الجزء الثامن: المفهوم التاريخي لتسمية العرب وموطنهم/ د. أحمد داوود

January 19th 2010 | كتبها




سلسلة التثقيف القومي

الجزء الثامن: المفهوم التاريخي لتسمية العرب وموطنهم/ د. أحمد داوود

لائحة القومي العربي arab_nationalist@yahoogroups.com

– الخليج العربي كان “جنة العرب” قبل أن تغمره مياه البحر مع ذوبان كتل العصر الجليدي الأخير قبل آلاف السنين

– الوجود العربي في جنوب العراق وضفتي الخليج العربي والبحرين مستمر دون انقطاع منذ 14 ألف عام قبل الميلاد

– شبه الجزيرة العربية كانت خضراء قبل تصحرها، وفيها أنتج الإنسان العربي أسس الحضارة البشرية

تجدون الأجزاء السابقة من سلسلة التثقيف القومي على الرابط التالي:

http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/SlsletALTathkeefALKawmy/index.htm

مقدمة من المحرر:

لطالما شكك بعض السطحيين والمغرضين بفكرة الهجرات الكبرى من شبه الجزيرة العربية على مدى آلاف السنين باتجاه بلاد الشام والعراق ومصر ووادي النيل والمغرب بذريعة أن المناطق المقفرة الجرداء لا تحتمل مواردها نشوء فوائض سكانية ضخمة إلى درجة تجتاح معها المناطق الخصبة الخضراء وتسيطر عليها، ويزعم هؤلاء أن منطق الأشياء يتطلب أن يتكاثر السكان أكثر في المناطق الخصبة، لا الصحراوية، وبالتالي، يرفض هؤلاء المشككون فكرة الهجرات الكبرى من شبه الجزيرة العربية إلى بقية الوطن العربي، وينتج عن ذلك الموقف طبعاً اعتبار الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي احتلالاً، واعتبار كل الوجود العربي خارج الجزيرة العربية احتلالاً أيضاً، وهو المنطق الذي بينا تهافته في الأجزاء السابقة من سلسلة التثقيف القومي، كما بينا أن البربر والأقباط والسريان وغيرهم من الأقوام المتواجدة خارج شبه الجزيرة العربية هي أقوام عربية قديمة توجد بينها وبين العرب المحدثين روابط لغوية وعرقية وتاريخية وثقافية عميقة وعريقة.

أما في هذا الجزء من سلسلة التثقيف القومي، فإن د. أحمد داوود من سوريا يكشف فيما يكشفه لغز الهجرات الكبرى من شبه الجزيرة العربية باتجاه مشرق الوطن العربي ومغربه وباتجاه وادي النيل… فشبه الجزيرة كانت قبل ألفيات عدة شديدة الخصوبة تجري فيها الأنهار وتتساقط عليها الأمطار على مدار السنة، وتمتد فيها المراعي والغابات، وكان ذلك في الوقت الذي امتد فيه الجليد القطبي حتى وسط فرنسا وما يعادلها في خطوط العرض، وبالتالي تشكلت في شبه الجزيرة العربية  الكتلة البشرية العربية الرئيسية وأنشأت أسس الحضارة البشرية هناك، ومن الخليج العربي قبل أن تغمره مباه البحر ذهب السومريون باتجاه العراق مثلاً، ومع ذوبان الجليد وانتهاء العصر الجليدي الأخير، وبدء تصحر الجزيرة العربية الذي لم يكتمل حتى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد تقريباً، بدأت الموجات العربية تجد نفسها مضطرة للبحث عن أراضٍ أكثر اخضراراً، كانت قبلها مكتظة بالغابات التي نجد القلة القليلة الباقية منها في جبال المغرب العربي وجبال بلاد الشام…  فعلم المناخ والتقلبات المناخية باتجاه التصحر التدريجي هي التي تفسر الهجرات العربية الكبرى من شبه الجزيرة العربية باتجاه بقية الوطن العربي على مدى آلاف السنين.

النقطة المهمة الأخرى في مادة د. أحمد داوود أدناه تتعلق بالجهود الحثيثة المبذولة من قبل جهات عدة، غربية خاصةً،  لطمس الهوية العربية الموحَدة لبلادنا من خلال تفتيتها إلى عشرات الهويات الفرعية (كالآشورية والبابلية والسريانية والفينيقية والقبطية والبربرية الخ…) التي يجمعها قاسم مشترك واحد بالأساس هو العروبة.  وترتبط محاولة طمس الهوية الحضارية العريقة للمنطقة أيضاً  بمحاولة إلغاء المساهمة العربية الجوهرية في تأسيس الحضارة البشرية من أجل نسبتها قسراً  للإغريق والرومان، وبمحاولة فرض مركزية الحضارة الغربية في التاريخ البشري والفكر الإنساني، في الوقت الذي بنى فيه الإغريق والرومان على الإنجازات العربية أصلاً، وكان العرب القدماء هم الذين نقلوا حضارتهم غرباً باتجاه اليونان وشرقاً باتجاه الهند…

وثمة نقاط كثيرة أخرى في مادة د. داوود أدناه تتحدث عن نفسها بنفسها، لكن يكفي أن نقول أنها بمجموعها تترك كل من يقرأها حتى النهاية فخوراً بأصله وبعروبته في وجه محاولات مسخ هذه العروبة وتقزيمها.

أخوكم إبراهيم علوش

– (مقتطفات من الفصل الأول من كتاب “العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود” للدكتور أحمد داوود، الصادر في دمشق، سوريا، كانون الثاني 1991)

فقرات من مقدمة الكتاب (بتصرف):

لقد صار من الواضح والثابت اليوم أنه لم يلق تاريخ أمة من الأمم أو شعب من الشعوب من ضروب المسخ والتشويه والتزوير مثل ما لقيه تاريخ الشعب العربي.  وأكثر من هذا نقول: إن تاريخنا العربي، الذي هو دونما أية مبالغة، تاريخ التمدن البشري على هذا الكوكب، يكاد يكون الوحيد الذي تضافرت عليه جهود الدول الكبرى بكل مؤسساتها وإمكاناتها من أجل مسخه وتقزيمه.  وإن مثل ذلك التزوير الهائل لم يكن ليتم بالصورة التي هو عليها اليوم لولا أن واقعاً كارثياً تعيشه مؤسساتنا الثقافية والتعليمية في الوطن العربي منذ بداية عصر الاستعمار وحتى اليوم.

لقد عمدت الدول الاستعمارية إلى إحداث مؤسسات استشراقية… بترت العربي عن ماضيه الحضاري المجيد، الأساس الحقيقي الراسخ الذي قامت عليه حضارات كل الأمم الأخرى فيما بعد، وحولته إلى وجود هامشي بدائي، متخلف، متطفل منذ القدم على حضارات الآخرين.

وصار على العربي اليوم، لكي يعرف لغته وتاريخه، أن يذهب إلى معاهد وجامعات تلك الدول التي عممت ورسخت ذلك التزوير، فيجري تلقينه تلك الصورة الشوهاء المقزمة لتاريخ شعبه، ثم يتحول في وطنه إلى مجرد وسيط يحصر دوره في نقل تلك الصورة وترسيخها في أذهان الأجيال العربية المتعاقبة.

إن بلداً عربياً واحداً لم يأخذ على عاتقه، حتى هذا اليوم، إنشاء معاهد مركزية قومية حقيقية لتدريس اللغة العربية القديمة بكافة لهجاتها وكتاباتها وبتسميتها الصحيحة، فيتولى خريجوها قراءة هذا التراث الزاخر الهائل الذي تزخر به الأرض العربية.  لقد بقيت هذه المهمة حتى اليوم منوطة بالأجانب وحدهم، بمن فيهم اليهود الصهاينة.  إن دور مديريات الآثار لا يتعدى، في معظمه، تسلم بعض ما يجود به الدارسون الأجانب، لتوزعها، دونما أي بحث أو مناقشة أو دراية، على معاهد التعليم ومؤسسات الإعلام الثقافة والسياحة، وكثيراً ما يستبق القائمون على الآثار نتائج الاستكشاف، ليقرروا نتائج وأحكاماً ومقولات هي في صميمها صهيونية أو مغرضة، كما حدث في عملية إطلاق تسمية “الحثية” على الآثار المكتشفة في شمال سوريا دون أي مستند تاريخي أو آثاري، وكما أطلقت تسمية “سيميرا” التوراتية على تل الكزل جنوب طرطوس قبل استكشافه وجرى تعميم ذلك على الكتب الجامعية بتدبير محكم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى…

إن المكتشفات الآثارية ما تنفك تؤكد يوماً بعد يوم أن تاريخ الوطن العربي هو تاريخ التمدن البشري على هذا الكوكب.  فقد أثبتت، بما لا يبقي مجالاً للشك، أن إنساننا كان أول من عرف الزراعة وفن البستنة، وأول من بنى المدن، وشيد الحصون والقلاع، وأول من عرف المعدن واستخدمه وأتقن فن التعدين وصناعة الأدوات، وأول من صنع الفخار والدولاب، وأول من عرف وأسس علوم الطب والفلك والحساب والهندسة والجبر والمساحة، ووضع المقاييس والمكاييل والموازين، وأول من اكتشف، ومن عهد بابل، أن الأرض كروية، وأنها هي التي تدور حول الشمس، فدرس بناءً على ذلك ظاهرة الخسوف والكسوف، ووضع المواقيت والتقاويم لأول مرة، ووضع النظام الستيني منذ عهد بابل الذي ما زال مستخدماً حتى اليوم، فقسم بموجبه النهار إلى 12 ساعة، والساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية.  وأول من صنع السفن وأبحر في البحار والمحيطات، وأوجد خطوط التجارة الدولية في البر والبحر، ودار حول رأس الرجاء الصالح وبلغ الشواطئ الأمريكية منذ الألف الثاني والأول قبل الميلاد (أي قبل كريستوف كولومبوس بما ينوف عن ألفين وخمسمائة عام).  وأول من أبدع عقيدة الخصب الزراعية بكل تقاليدها وتعاليمها وآدابها وفنونها، وأول من أبدع عقيدة التوحيد، وأول من عرف الكتابة واخترع الأبجدية، وصنف الكتب والمكتبات، وبنى المدارس، ووضع القواميس منذ الألف الثالث قبل الميلاد (كما أثبتت مكتشفات ماري)، وأول من صنع النول والمكوك وعرف الحياكة والنسيج، وأول من بنى دولة مركزية كبرى بالمفهوم الحقوقي والإداري والسياسي والاقتصادي والعسكري، فوضع الأنظمة، وشرع القوانين، وضرب النقود، وبنى الجيوش، وأول من وضع تشريعات الزواج وبناء الأسرة، وأول من شرب الخمور، وصنع العطور، وأحدث مجالس الشراب، والشورى والندوة، وأول من وضع مجلسين استشاريين للشيوخ والشباب، وأول من تزين بالحلي والكحل وليس الجوارب، وعرف الشطرنج والنرد والداما…

نعود لنقول: بالرغم من هذا كله، فقد تحول تاريخنا العربي القديم اليوم، على أيدي المزورين في الخارج و”النقلة” في الداخل، إلى تاريخ مجموعات من القبائل البدوية الرعوية، نتيجة للروح التعصبية التزويرية التي سادت كتابة التاريخ على يد الغرب الاستعماري، فانقلبت كل الحقائق رأساً على عقب، وصارت أثينا وروما، اللتان كانتا جزءاً من إنجازنا الحضاري، كما صار يتأكد اليوم، مرضعتين للحضارة على الأرض.

وفوق هذا كله، فقد مزقت وحدة الشعب العربي اللغوية والحضارية، فجرى عن عمد وتصميم تغييب الهوية العربية عن كل مكتشف آثاري، وصار كل تل يكشف مشروعاً لشعب جديد، ولتسمية جديدة، وحضارة جديدة، ولغة جديدة، يلصق بها أحياناً تسمية المكان، وأحياناً كثيرة تُفرض عليها تسميات قسرية من مدونات التوراة، ليبقى الطابع البدوي العشائري الضيق الذي عكسته التوراة هو الطابع الوحيد لهذا الشعب، من جهة، ولخلق الذرائع التاريخية المصطنعة والكاذبة للأطماع الاستعمارية والصهيونية في المنطقة، من جهة أخرى، ومنه افتراض وجود هندو أوروبي مزعوم في تاريخنا الحضاري، حتى تصير التسميات مقرونة بأسماء شعوب وأقوام عدة، فنتعرف على ما يدعى ب”العهد الحثي”، و”الآثار اليونانية” أو “الهلنستية”، و”الآثار الرومانية”، و”الآثار البيزنطية”، والآثار الإسلامية… الخ في سوريا مثلاً.  المهم هو ألا يكون في متاحفنا أو في كل يقال عن آثارنا أي ذكر لشعبنا صاحب ومبدع تلك الحضارة وحده على أرضه، قبل أن ينقلها بنفسه إلى أراضي الآخرين.

المفهوم التاريخي لتسمية العرب وموطنهم:

–         (مقتطفات بتصرف من الفصل الأول من كتاب “العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود” للدكتور أحمد داوود، الصادر في دمشق، سوريا، كانون الثاني 1991):

يعتمد تحديد الهوية التاريخية القومية والحضارية لهذا التجمع البشري أو ذاك، لهذه الظاهرة التاريخية أو تلك، على ثلاثة أسس رئيسية هي: السكان، اللغة، والأرض أو الجغرافيا، مع قناعتنا الأكيدة بأن هذه الأشياء الثلاثة لا توجد الواحدة منها في معزل عن الأخرى، بل بشكلها المترابط عضوياً، المتفاعل جدلياً.

وقبل أن نتحدث عن المفهوم التاريخي لكلمة العرب نرى أن لا بد، أولاً، من أن نرسم لوحة مبسطة للجغرافيا، في مرحلة تاريخية سابقة، التي على مسرحها عاش وتطور وأبدع هذا الشعب الذي نعرفه اليوم ب”العربي”.

السكان والجغرافيا:

من المحتم علينا حينما نتحدث عن تاريخ هذا الشعب أو ذاك في مرحلة تاريخية قديمة أو موغلة في القدم، كما هو شأننا مع الشعب العربي، أن نحيط بجغرافيا المنطقة، بما فيها علم المناخ، التي كانت مسرحاً لنشاط هذا الشعب في تلك الحقبة التاريخية المعينة من الزمن، وبغير هذا يصير التاريخ ضرباً من الفرضيات أو التخمينات العاجزة عن تفسير كثير من الظواهر السكانية أو الحضارية، وهذا ما هو سائد اليوم في كل الكتب أو معظمها التي تؤرخ لشعبنا العربي انطلاقاً من الواقع المتصحر لشبه جزيرة العرب اليوم.

أما نقطة البداية التي نختارها للحديث عن جغرافيا المنطقة فهي حوالي الألف الرابع عشر قبل الميلاد.

يجمع علماء التاريخ والجغرافيا والمناخ في العالم اليوم على أن نهاية أخر عصر جليدي مرت به الكرة الأرضية كانت في حوالي الألف الرابع عشر قبل الميلاد التي معها كانت بداية عصرنا الدفيء الحالي والذي قد يستمر عشرات الآلاف من السنين (هشام الصفدي، “تاريخ الشرق القديم”، جامعة دمشق، 1983-1984، الجزء 1، ص 78-79).

في تلك الحقبة تحديداً كانت كتل الجليد بسماكة مئات الأمتار تغطي مساحات شاسعة من الشمال وحتى الخط الذي يمر في وسط فرنسا، وكان الحزام الحي “أي المفعم بالحياة وبشروط تطور الإنسان والحضارة”، هو الممتد من جزيرة العرب وغبر ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية وصولاً إلى الشواطئ الأمريكية الوسطى والجنوبية.  لقد كانت “طبقات الجليد السميكة تغطي أمريكا الشمالية وغرب أوروبا مثل الجزر البريطانية والأراضي المنخفضة وفنلندا الدانمارك ومنطقة الألب، وكانت روسيا مركز الإشعاع الجليدي في شرق أوروبا حيث وصلت المجلدات إلى أوكرانيا والدانوب وشمال ووسط الأورال على جبال تايمير ومناطق أخرى من سيبيريا، وزحفت مجلدات عملاقة من جبال جوكوتكا وجماكاتكا وآسيا الوسطى وظهرت المجلدات في جبال أستراليا والشيلي ونيوزلند” (أ. كوندراتوف، “الطوفان العظيم بين الواقع والأساطير”، دار وهران، ترجمة د. عدنان عاكف حمودي، الطبعة الأولى، دمشق 1987، ص 62).

أما شبه جزيرة العرب فقد كانت أخصب بقعة على سطح الكوكب وأكثرها ملاءمةً لوجود الإنسان والحيوان والنبات ولنشوء الحضارة.  ففي الشرق منها كانت جنة العرب الأولى قبل أن تغمرها مياه البحر وتشكل ما يعرف اليوم بالخليج العربي، تجري من تحتها أنهار دجلة والفرات وبيشه لتصب جميعاً في بحر العرب بعد أن غذت تلك المنطقة عبر عشرات آلاف السنين بطبقات لحقية وفرت لها درجة من الخصوبة لم تعرفها أية بقعة أخرى.  وكان يغطي منطقة صحراء الربع الخالي بحر من المياه العذبة ما تزال بقاياه قائمة حتى يومنا هذا في أربع بحيرات متصلة جوفياً عمق إحداها 400 قدم (أحمد سوسة، “ري سامراء”، الجزء 2، ص 539).

وكان وادي بيشه الذي يتحد مع وادي الرمَة وتثليث ورنيا والثرات والدواسر يخترقها من الغرب إلى الشرق جنوب البصرة ثم يتابع سيره في منطقة الجنة (الخليج العربي لاحقاً – إ. ع) ليصب أخيراً في بحر العرب.

يقول تشايلد: “في الوقت الذي كان فيه شمال أوروبا مغطى بطبقات الثلوج إلى مسافات بعيدة، وكانت جبال الألب والبيرنيه مغطاة بكتل الجليد، كان ضغط القطب الشمالي الشديد يسوق أعاصير الأمطار التي تهب على أوروبا الوسطى، ويجعلها تجتازها وتعبر إلى حوض البحر المتوسط، وتستمر في سيرها دون أن تستنزفها الجبال السورية فتصل إلى العراق وجزيرة العرب… فكانت الصحارى التي يلفحها العطش الآن تتمتع بأمطار منتظمة، ولم تكن الأمطار الذاهبة بعيداً إلى جهة الشرق أكثر مما هي عليه الآن فحسب، بل أنها كانت موزعة على جميع فصول السنة بدلاً من أن تكون مقصورة على فصل الشتاء، وكان يعيش في شمال أفريقيا، وربما في جزيرة العرب أيضاً، حيوانات من نوع ما يوجد الآن في زيمبابوي وروديسيا” (تشايلد، “الشرق القديم”، طبعة 1964، ص 15-16).

وتؤكد نتائج أبحاث سفينة الأبحاث الألمانية “ميتيور” في قاع الخليج أنه “نتيجة لانخفاض مستوى مياه البحر خلال العصر الجليدي الأخير إلى حوالي 110 أمتار عما هي عليه اليوم، كان الخليج العربي أرضاً يابسة تتكون من منخفض يبلغ طوله حوالي 1100 كيلومتر، ووسطي عرضه 180 كيلومتراً، ولا يتجاوز عمق غوره 30-100 متر، وتشق قاع الخليج قناة حفرتها مياه النهرين تبدأ قرب الفاو لتصب في خليج عمان.  ومن الجدير بالملاحظة أن تضاريس قاع منطقة الخليج تشبه إلى حد كبير طبيعة الأرض التي يجتازها نهر الفرات في سوريا إلى درجة دفعت الباحثين للاعتقاد بأن حوض الخليج يكاد يكون استمراراً للأرض السورية، فلا يفصل المنخفضين إلا السهول الرسوبية المنبطحة المعالم، واعتباراً من أواخر العصر الجليدي الرابع “الأخير”، أي منذ حوالي 14000 قبل الميلاد تأخذ مياه البحر بالارتفاع بفعل مناخ دافئ يسود الكرة الأرضية خلال عصر الهولوسين “الدفيء”.  وباستثناء انقطاعين عارضين حدث الأول حوالي 10000 سنة ق. م والثاني حوالي 8000 سنة ق. م بفعل التذبذبات المناخية، تابع ماء البحر ارتفاعه واستمر يغمر منطقة الخليج، حتى استقر مستواه تقريباً اعتباراً من حوالي 4000 ق.م على وضعه الراهن في القرن العشرين.  وبذلك انفصلت المرتفعات التي ستعرف فيما بعد باسم البحرين وفيلكا وبوبيان وغيرها من الجزر عن الأرض العربية التي تحولت بدورها إلى شبه جزيرة وبلغ ارتفاع منسوب المياه إلى 120 متراً” (هشام الصفدي، المرجع السابق، ص 76 و81).

(لاحظ أن هذا يثبت الوجود العربي في محيط الخليج العربي، خاصة في البحرين والجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، ناهيك عن الأحواز، منذ ما لا يقل عن 14 ألف سنة قبل الميلاد حتى اليوم دونما انقطاع – إ. ع).

تلكم هي لوحة جزيرة العرب الجغرافية والمناخية التي كانت مهداً للحضارة على هذا الكوكب، والتي كانت تمتد حدودها من ضفة الخليج الشرقية شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن البحر الأسود شمالاً “البحر الأعلى” إلى بحر العرب جنوباً “البحر الأدنى”.

ومنذ أن تأسست أول دولة مركزية في المنطقة، وهي دولة سرجون الأكادي في الألف الثالث قبل الميلاد، وحتى نهاية عهد الملكة زنوبيا، حافظت الدولة على هذه الحدود دونما أي تفريط أو تجزئة خلال ما يقرب من ثلاثة آلاف عام.

السكان واللغة:

بعد هذا الرسم التوضيحي الموجز للخارطة الجغرافية والمناخية التي بها نشأ وعاش وتحرك وتطور وأبدع أول حضارة في العالم الشعب الذي نعرِّفه اليوم بالشعب العربي يصير من اليسير علينا أن نحل كل الإشكالات المفروضة، وأن نفسر بسهولة كل تلك التحركات السكانية العربية سواء على هذا المسرح أو في خارجه.  ولم تعد – بعد هذا – مسألة خروج العرب السومريين من منطقة الجنة في أرض الخليج إلى الجنوب العراقي لغزاً يسهم المستشرقون في جعله محيراً رغم كل الدلائل والمكتشفات.   إذ أن منطقة ما قبل الخليج كانت جزءاً من ثقافة كبيرة معاصرة – كما أكدت النتائج التي قدمتها بحوث سفينة الميتيور – انتشرت مراكزها في الجنوب الرافدي وجواره قبل أن تجبر مياه البحر الصاعدة أهلها على الرحيل تدريجياً إلى مواطن جديدة.

لقد صار ثابتاً اليوم أن هذه الظاهرة هي التي أجبرت سكان الجنة العربية القديمة في أرض الخليج إلى أن ينتشروا إلى الجوار الشرقي، فنقلوا إلى شواطئ الهند الغربية ما دعي بحضارة ما قبل الهندية والتي تعود إلى الألفين السادس والخامس قبل الميلاد.  وقد دعيت اللغة المكتشفة هناك ب “الدرويدية”، وهي عربية شقيقة للعربية السائدة حينذاك في شرق شبه جزيرة العرب.

يقول كوندراتوف: “ويجد اللغويون معالم التشابه بين لغة الدرويديين ولغة العبيديين الذين عاشوا في وادي دجلة والفرات قبل السومريين وكثيراً ما كانوا يتحدثون عن الوطن الجد الغريق وعن “مملكتهم التي ابتلعتها مياه البحر” (أ. كوندراتوف، المرجع السابق، ص 62).

كما أن الظاهرة نفسها هي التي أجبرت العرب الآخرين الذين حلوا في أرض سومر من جنوب العراق ودعوا بالسومريين ناقلين معهم تراثهم وقصصهم وذكرياتهم عن “الوطن الغريق” و”بحر الوطن” و”الجنة المفقودة تحت الماء” وجنة “دلمون” البحرية.

يقول البرفسور “جاك لابيري” أكبر علماء المناخ في أوروبا اليوم بهذا الصدد ما يلي: “إن حضارات القدامى بزغت وتلاشت بفعل حركة ارتفاع أو انخفاض منسوب البحر والمياه فوق مستوى الأرض.  لنأخذ مثلاً السومريين، لقد ظهروا فجأة منذ حوالي ستة آلاف سنة عند نهري دجلة والفرات.  كانوا يملكون أسلحة متطورة بالنسبة إلى ذلك الزمان، ويعيشون حضارة ناشطة، فمن أين جاؤوا؟  إن علم المناخ والأرصاد يدل على أنه حين كان سطح المحيط منخفضاً، أي أقل ارتفاعاً عما هو بمئة متر.  فالسومريون كانوا موجودين في مكانٍ ما، من المؤكد أنهم كانوا قرب نهر يؤمن لهم الشرب واستمرارية الحياة.  آنذاك، كان البحر يغطي مدخل الخليج العربي الحالي، وكان نهر دجلة والفرات نهراً واحداً يسير وسط منطقة الخليج “الحالي” ليصب في المحيط الهندي.  إذن كان بحر الخليج أرضاً يابسة يجتازها النهر المذكور.  كان سهلاً واسعاً وخصباً، وفي هذا السهل ومنذ آلاف السنين حيث كان مستوى البحر منخفضاً 100 متر حدثت حتماً عملية انتقال الإنسان من حالة العصر الحجري القديم إلى حالة العصر الحجري الأخير “المزارعين الثابتين”.  لقد تم ذلك منذ 8 أو 9 آلاف سنة، وقد ظل سطح البحر يرتفع منذ سبعة آلاف سنة دافعاً بالسومريين الأوائل إلى منطقة الشمال الغربي.  فبلغ البحر، ومنذ خمسة آلاف سنة، المستوى الحالي الذي نعرفه.  فاستقر السومريون في مدينة أور وضواحيها، والمعروف أن المدن الكبرى القديمة في بلاد الكلدان توجد على بعد 140 كيلومتراً تقريباً من هذه الأراضي.  وهذا المستوى كان الأقصى الذي بلغته مياه البحر منذ 5500 سنة، وحين انحسرت مياه البحر في ما بعد بقي السومريون حيث كانوا” (لقاء مع د. جاك لابيري، مجلة “الصفر”، عدد أغسطس/ آب 1987، تصدر عن شركة إنترسبايس للنشر بالتعاون مع المركز العربي للدراسات الدولية، ص 41),

وهذا أيضاً ما أكده عالم الآثار الأمريكي جوريس زارينس الذي ظل يعمل في الآثار في المنطقة الشرقية من الأراضي السعودية زهاء عشرة أعوام… فتوصل من خلال المكتشفات إلى النتائج نفسها.  وقد أجرت معه إحدى المجلات الأمريكية لقاءً مطولاً في عددها الصادر في أيار 1987 تحت عنوان “هل تم العثور أخيراً على موقع جنة عدن” أكد فيه أن الموطن الأصلي للعبيديين هو الطرف الشرقي لشبه جزيرة العرب وأنهم أسلاف السومريين الذين خرجوا من أرض الخليج حيث “جنة عدن” العربية، وكانوا هم، لا السومريون، بناة المدن والحضارة في جنوب العراق” (ريبورتاج حول نتائج أعمال عالم الآثار الأمريكي “جوريس زارينس” في العربية السعودية ضمن بحث: “هل تحدد أخيراً موقع جنة عدن؟”، مجلة Smithsonian الأمريكية عدد مايو / أيار 1987، ص 127 – 134).

اللغة وعروبة السكان:

يجمع المؤرخون اليوم أن علم “الألسنيات” هو أصلح الأشياء لمعرفة الأصول السكانية والأعراق ومركز نشوء الحضارة الذي منه انتقل الإشعاع إلى غيره من الأنحاء، فاللغة هي وحدها القادرة على تحديد الهوية القومية لهذا الشعب أو ذاك.  لكنه لكي تتمكن اللغة من الاضطلاع بهذا الدور لا بد لها من أن تعيش عملية ما يدعى بالتواصل التاريخي، وهو ما لا ينفصل عن التواصل التاريخي للشعب الذي يتكلم تلك اللغة، كما أن أي احتلال يفرض لغته على شعب ما يبقى ظاهرة طارئة مؤقتة يستمر التواصل اللغوي القديم بعده.  ولما كانت اللغة تلازم الإنسان منذ أن بدأ العيش في جماعة وتتطور معه حاملة كل هواجسه وفكره ومعاناته وإبداعاته فهي بالتالي وحدها التي تحمل ملامحه النفسية والثقافية والحضارية، وتحدد بالتالي هويته القومية.

بالإضافة إلى ذلك، لا بد من التذكير بالأمور التالية:

1 – أن اللغة شيء، والكتابة شيء أخر، فالأولى تنشأ وتتطور قبل الثانية بآلاف السنين، وقد تبتكر عدة كتابات في آنٍ واحد للغة واحدة كما حصل مع اللغة العربية، كما شرحنا في كتاب “تاريخ سوريا القديم” (أحمد داوود، “تاريخ سوريا القديم، تصحيح وتحرير”، دار المستقبل، دمشق 1986، ص 585-600).

2 – لهجات أي لغة قد تقل أو تكثر، لكنها تبقى لهجات، ولا يصح أن يطلق عليها اسم “اللغة”، لأنها تنتمي جميعها للغة أم واحدة.

3 – كثيراً ما يفرض تطور الحياة موت كلمات وسقوطها من الاستعمال اليومي وولادة كلمات جديدة من صلب الخميرة اللغوية نفسها، وتبقى الكلمات الميتة، رغم ما قد يبدو عليها أنها غريبة وغير مفهومة، منتمية إلى اللغة الأم، وعلم تاريخ اللغة هو الذي يحفظ لها هويتها سواء في القواميس أو كتب فقه اللغة الأخرى.

4 – إن الكتابة الأبجدية وحدها أي الكتابة التي تحلل الكلمة إلى أصوات، وترسم علامة لكل صوت، هي وحدها التي تكشف لنا حقيقة هذه اللغة وهويتها.

5 – أما ما قبل الكتابة فإن الأسماء المحفوظة منذ القدم للمدن والأرباب والمواقع الجغرافية وللمتميزين من الأفراد هي أفضل ما يمكن أن يميز انتماء أصحابها القومية أو اللغوية.

6 – ينبغي ألا يغيب عن البال أن ما دعي بالكتابة التصويرية التي تصور فكرة ما لا صوتاً، والكتابة المقطعية التي تضع رموزاً وعلامات لمقاطع كثيرة يجري الاتفاق على معانيها فيما بين واضعيها، وهما المرحلتان الأوليان من مراحل اختراع الكتابة ما قبل الأبجدية، لا تبين هوية هذه اللغة أو تلك لأنها لا تصور أصواتها، بل تبقى نوعاً من “الشيفرة” التي تستخدم ضمن أطر جد ضيقة كدائرة الحكام ورجال المعبد في التاريخ القديم.

بعد هذه الملاحظات توجب علينا الآن أن نقترب مباشرة من موضوع المنطقة العربية وهوية سكانها القومية منذ القدم كما تحدده اللغة.

“سر” و”مر” و”رب” أشهر مشاهير الآباء العرب الأقدمين

منذ أن بدأ إنسان هذه المنطقة أول ثورة زراعية في العالم، كما يؤكد اليوم جميع الباحثين الذين يختلفون على تحديد زمن بدايتها ما بين الألف الثاني عشر والألف الثامن قبل الميلاد، بدأت معها أول عقيدة للخصب في العالم التي تعتمد في جوهرها على تقديس الخصب بأقانيمه الثلاثة: الرجل – الزوج – الأب – المخصب، والمرأة – الزوجة – الأم – حاضنة الخصب ومتعهدته إلى عطاء وثمرة، والابن نتاج الخصب – الثمرة… فقدست الخصب، الإثمار، الوفرة، التكاثر، ولعنت العقم.

ولما كانت الأرض هي الرحم الذي يحتضن البذور ويتعهدها بالإنماء والاطلاع والإثمار والإكثار فقد تقدست الأرض في عقيدة الخصب وصارت الأم الكبرى ترمز إلى الأرض، ولما كانت السماء، أو السحاب، أو المطر هي التي تخصب الأرض، والشمس تدفئها وتطلع النبات والزرع، فقد صار الأب أو الزوج رمزاً للسماء أو الشمس في عقيدة الخصب التي تعتمد دائماً على قطبين: الذكر والأنثى، الرجل والمرأة، السيد والسيدة الخ…

ولم يكن ذلك ليحدث دون أن يجد له انعكاساً في اللغة التي تحتضن كل فكر وإبداع هذا الإنسان منذ القدم.  فلقد تميز من بين الآباء العرب القدامى الذين تقدسوا في عقيدة الخصب الزراعية مجموعة كبيرة من الأسماء كان من بين أبرزها جميعاً ثلاثة هم: “سر” و”مر” و”رب” وكل منها يعني “السيد”.

أما “سر” الذي تؤكد كل الدلائل على أنه كان متميزاً في منطقته الشرقية، فيعني السيد العلي، ومؤنثه “سرت” و “سري” ويعني السيدة العلية.  وما تزال اللغة العربية تحتفظ لنا بالأصل حتى اليوم فكلمة “سري” تعني السيد، العالي، وسراة القوم سادتهم، والسراة الجبال المرتفعة، والسروات القمم، والسرو الشجر المرتفع، و”سارة” هي السيدة والملكة، وإذا ما أضفنا نون الجمع تصبح “سرن” وتعني السوريين أو السريان لأن العربية القديمة لم تكن تكتب الصوتيات “أ، و، ي”.  وقد اكتشفت المدينة التي سميت باسمه وفي موطن إقامته وهي “سار” قرب البحرين وتعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وقد عثر فيها مؤخراً على لؤلؤة هي الأكبر من نوعها في العالم حتى اليوم، وإلى جانبها مدينة “سارة” أو “تارة” وتعود للفترة نفسها، وقد انتشر أبناؤه وأحفاده في المنطقة الشرقية من الأرض التي دعيت فيما بعد بالأرض العربية، وكانوا جميعاً يتكلمون العربية بلهجتها الشرقية التي دعيت “سريانية”، ولما أقيمت الدولة المركزية وجعلت عاصمتها “أجادا” ثم بابل وأشور ونينوى سادت العربية بلهجتها السريانية الشرقية كلغة رسمية في شتى أرجاء الدولة كلها واستمرت زهاء ثلاثة آلاف عام.  وبالرغم من أن المستشرقين أخذوا يسمونها مرة أكادية، وأخرى بابلية وآشورية وكلدانية، فقد ثبت أخيراً أنها لغة واحدة هي العربية القديمة بلهجتها الشرقية السريانية، وصار السكان يعرفون بالسوريين أو السريان، وصارت الأرض سوريا من “سري” أي السيدة و”سورية” من “سرت” أي السيدة.

ويؤكد لنا “كريمر” الحقيقة التي أكدها غيره وهي أن الأكادية هي نفسها البابلية والآشورية، وهي نفسها التي دعيت خطأ ب “الكلدانية”.  أما “مر” و”مرت” أي السيدة، وما تزال قواميس اللغة تحتفظ لنا بهذا المعنى حتى اليوم إذ نجد في القاموس أن “ماري” تعني السيدة والسيدة البيضاء تحديداً، كما أن “مرْت” ما تزال تستخدم في العربية الدارجة حتى اليوم، وما تزال كلمة “مار” مستخدمة مع ألقاب الآباء المقدسين في المسيحية حتى الآن، فيقال: مار إلياس ومار يعقوب، أي السيد إلياس ويعقوب، الخ…

وقد كانت سكنى الأب “مار” في الغرب، وكانت تسمية مدينة “ماري” في الشمال السوري وعمريت على الساحل تجسيداً لهذا الوجود ودعي أبناؤه وأحفاده فيما بعد بالآموريين أو العموريين، وقد حكم منهم في عاصمة الدولة المركزية كثير من الملوك نذكر من بين أهمهم آمورابي “حمورابي” الذي جعل بابل عاصمة الدولة المركزية وكثير من الملوك من بنيه وأحفاده الذين حكموا من بعده.

وكما انداح العرب السريان شرقاً إلى أن بات يذكر اليوم أنهم هم مؤسسو حضارة وادي السند، انداح الآموريون غرباً، ومن بينهم الفينيقيون، عبر شطآن المتوسط وصولاً إلى الشواطئ الأمريكية، فسمي البحر المتوسط باسمهم “بحر آمورو” وأطلقوا أسماءهم على القارات والجزر والمدن والجبال، فأوروبا سميت باسم الأميرة الفينيقية بنت ملك صور، وليبيا كانت تطلق على أفريقيا، وهو اسم أمها أو جدتها لأبيها.

وأما “رب” فتعني “السيد” أيضاً، ومؤنثه “ربت” وتعني السيدة، أما منطقة سكناه وبنيه وأحفاده ففي جوف شبه جزيرة العرب، وأطلق على بنيه وأحفاده اسم “آربي” أو “عربي” والمنطقة أربت أو عربت وهي ما يعرف اليوم ببرية شبه جزيرة العرب بعد أن أصابها التصحر، وهناك في جنوب عسير تحديداً توجد مدينة “الربة” حتى اليوم.  (ومدينة “ربة عمون”، كناية عن عمان، الأردن، قبل أن يغير اسمها الإغريق إلى فيلادلفيا – إ. ع).

وإذا ما أخذنا بعض أسماء المدن التي تعود إلى عصور ما قبل الكتابة لوجدنا أن التسميات هي عربية أيضاً.  لنأخذ واحدة من الشمال وهي شتال أيك، وتكتب أحياناً “شتال إيوكو”، فتعني مزرعة الربة، النظيرة، المثيلة، القرينة للرب.  إن كلمة “شتال” واضحٌ اشتقاقها من “شتل” (ومن هنا فكرة المزرعة – إ. ع)، أما “إيكو” فهي من “ايك” في العربية القديمة وتعني مثل نظير، ومنها كان اسم ميكا إيل أي المماثل لإيل، نظير الرب، وهي مدينة عربية اكتشفت آثارها في قونية في تركيا حالياً تعود للألف الثامن قبل الميلاد، اكتشف فيها تماثيل ربة الخصب السورية الأم الكبرى.

والمثال الآخر من الجنوب وهو مدينة “أريحا” في فلسطين الحالية التي يعود زمن بناء سورها أيضاً إلى الألف السابع قبل الميلاد، وكلمة أريحا و”أرحتا” تعني حرفياً الاستراحة وليس مدينة القمر من “يرحو” وهو الهلال أو القمر كما يزعم البعض اليوم.  وعلى أية حال فالتسمية في كلتا الحالتين عربية صميمة.  ولو انتقلنا الآن إلى مرحلة اختراع الكتابة بالأبجدية الحرفية التي كان لأجداد العرب فضل اختراعها، فحققوا بذلك ثاني أهم ثورة في تاريخ التمدن البشري بعد الثورة الزراعية، لوجدنا أن الصورة أضحت جلية لا لبس فيها.  لأن لغة هؤلاء السكان التي ظلوا يتكلمون بها شفهياً آلاف السنين قبل اختراع الكتابة تتكشف لنا الآن حقيقتها العربية الصميمة من خلال تصويرها بالكتابة الأبجدية الحرفية، لأن هذه الأخيرة لا تترك أي لبس في الأمر، إذ هي تصور أصوات الكلمة حرفاً حرفاً، وبالتالي فإن كلمة “شمس” مثلاً، التي أجد فيها ثلاث علامات لثلاثة أصوات هي الشين والميم والسين، لن يبقى ثمة مجال لأن أقرأها: نجم، نور، ضوء، يطلع، يضئ، الخ… كما كان الأمر مع الكتابة التصويرية، فانجلى بذلك كل غموض كان يكتنف حقيقة اللغة التي تكلم بها سكان الوطن العربي القديم، فالأبجدية العربية، منذ أن وضعها أجدادنا الأقدمون هي: ابجد هوز حطي كلمن سعفص، قرشت… اثنان وعشرون حرفاً واثنتان وعشرون علامة، كان أعظم اختراع أبدعه شعب في تاريخ التمدن البشري.  ولو عدنا إلى أسماء حروف أبجد مثلاً لوجدناها: ألفا، ويعني ثور، بيتا، ويعني البيت، جاما، ويعني الجمل، دلتا، ويعني باب الخيمة “شكل المثلث”.

ولا بد هنا أن نلفت الأنظار إلى نقطة لغوية كبيرة الأهمية تؤكد وحدة الشعب العربي اللغوية منذ أقدم العصور، وهي أن جميع هؤلاء الآباء الأوائل اقترنت عملية تقديسهم بتقديس الخصب.  فالأب الأكبر والأم الكبرى تجسيد لعملية الإخصاب الكونية العظمى المقدسة.  ولإيضاح ذلك يكفي أن نضيف إلى أسماء أولئك الآباء أول حرف بالأبجدية العربية القديمة وهو الألف الذي يعني الثور، والثور رمز الخصب في عقيدة الخصب، والذي كثيراً ما يتبادل مع العين الموقع والعمل والوظيفة، لنلتقي فوراً بالصورة الكونية الأولى المقدسة لدى القدماء: صورة الخصب الكوني.  والطريف في الأمر هو أن لغتنا العربية ما تزال تحفظ لنا في صدرها هذا الكنز العقائدي الأصولي الصميم منذ آلاف السنين وحتى اليوم.  إن كلمة “سر – أ” تعني أخصب، وسرأت السمكة باضت، والمرأة كثر أولادها، وأسرأت أيضاً أخصبت وحان أن تبيض.

وكلمة “مر –أ” أخصب وألقح وجامع، والمروءة في أصلها كمال الفحولة والإخصابية وكمال الرجولية، والمرء هو الذكر والمرأة الأنثى.  أما “مر – ع” فتعني أخصب أيضاً.  ومرع الوادي أكلأ وأخصب بكثرة الكلأ.  وأمرع القوم كانت مواشيهم في خصب.  والمريع الخصيب، والأمروعة الخصبة، والممراع الخصيب، ورمعت (بالإبدال بالقلب) المرأة أيضاً ولدت.

وكلمة “رب – أ” زاد وكثر ونما.

وكلمة “رب – ع” بالإبدال بين الألف والعين تعني أيضاً أخصب وأربع فلان أكثر من الجماع، وربيع رابع أي مخصب، والربيع أي الخصيب، وهو فصل الخصب.

أما إذا أضفنا الألف إلى أول تلك الأسماء ليصبح نداً لكل من الحرفين في الاسم تألفت أقانيم الخصب الثلاثة الزوج والزوجة الابن، ويصبح معنى الكلمة كما يلي:

“أ – سر” أي ابن سر أو أبناؤه.  “أ – مر” أو “عمر” بالإبدال الشائع بين الألف والعين، أي أبناء “مر”… “أ – رب” أو “ع – رب” ابن رب أو أبناؤه…

وبناءً على هذا فقد توزعت اللغة العربية القديمة إلى ثلاث لهجات رئيسية هي: السريانية في الشرق، والأمورية في الغرب، والعرباء أو “النقية الشديدة العروبة مثل ليلة ليلاء” في جوف جزيرة العرب.

وبينما كانت اللهجة الشرقية تضيف الصوت “و” إلى آخر الأسماء كانت الغربية أو الأمورية كانت الغربية تضيف الصوت “أ” والعرباء تضيف التنوين.  إن كلمة “جمل” مثلاً كانت في الشرقية “جملو” وفي الغربية “جملا” أو “غملا”، إذ كان الأموريون الفينيقيون يلطفون أحياناً حرف الجيم إلى “غ”.

وهذه هي اللهجة التي ما تزال تتحدث بها قرية معلولا حتى اليوم ويدعوها المستشرقون آرامية، بعد أن زُوِرت جغرافيا الأحداث التوراتية، وهذا غير صحيح.  (كما يشرح د. أحمد داوود في الأجزاء اللاحقة من كتابه – إ. ع).

وحينما كان يريد سكان أجادا زمن سرجون، أو سكان بابل زمن حمورابي أن يقولوا بلهجتهم الشرقية مثلاً “الجمل يرعى العشب”، كانوا يقولون “جملو روعي عسبو” بينما كان الفينيقيون يقولون “غملا روعي عسبا” الخ…

وهكذا يتبين لنا بوضوح بعد كل ما تقدم، كيف أن اللغة كشفت هوية السكان القومية العربية منذ أن ظهرت النصوص والرقُم المكتوبة بالأبجدية الحرفية، وتبين كيف أن العربية هي اللغة الأم الموزعة إلى لهجات رئيسية تتفرع هي الأخرى بدورها إلى لهجات فرعية كثيرة، وهذا أمر طبيعي.

ولقد أضافت اللهجة العرباء في وقت متأخر الأحرف الستة “ثخذ ضظغ” إلى الأبجدية الكتابية ودعيت بلغة الضاد تمييزاً لها عن شقيقتيها السريانية الشرقية والآمورية (والفينيقية جزءٌ منها) الغربية، ودعينا بالعجميتين أي الصعبتين على الفهم لأن عجم واستعجم ما صعب فهمه ولو كان عربياً، وليس نسبةً إلى أية لغة أجنبية أخرى، ولقد كانت كل من السريانية الشرقية والعمورية الغربية تستعيض عن الضاد بحرف العين في أغلب الحالات.  إن كلمة “ضأن” أو “غنم” كانت بالشرقية “عانو” وبالغربية “عانا”، وكلمة “بيضة” كانت “بيعتو” و”بيعتا”… ولسنا هنا في مجال الاستطراد خلف الأمثلة والشواهد الكثيرة.

أما لماذا لم يسجل هؤلاء الأجداد لنا في مدوناتهم انتماءهم العربي أو لماذا لم يطلقوا على دولتهم نعت العربية، فإن ذلك لم يكن يشكل مسألة قائمة في ذلك الزمن، فقد كانت دولتهم هي الوحيدة سواء في سوريا، أم في وادي النيل، وكانت العروبة شيئاً يعيشونه ويمارسونه من خلال اللغة الواحدة كما يتنفسون الهواء ويشربون الماء دونما أي ما من شأنه أن يشعرهم بأن عليهم أن يؤكدوا هويتهم، إذ أنهم كانوا أينما تنقلوا وحلوا من الخليج شرقاً إلى الأطلسي غرباً ومن شواطئ البحر الأسود شمالاً إلى بحر العرب جنوباً يجدون أن لغتهم هي لغة التفاهم والتواصل الوحيدة.

فكان التمايز والتنافس ليس مع دولة أجنبية ولم يكن لها بعد من وجود، بل مع منافسين داخليين، وكانت ألقابهم في بلاد اليونان مثلاً “السادة، المعلمون، أبناء الآلهة”، وهذه الظاهرة نفسها تنسحب على الدولة الأموية أو العباسية ولم تنفِ عنهما صفة العروبة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أولئك السوريين الفينيقيين الذين حكموا في الخارج، ولا سيما في روما، وشعروا بالتنافس الخارجي سرعان ما كانوا يعمدون إلى الإصرار على إبراز أصلهم العربي، فها هو “سبتيمو سفيرو” إمبراطور روما، وهو فينيقي من لبدة، أي طرابلس الغرب حالياً، أصر على أن يكون “العربي” من بين ألقابه الثلاثة (جان بابلون، “إمبراطورات سوريات”، ترجمة يوسف شلبي الشامي، دمشق 1987، ص 80 – 81).

وقد حكم سبتيمو سفيرو وزوجته الحمصية جوليا دومنا (ودومنا يعني بالفينيقية المثيلة، النظيرة) وقد عبدها الرومان فتحولت من إمبراطورة إلى ربة، ثم جاء ابنها جيتا (ومعنى اسمه بالفينيقية “نعيم”)، ثم ابنها كراكلا (ويعني اسمه “حصن الرب”)، ثم ابنة اختها جوليا ميزا ثم جوليا سميا ثم جوليا ماميا.  كما أن فيليب العربي من شهبا في حوران كان الإمبراطور العربي السابع الذي حكم روما هو الآخر على أن يكون لقبه الأوحد “العربي”، فدعي “فيليبو أربيو”، وترجم إلى اللغات الأخرى Philip the Arab، ولم يكن ذلك سوى إحساس أكيد من أولئك الفينيقيين العظام بانتمائهم العروبي الأصيل وهم يبنون حضارة روما.  ويؤكد كثير من المؤرخين اليوم، كما أكد المؤرخون الأقدمون والمحدثون، أنه حكم روما جيلان من الأباطرة: جيل من النبلاء المثقفين السوريين، وجيل من الهمج اللآتين.

بقي أن نشير هنا إلى أن شبه جزيرة العرب زمن الخصب لم تكن مسرحاً للبدو، وكانت تضاريسها تتوزع بين السراة أي الجبال وبين البادية أي الأرض المكشوفة، ولم تصبح كلمة “بادية” مرادفة ل “صحراء” إلا بعد أن أصابها التصحر وغلب عليها في حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد فصارت برية العرب “عربت سابقاً” مسرحاً للعرب البداة الرعاة المنتقلين وشبه المستقرين، ثم ما لبثت كلمة “عرب” أو “أعراب” تطلق على سكان تلك البرية من سكان “عربة” تحديداً دون سواهم، وقد التصقت بهم صفة البداوة، وسكن الصحراء.  لكن هذا يجب ألا يجعلنا نغفل عن عروبة البقعة التي كانت تمتد من البحر الأعلى إلى البحر الأدنى، ومن الخليج العربي إلى المتوسط فشاطئ الأطلسي والتي غذت بالعنصر العربي أفريقيا الممتدة من الحبشة والصومال شرقاً مروراً بوادي النيل والسودان وصولاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، تشهد على ذلك اللغة والفكر والثقافة والديانات والأساطير والتقاليد والآثار المكتشفة، وبتعبير آخر: وحدة السكان والثقافة والحضارة على مدى سبعة آلاف من السنين.

الإنسان العربي هو الأصل والأرض العربية هي المهد:

قبل أن ننتقل إلى الحديث عمن دعوا ب “الساميين” نرى أن لا بد لنا من التوقف قليلاً عند الحقائق التالية:

1 – لقد ثبت علمياً وتاريخياً ووثائقياً أن الأرض العربية هي مهد الإنسان العاقل الأول على هذا الكوكب، وأن وجوده عليها بقي مستمراً دونما انقطاع خلال عشرات الآلاف من السنين.  هذا ما أكده مؤخراً جميع علماء إنسان ما قبل التاريخ، وقد أغنى البروفسور “كون” الأستاذ في جامعة بنسلفانيا هذه الحقيقة بالنتائج التي توصل إليها من خلال حفرياته في “غاري” (ثنية البيضا) و”جرف العجلا” القريبة من تدمر مؤكداً أن سوريا والصحراء العربية التي كانت جنة من الخصب على الأرض قبل أن يصيبها التصحر في العصر الدفيء الأخير إنما هي مهد إنسان الهومو سابيانس Homo Sapiens جد الإنسان الحالي، والمكان الذي انطلقت منه كل الأقوام التي سكنت كل القارات، فقد عثر في المكانين المتقدم ذكرهما على أدوات صوانية وبقايا عضوية من العهدين الأشولي والموستري الليفالوازي، ويعود تاريخ الزمن الأول إلى 60 ألف سنة قبل الميلاد، والزمن الثاني إلى 30 ألف سنة قبل الميلاد، مما جعل الأستاذ “كون” يقول أن هذا الإنسان أقام في تلك البقعة 30 ألف سنة متعاقبة، وهذه المدة الطويلة لم تتحقق لأية إقامة بشرية في أية بقعة أخرى من العالم، وقد وجد الإنسان العاقل في غابات المنطقة المكتظة والمندثرة حالياً، ومراعيها الخصيبة الزائلة، خير مكان يقطنه ويتطور فيه خلال الأزمنة التي كانت فيها الحياة متعذرة في أماكن أخرى بسبب الجموديات والثلوج…

وكل الدلائل تشير إلى أن عناصر عربية هائلة يطلق عليها المؤرخون اسم الآكاديين أقامت خلال الألف الرابع قبل الميلاد في العراق وصحراء الشام وسورية (الحالية) وأسهمت في إنشاء وتطوير جميع المدنيات التي نعرفها من مكتشفات موقعي تل حلف والعبيد وغيرهما.  (سليم عادل عبد الحق، مدير الآثار العام الأسبق في سوريا، “سوريا أرض عربية تطفح بروائع الآثار”، مجلة الحوليات الأثرية السورية، المجلد السابع 1957، ص 10-11).

2 – إن التراكمات الحضارية الكمية للتجمعات البشرية لهذا الإنسان هي التي أدت بالضرورة إلى تطورها النوعي، فكانت منشئة أولى قرى الصيادين في العالم وكانت أول من عرف التدجين والزراعة والتجارة والدين والحرفة والفن والعلم والأسطورة وغيرها.  وذلك منذ أن أنجزت أول ثورة زراعية في العالم حوالي الألف الثاني عشر قبل الميلاد.

3 – إن عقيدة الخصب الزراعية التي أبدعها إنسان هذه التجمعات قد تركت لنا تراثاً هائلاً زودنا بمعطيات أساسية قد مكنتنا من الكشف عم حقيقة هويته القومية العربية من خلال أسماء الأرباب والمدن والأبطال الخالدين من أبنائه، فمن المعروف أنه ما أن انتقل هذا الإنسان من حياة الصيد والتنقل إلى حياة الزراعة والاستقرار حتى انتقل التقديس من القمر واعي الرعاة إلى الشمس راعية الخصوبة والإنبات وإنضاج المحاصيل.  فصارت أسماؤها والصفات المقترنة برب الشمس هي السائدة في كل أرجاء الوطن من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، ومن أعالي الفرات إلى أعالي وادي النيل.  ومن أسماء الرب الشمس في ديانة الخصب العربية: الرائي، الراعي، العلي، الرقيب، الحامي، البهي، السني، المنير، المعجز، أو صاحب الآيات والأعاجيب، فكانت كل منطقة تتوجه إلى الشمس بأحد أسمائه هذه، “أنو” في منطقة السراة والخليج، و”رن” (الرائي البصير، الشفوق) في منطقة السراة، و”رع” (الراعي، الرقيب، الحامي المعتني) في وادي النيل، و”أل” أو “عل” (العلي، السامي) في كل ما يدعى اليوم بشبه جزيرة العرب، ومن ألقاب “إيل” أيضاً “جرونو” وتعني بالعربية القديمة البهي، المنير، الساطع، و”زيو” وتعني البهي، السني، المتلألئ، الساطع، وهي الصفة أو اللقب الذي انتقل مع العرب السوريين إلى ما دعي فيما بعد ببلاد اليونان وتقدس هناك (تحت اسم “زيوس”).

5 – وبالنسبة لعلم الآثار، فإن المتخصصين فيه وفي جميع العلوم المساعدة له من علم قراءة الخطوط القديمة أو البالينوغرافيات إلى علم اللغات، وعلم الشيفرة، وعلم الوثائق، وعلم النقود، وعلم الأختام، وعلم النقوش، وعلم الأسماء، وعلم الأقوام والعروق وغيرها قد تعاونوا معاً في قراءة آثارنا الغنية كماً ونوعاً، والتي توزعتها متاحف الدول الغربية، فشكلت تسعين بالمئة من محتوياتها المتعلقة بالعصور القديمة، وهذا طبيعي، لأن تاريخ حضارات العصور القديمة، مثله مثل تاريخ حضارات العصور الوسطى، هو في غالبيته الساحقة لا يخرج عن إطار الحضارة العربية.  نعود فنقول: إن معطيات كل تلك القراءات الآثارية تؤكد جميعها وحدة الحضارة للشعب العربي في الأرض العربية كلها بكل تسمياتها: عبيدية، أو سومرية، أو آكادية، أو بابلية، أو آشورية، أو فينيقية، أو مصرية، أو غيرها.

6 – في الوقت الذي تؤكد فيه هذه المعطيات جميعها أن الوطن العربي هو مهد الإنسان العاقل ومهد حضاراته المتنوعة عبر العصور، فإنها تؤكد، في الوقت نفسه، عدم وجود أية حضارة أخرى عاقلة متواقتة مع حضاراته أو سابقة لها، وبالتالي فقد استحق بجدارة أن يسمى “مهد الحضارة” وتسقط عنه تلك التسمية المغرضة “ملتقى الحضارات”، كما تسقط معها المقولة المغرضة الأخرى حول “الحضارات الوافدة على المنطقة” ومنها حضارة السومريين، بعد أن أكد جميع العلماء المنصفين والموضوعيين في العالم بطلان مثل هذا الزعم، ومنهم إدوارد دورم الذي كتب يقول: “إن علاقات هذه الأقوام بالأمم التي كانت قبلها مقيمة هناك، وهي من نفس المنشأ، كعلاقات سكان السهوب بسكان السهول، أو العلاقات التي تعكسها الأسطورة السومرية بين أنكيدو وجلجامش، فالعربي الجديد قبل عصر التاريخ مباشرة هو أنكيدو، والعربي القديم المتمدن المقيم هو جلجامش، والاتفاق بين البطلين كان اتفاقاً بين سكان السهوب الرحل وسكان السهول من الحضر، وسيصبح نموذجاً للاتفاق الذي يجري بين فترة وفترة، وسنة وسنة، ويوم ويوم، منذ ذلك التاريخ وحتى عصرنا هذا أثناء قدوم العناصر العربية من شبه جزيرة العرب، وترشحها إلى العراق وسوريا والأردن وغيرها، كما يقول العالم رنية دوسو” (المرجع السابق من سليم عادل عبد الحق).

إن أنكيدو في الأصل ه نقيدو، فالهاء أداة التعريف العربية القديمة كانت تلفظ كالهمزة في كثير من الأحيان، أما “نقيدو” فهي في القاموس الأكادي أو الكلداني، أو السرياني، أو الفينيقي: راعي الغنم، ورئيس الرعاة، وفي قاموس “محيط المحيط” نجد: “النقد أيضاً جنس من الغنم قبيح الشكل صغير الأرجل يكون بالبحرين، ومنه المثل أذل من النقد، وقال الأصمعي أجود الصوف صوف النقد، وقال الشاعر:

لو كنتم ماءً لكنتم زبداً                     أو كنتم ضأناً لكنتم نقدا

وهذا دليل لغوي آخر على أن أصل السومريين من منطقة الخليج حيث جنتهم الغريقة في دلمون عند البحرين.

أما “شجرة الهلبو” فهي “الحلفا” إذ أن العرب القدامى كانوا يلفظون الفاء P.  وهي الشجرة التي قطعتها “أنانا” لتصنع منها ال”بكو” وال”مكو” اللذين احتار كريمر في معنييهما، ثم افترض أنهما “الطبل” و”مضرب الطبل” فنقلها عنه النقلة العرب كحقيقة لغوية علمية ثابتة في الوقت الذي وضعها هو افتراضاً (صموئيل نوح كريمر، “من ألواح سومر”، ترجمة طه الباقر، مكتبة المثنى ببغداد ومؤسسة الخانجي بالقاهرة، دون تاريخ، ص 324).

ونحن لو فتحنا أياً من القواميس العربية القديمة لوجدنا:

“بكو” تعني النول، نول الحياكة، و”بكت” تعني نسج، حاك، أما “مكو” و”مكوكو” فتعني المكوك، وهكذا نجد أن “إنانا” قطعت شجرة “الحلفا” لتصنع من الجذع “نولاً” ومن الفرع “مكوكاً” كما هو وارد في القصة، وتظهر حقيقة اللغة التي تكلم وكتب بها العرب السومريون عربية صميمة لا تختلف عن بقية شقيقاتها العربيات إلا باللهجة.  فالسومريون كانوا يلفظون القاف قريبة من الجيم المصرية كما يلفظها عرب المناطق الشرقية حتى اليوم.

من كل ما تقدم نخلص إلى النتيجة الحاسمة، وهي أن الوجود العربي في الأرض العربية سابق لوجود أي شعب آخر، وقد أبدع على هذه الأرض أولى حضارات العالم، ومنها انتقلت إلى باقي أصقاع العالم القديم.

2024 الصوت العربي الحر.