حدود اللعبة الأمريكية في سورية

July 19th 2017 | كتبها

د. إبراهيم علوش

على الرغم من التصعيد إزاء سورية في الأشهر الأخيرة في تصريحات المسؤولين الأمريكيين وبعض الخطوات والمناورات الميدانية، في محاولة للإيحاء أن الولايات المتحدة على وشك الإنقضاض مجدداً كما سبق أن فعلت في أفغانستان والعراق، فإن التدقيق الهادئ فيما يجري يدلل على أنه تصعيدٌ ذو طابعٍ استعراضي سيظل مقيداً في النهاية بحدود القدرة الأمريكية على التورط الكلي والشامل في سورية من جهة، وبالتزام سورية وحلفائها الكلي والشامل، من جهةٍ أخرى، بخوض المعركة حتى النهاية.

فالولايات المتحدة أبعد ما تكون عن الشروع بمحاولة اقتراف احتلالٍ جديدٍ في سورية، وهي لما تتخلصْ بعد من تبعات احتلالها الفاشل للعراق وأفغانستان، وهي أبعد ما تكون عن إرسال الجيوش وإحضار النعوش وهدرالمليارات وتدمير الذات لتمويل مغامرة جديدة من هذا النوع.   ولا يوجد حتى شبه إجماع داخلي في المؤسستين العسكرية والسياسية الأمريكية يدعم القيام بمثل هذه الخطوة الرعناء، ونذكر هنا أن ترامب وصل للحكم جزئياً بناءً على برنامج انتخابي ينتقد المغامرات الخارجية ويدعو لتقليص الدور الأمريكي في الخارج وللتفاهم مع روسيا، وإذا كانت المحصلة النهائية للسياسات الأمريكية نتاج المقايضات والصراعات بين مراكز القوى المختلفة في النظام الأمريكي، وإذا كان ترامب أضطر للخروج عن الخط الذي تبناه في حملته الانتخابية في بعض المفاصل، فإن ذلك لا يعني بتاتاً أن الولايات المتحدة مهيأة نفسياً أو سياسياً لخوض حرب كبرى جديدة تعرف جيداً أنها ستُدخِلها في مستنقع الدم والاستنزاف، وأن دخولها أسهل من الخروج منها.

ولو ذهبنا بالتصعيد اللفظي والميداني الأمريكي إلى ما دون الانجرار للتورط الكلي والشامل في سورية، إلى مستوى تصعيد الضربات الجوية والصاروخية مثلاً، من دون الدخول بعشرات الآلاف براً، فإن ذلك سيمثل تحدياً مباشراً لمنظومة الدفاع الجوي فوق سورية، وهو ما لا يمكن لسورية أو روسيا أو إيران أن تسكت عنه، كما سيمثل تصعيداً خطيراً لا يمكن التنبوء بعواقبه الإقليمية والدولية خارج سورية.  وروسيا لم توافق على دخول الميدان، بناءً على طلب الدولة السورية، لكي تتعرض لإهانة أمريكيةقد تهز صورتها العالمية من دون أن ترد بقوة.  وسورية لم تدفع أغلى التضحيات وتصمد مثل هذا الصمود الأسطوري لتواجه عدواناً كهذا لو وقع ويداها مكتفتان، فالدفاعات الجوية السورية تمتلك إمكانيات كبيرة ومهمة، والرد قد لا يكون جوياً فحسب على أية حال.  فما يبدأ جوياً لا ينتهي جوياً بالضرورة.  والنقطة الأخرى هنا هي أن تصعيداً من هذا النوع قد يفتح الأبواب لمواجهة كبرى مع إيران على مستوى إقليمي، قد تفجر المنطقة في الواقع، ولن يكون الكيان الصهيوني بمنأىً عنها على الأرجح.

من الواضح أن دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة السورية راح يتبلور أكثر فأكثر كحملة ضد الدولة السورية ومحور المقاومة وروسيا، وثمة فروق عديدة بين قطبي هذا الصراع، منها أن محور المقاومة وروسيا يحاربان في مجالهما الحيوي، أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فيسعون للتمدد خارج مجالهم.  النقطة الثانية هي أن حلفاء سورية أكثر تماسكاً من حلفاء الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الذين نرى الصراعات تمزقهم داخل سورية وعلى مستوى الإقليم.  النقطة الثالثة هي أن سورية تدافع عن وجودها وحياتها، فيما تمارس الولايات المتحدة وحلفاؤها المغامرة العدوانية، والأفضلية في معركة من هذا النوع تقع إلى جانب المدافع، بحسب حكيم “فن الحرب” الصيني صن تزو.  والمقصود مما سبق أن حزم وإصرار سورية وحلفائها أكبر بكثير، وهو ما يلمسه القاصي والداني، ولا شك أن الولايات المتحدة تدركه أيضاً، وتدرك معنى التورط في صراع عسكري مع طرف قرر أن يخوض المعركة حتى النهاية.

وتستطيع الولايات المتحدة أن تعيث خراباً وأن تثير الفتن وأن تطيل أمد الأزمة في سورية، وتستطيع وحلفاؤها أن يعطلوا الحل السياسي، لكنها لا تستطيع “انتزاع سورية” أو احتلالها أو فرض التبعية عليها، ولذلك فإن اللعبة الأمريكية في سورية اليوم تقوم على التظاهر بالتفلت لدخول الحلبة بكامل عددها وعتادها، إنما هو تهويلٌ وتهويشٌ هدفه إيجاد موقع مؤثر لها على طاولة المفاوضات وعدم الخروج من المولد بلا حمص في صياغة مستقبل سورية في اللحظة التي بات من الواضح فيها أن الميزان الميداني والسياسي يميل فيها بشكلٍ حاسمٍ مع سورية وحلفائها.  فالولايات المتحدة لا تملك القدرة ولا الاستعداد على فرض رؤيتها على مستقبل سورية، إنما باتت في موقع من يحارب “التهميش” في سورية، ونلاحظ هنا أن حسها “الهجومي” ازداد طردياً مع انهيار وضع الجماعات التكفيرية والعصابات المسلحة.

كما تحاول الولايات المتحدة من خلال التهويش و”الهوبرة” أن توحي لحلفائها في أنظمة البترودولار أنها تسير بالاتجاه الذي ما برحوا يتوسلون إليها أن تتبعه في سورية منذ سنوات، وهو الإنخراط العسكري المباشر، ولكنهم سيكتشفون أنهم خُدِعوا في النهاية، بعد أن يكونوا قد قدموا التعاون المطلوب منهم أمريكياً في ملفات شتى، من الابتزاز المالي إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني.

تحاول الإدارة الأمريكية أيضاً أن تبدو أكثر صلابةً وتماسكاً من إدارة أوباما التي طالما اتهمها ترامب بالضعف والتردد، إنما حدود القوة الأمريكية في سورية التي واجهت الإدارتين هي التي تفرض نفسها، وفي الحالتين، لم تجد الإدارة الأمريكية مفراً من القبول بالرعاية الروسية للحل السياسي في سورية، إن أرادت أن تسلك باب الحل، وإن لم ترد، فإن عليها أن تقبل بالتهميش.  وإن أرادت المواجهة مع محور المقاومة، فإن ذلك سيفتح أبواب الجحيم في الإقليم ككل، فخيارها الأفضل يظل محاولة تحسين شروط الحل من منظورها وتدعيم وضعيتها في سورية من خلال الوكلاء المحليين والإقليميين، وقد ثبت بعد ست سنوات ونيف منذ بداية الأزمة أنهم مثل “معلميهم” في الإدارة الأمريكية يقوون على التدمير والتخريب ولا يقوون على فرض رؤيتهم ومشروعهم.

تشرين 19/7/2017

http://tishreen.news.sy/?p=101066

للمشاركة على فيسبوك:

حدود اللعبة الأمريكية في سوريةد. إبراهيم علوشعلى الرغم من التصعيد إزاء سورية في الأشهر الأخيرة في تصريحات المسؤولين …

Geplaatst door ‎إبراهيم علوش‎ op woensdag 19 juli 2017

الموضوعات المرتبطة

ماذا تعني دعوة القوى الدولية لـ”حماية الأقليات” السورية؟

إبراهيم علوش – الميادين نت كفى بالمرء دليلاً على وجود نخبة عالمية متنفذة تُؤرجِحُ خيوط المشهد من خلف الستائر ومن أمامها أن يتزايدَ الانفتاحُ، دولياً وعربياً وإسلامياً، على النظام الجديد [...]

هل طوفان الأقصى “مؤامرة” على محور المقاومة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت على ضفتي سنة 2000، احتدم جدال في الساحة الفلسطينية، وبين المعنيين بالشأن الفلسطيني، بشأن العمليات الاستشهادية التي أثخنت الكيان الصهيوني رعباً وقتلى وجرحى.  [...]

ترامب يجابه الدولة العميقة على صعيدي المساعدات الخارجية وأوكرانيا

  إبراهيم علوش – الميادين نت لأن أي تحول جوهري في بنية المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، وبالتالي في توجهاتها، تنعكس ظلاله بالضرورة على مصفوفة العلاقات الدولية، وبالتالي على مسار [...]

هل يصمد وقف إطلاق النار في غزة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان لافتاً ضغط ترامب على نتنياهو للقبول باتفاق وقف إطلاق نار في غزة.  بات واضحاً أنه الاتفاق ذاته الذي عملت إدارة بايدن على صياغته في أيار / مايو الفائت، [...]

مسألة هوية “سوريا الجديدة”: برميل بارود برسم الانفجار

  إبراهيم علوش – الميادين نت يبدو أن هناك تواطؤاً سورياً عاماً، من جراء إرهاق الحصار ربما، ووطأة سنوات القتال، على تمرير "المرحلة الانتقالية"، ريثما تتضح معالم ما يسميه البعض "سوريا [...]
2025 الصوت العربي الحر.