطبقيّ كبديل لقضية الوحدة والعمل من أجلها. ما أريد أن أسأله [هو]: هل نستطيع أن نفصل فعلاً ما بين الاثنين؟ الإمبريالية عندما أتت إلى وطننا وقسمته وضعت ضمن حدود كيانات سايكس-بيكو، وتعاملت أساساً، مع عائلات إقطاعية. ومن رحم هذه العائلات الإقطاعية، خرج الكمبرادور، وهم الوسطاء الاقتصاديون بين الغرب وبيننا، يصدّرون المواد الخام ويستوردون السلع. ثمّ نشأت لدينا أشكال أخرى من الكمبرادور، مثل الكمبرادور السياسيّ، الذي يسترزق من خلال القيام بدور سياسيّ إقليميّ لمصلحة الإمبريالية. ثمّ هناك الكمبرادور الثقافيّ، الذي يسترزق من خلال القيام بدور ثقافيّ لمصلحة الإمبريالية.
وإذا أخذنا الإصلاح الزراعيّ، أو تأميم النفط، على سبيل المثال، لوجدناهما محاولة لاحتواء الشرائح الاجتماعية الداعمة للإمبريالية محلياً، بقدر ما هما حاجة قومية وخطوة وحدوية. فكيف نستطيع أن نفصل ما بين الصراع الطبقيّ والوحدة، إذا كان وجود الإمبريالية في بلادنا يقوم على شرائح اجتماعية مصالحها الاقتصادية ترتبط بالغرب، وتنشر على الهامش دعاية فكرية وسياسية تكسب من خلالها؟ فهل نستطيع أن نفصل ما بين الاثنين؟
طارق عزيز: أولاً أنا بعثيّ. والبعثيّ هو اشتراكيّ. والاشتراكيّ ينحاز إلى الطبقات الكادحة ضد الطبقات المستغِلة. ولا يكون المرء اشتراكياً إلا إذا كان مؤمنا بذلك. ولكنّ المعركة الحقيقية في الوطن العربيّ، كانت وما تزال هي معركة التحرر الوطنيّ. في معركة التحرر الوطنيّ، ليس الصراع الطبقيّ هو الهدف الأساسيّ. ولكن إذا، في خلال معركة التحرر الوطنيّ ضد الإمبريالية وضد الكيان الصهيونيّ، في خضمّ هذه المعركة، إذا ظهرت فئات أو طبقات متحالفة مع الإمبريالية، نعم نضعها على قائمة الأعداء. لكن، إذا كان هناك تاجر أو أيّ شخص ثريّ أو إقطاعيّ، رغم أنه لم يعد هناك إقطاع في بلادنا، هو ليس عدواً للحركة الوطنية، فإننا لا نعتبره عدواً لمجرد أنه ثريّ.
أنا هنا لا أتبنّى الماركسية بمعناها المطلق، ولكن أتبنّى المفهوم الاشتراكيّ الثوريّ القوميّ. كل من يقف مع الحركة الوطنية الثورية المعادية للإمبريالية والصهيونية، هو حليف.
الصوت العربيّ الحرّ: ولكن، ألا ينتج عن ذلك أنّ الشرائح الاجتماعية التي تشعر أنّ مصالحها مهددة من هذه الاشتراكية ستقف ضدها؟
طارق عزيز: إذا وقفت ضدها نقاتلها. أنا لا أتحدّث عن شريحة بالمعنى الطبقيّ، بل عن أفراد، أيّ فرد يمكن أن يكون غنياً ولكن وطنياً مخلصاً [في الوقت نفسه].
الصوت العربيّ الحرّ: هذه قضية أخرى بالتأكيد…
طارق عزيز: الوطنيّ الثريّ أنا لا أعتبره عدواً ولا أحاربه، ولكن إذا كانت هناك فعلاً طبقة…
في بلادنا، لا توجد طبقات بالمعنى الصرف الذي تحدّثت عنه الماركسية، إنما يوجد أفراد وشلل وشرائح. وبين هذه الشرائح يوجد وطنيّون مخلصون لبلادهم يساعدون الحركة الوطنية، بقدر ما يستطيعون. وبينهم أيضاً خونة يربطون مصيرهم ومصالحهم بالإمبريالية والصهيونية. هؤلاء نعرفهم ونعرف تركيبتهم ونحاربهم. وهذا ما فعلناه في العراق. ونحن الآن، البرجوازية الوطنية التي تشتغل في الإطار الوطنيّ في ظل النظام الاشتراكيّ لا نحاربها، بل نساعدها في بعض ميادين العمل الخاصّ. ولكن كل من يقف ضدّ الاشتراكية، أو يتواطأ مع الإمبريالية، نحاربه.

[أخي القارئ، تذكّر أنّ التجار في العراق، يلعبون دوراً مهماً في كسر واختراق الحصار، حتى وهم يسعون إلى تعظيم أرباحهم – الصوت العربيّ الحرّ].

 

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=1118009684882932&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=1&theater

الموضوعات المرتبطة

فيديو: إلى أين تتجه الأمور في غزة ؟ د. إبراهيم علوش في مقابلة مع فضائية القدس اليوم التي تبث من غزة

فيديو: إلى أين تتجه الأمور في غزة ؟ د. إبراهيم علوش في مقابلة مع فضائية القدس اليوم التي تبث من غزة     فيديو: إلى أين تتجه الأمور في غزة ؟ د. إبراهيم علوش في مقابلة مع فضائية القدس اليوم [...]

فيديو: زيارة الرئيس الأسد إلى الصين واللجنة العربية وسورية

فيديو: زيارة الرئيس الأسد إلى الصين واللجنة العربية [...]

حديث في مصطلح “الوحدة الوطنية الفلسطينية” – فيديو

حديث في مصطلح "الوحدة الوطنية الفلسطينية" - [...]
2024 الصوت العربي الحر.