May 2nd 2018 | كتبها
admin
د. إبراهيم علوش
تحرير القوات المسلحة لأربع قرى شرق نهر الفرات وهي (الجنينة ـ الجيعة ـ شمرة الحصان ـ حويقة المعيشية) يمثل تطوراً مهماً في المشهد السوري على عدة صعد، فهذه العملية تمثل أولاً رسالة سياسية بأنه ليس هناك من خطوط حمر “شرق الفرات” أم في غيره أمام الجيش العربي السوري والقوات الرديفة والحليفة في أي بقعة من بقاع سورية، وتمثل ثانياً مفاجأة تكتيكية ناجحة من المنظور العسكري في وقتٍ تركزت فيه توقعات المحللين على انتقال الجيش العربي السوري، بعد تأمين محيط دمشق وريفها، شمالاً أو جنوباً، وتمثل ثالثاً، من الناحية العسكرية أيضاً، تأميناً لمحيط دير الزور من جهة شرق الفرات، وتمثل رابعاً، وهذا هو الأهم، اختراقاً مهماً لمشروع “تفكيك سورية” الذي اعتقد البعض أن الميليشيات الانفصالية المدعومة أمريكياً سوف يكون لها دوراً مهماً فيه، وتمثل خامساً خطوة باتجاه حقول النفط والغاز شرق الفرات التي يعتقد الأمريكيون ووكلائهم بأنهم سوف يربِخون عليها.
ولا تزال الأنباء متضاربة حول العدوان الصاروخي الذي قيل أنه استهدف مواقع عسكرية في ريفي حماة وحلب في الساعة العاشرة والنصف من مساء الأحد الفائت، إلا إنه لو صح أنه قصفٌ انطلق من قواعد أمريكية مجاورة، فإنه يكون رداً على خطوة الجيش العربي السوري الأخيرة شرق الفرات، لا على انهيار جبهة “داعش” وإخوته في اليرموك والحجر الأسود فحسب، مع العلم أن التكفيريين كانوا قد طالبوا بالانتقال إلى جيوب “داعش” في دير الزور، وهو الأمر الذي رفضته الدولة السورية طبعاً، ولا سيما أن المظلة الأمريكية في المنطقة هي التي تحفر لتحقيق مشروع “التقسيم”.
الأداة الرئيسية التي يحملها الأمريكيون لتمرير مشروع التقسيم هي الخطاب الطائفي والإثني، ودعم القوى التكفيرية والإرهابية والانفصالية، ومحاولة تمرير مشروع “الفيدرالية” الذي تحاول بعض المنظمات الدولية والغربية فرضه على سورية كـ”شرط” لتقديم مساعدات إعادة الإعمار، التي لم تطلبها سورية من تلك المنظمات الدولية والغربية أصلاً، لكن الأداة الميدانية المباشرة تبقى ما يسمى “وحدات سورية الديموقراطية” التي تحتمي بقواعد عسكرية أمريكية في شمال سورية وشرقها، وتتمتع بالدعم الأمريكي والغربي، وتمارس سلوكاً انفصالياً وهي تتغطى بخطاب “شعوبي” يزعم الأممية من أجل محاولة فرض سلطة “فدرالية” بديلة عن سلطة الدولة العربية السورية في المناطق التي تسيطر عليها، ونسبة كبيرة من هذه المناطق، ولا سيما في شرق سورية، التي لا يوجد فيها مكون كردي أصلاً، بل الكثير من النفط، وربما مسارٌ محتملٌ لخط غاز. ولا بد من التذكير هنا أن المواطنين الأكراد في سورية هم بالأساس مهاجرون من تركيا، وقد استقبلتهم سورية، وساوتهم بمواطنيها، ومنحتهم جنسيتها، أما اللعب بقصة الانفصال فسوف يواجه مصيراً محتوماً كالمصير الذي واجهه في شمال العراق، والأمريكيون والصهاينة الذين دفعوا باتجاه الانفصال في شمال العراق هم انفسهم من يدفعون باتجاهه في سورية، ولعل الدرس الذي يجدر تعلمه هنا هو أن الأمريكيين والصهاينة يحاولون زج الأخوة الأكراد في أتون صراع أهلي نحن وهم بغنى عنه، والأمريكيون والصهاينة سيكونون أول من يتخلى عن الأكراد عندما يحتدم الصراع لا سمح الله، ولذلك فإن مصلحة الأكراد والعرب تتمثل بالتفاهم على قاعدة المواطنة، وعلى قاعدة مواجهة مشروع التمدد العثماني الذي يهضم حقوق العرب والأكراد وغيرهم على حدٍ سواء.
ولا يختلف الأمر كثيراً لو جاء استهداف المواقع السورية والحليفة من قبل العدو الصهيوني عما لو جاء من الإمبريالية الأمريكية، سوى أن الصهاينة أكثر توتراً من انتصارات الجيش العربي السوري، ومشروع “تقسيم” سورية هو جزء من المشروع الصهيوني لتقسيم البلدان العربية، ولا سيما المركزية منها، والذي برزت أبعاده في عددٍ من الوثائق المعروفة مثل وثيقة كيفونيم عام 1982، ووثيقة كارينجا في الخمسينيات، كما أن التاريخ الاستعماري الفرنسي والبريطاني في بلادنا منذ القرن التاسع عشر يقوم على مبدأ مركزي هو منع وحدة المنطقة والسعي لتكريس تقسيمها، من العدوان الاستعماري على تجربة محمد علي باشا الوحدوية عام 1840 حتى اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، وبعد أن ورثت الإمبريالية الأمريكية مشروع الهيمنة على وطننا العربي، صار مشروع التقسيم مشروعاً أمريكياً-صهيونياً أساساً، ومن هنا نفهم دستور نوح فلدمان بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، وتكريس مشاريع الفدرالية القائمة على التوازنات الطائفية والإثنية غير المستقرة بطبيعتها. ومن هنا نفهم الضغط الأمريكي والصهيوني لتقسيم السودان الذي تكرّس عام 2011. والأهم، أن مشاريع التقسيم تمر دوماً من مرحلة تكسير الدولة المركزية وتفكيكها من الخارج أو الداخل او الاثنين معاً، كما حدث في الصومال وفي العراق وفي ليبيا، وحتى في يوغوسلافيا السابقة، مما يهيئ الأرضية لتقسيم البلاد، ولا شك في أن الطرف الأمريكي-الصهيوني عمل على “إضعاف الدولة المركزية في سورية وتفكيكها” قبل آذار 2011 بأمدٍ بعيد كما تشهد مثلاً وثائق “ويكيليكس” المسربة من السفارة الأمريكية في دمشق والتي كتبت عام 2006، وغيرها كثير.
لذلك فإن مشروع تقسيم سورية هو مشروعٌ قديمٌ، لأن تفكيك سورية والعراق ومصر هو وحده ما يحقق الأمن الاستراتيجي للكيان الصهيوني، ويخفض فرص قيام نزعة وحدوية في الوطن العربي، وبعد العدوان على العراق، والعدوان على ليبيا، وقفت سورية في مواجهة مشروع تقسيمها، وتفكيك دولتها المركزية وشطبها، وقفةً أقل ما يمكن أن يقال فيها هو إنها بطوليةٌ، وإنها وقفة دفاع عن كل الإقليم، لا عن نفسها فحسب، وتمكنت بالتعاون مع حلفائها من قلب ميزان القوى لمصلحتها في مواجهة العصابات التكفيرية والإرهابية المدعومة من الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية والتركية، كما تمكنت من استعادة السيطرة على الكثير من المواضع التي كانت قد احتلتها تلك العصابات، ولا يزال سيل الانتصارات السورية يتدفق، ولن يتوقف حتى استعادة السيطرة على كل شبر من الجغرافيا السورية، لكن مشروع التقسيم لا يزال ماثلاً، لا فيما يتعلق بسورية فحسب، بل بكل الأقطار العربية، ومن الواضح في الحالة السورية تحديداً أن الطرف الأمريكي، والطرف الصهيوني، والطرف التركي، لا يزال كلٌ منهم يسعى لإطالة أمد الحرب، في مسعى لاستنزاف الدولة المركزية وجيشها، لوضع اليد على النفط في شرق البلاد بالنسبة للأمريكيين، ولتأسيس “منطقة عازلة” جنوب البلاد بالنسبة للصهاينة، ولقضم أجزاء من شمال البلاد بالنسبة للأتراك، وتلك الأطراف الثلاثة قوى كبيرة لا نستطيع الاستهانة بها، ولكن إرادة سورية وحلفائها اثبتت أنها أكبر، واثبتت أن سورية ليست لقمة سائغة، وأنها عصية على التفكيك، لذلك فإن معركة الدفاع عن وحدة سورية في وجه مشاريع التقسيم سوف تستمر، حتى دحر مشاريع التقسيم، وقد دخلت الأطراف الثلاثة المذكورة على خط الصراع مباشرةً بعد فشل الوكلاء الإرهابيين والتكفيريين، لكن كلاً منها بات يعرف أنه أمام معادلة صعبة، وقوة ردع حقيقية، سورية وحليفة، اثبتت نفسها في الميدان، ونستطيع أن نقول في الخلاصة أن مشروع التقسيم لا يزال هناك من يرعاه ويسعى لتحقيقه، ولكنه عجز عن تحقيق اهدافه، وواجه حائطاً مسدوداً اسمه الصمود السوري، وما يتبقى من عمر الحرب على سورية سيثبت أنه سيفشل وسيرتد إلى نحر رعاته تحت بساطير الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة. وكما قال السيد الرئيس بشار الأسد في استقباله لوفدٍ إيراني الإثنين الفائت: ما نشهده من تصعيد للعدوان على سورية وانتقال الدول المعادية إلى مرحلة العدوان المباشر بعد الفشل الذريع الذي مني به عملاؤها وأدواتها، لن يزيد السوريين إلا تصميماً على القضاء على الإرهاب بمختلف أشكاله.
“تشرين” السورية، 2/5/2018
للمشاركة على فيسبوك:
هذا الموضوع كتب بتاريخ Wednesday, May 2nd, 2018 الساعة 8:31 am في تصنيف
مقالات سياسية واقتصادية. تستطيع الاشتراك لمتابعة الموضوع من خلال
RSS 2.0 تغذية الموقع.
كما يمكنك
اضافة رد, او
تعقيب من موقعك.
الموضوعات المرتبطة
إبراهيم علوش – الميادين نت
يبدو أن هناك تواطؤاً سورياً عاماً، من جراء إرهاق الحصار ربما، ووطأة سنوات القتال، على تمرير "المرحلة الانتقالية"، ريثما تتضح معالم ما يسميه البعض "سوريا [...]
إبراهيم علوش – الميادين نت
لو أمكن وضع جدولٍ يفصّل الأوزان النسبية لكلٍ من العوامل التي أنتجت الانهيار الكبير في سورية في 8/12/2024، لحق القول، برأيي المتواضع، إن الحصار، وخصوصاً قانون قيصر [...]
إبراهيم علوش - الميادين نت
تتواطأ 3 سرديات على تسويغ تمدد 3 احتلالات، تركية وأمريكية و"إسرائيلية"، في أراضي الجمهورية العربية السورية، منذ ما قبل 8/12/2024. وتستند تلك الاحتلالات إلى دوائر [...]
إبراهيم علوش – الميادين نت
كما في حالة كل حدث مفصلي أو تحول تاريخي، سيستمر الجدال طويلاً بشأن الانهيار الكبير في سورية في 8/12/2024، وبشأن الأهمية النسبية لكل من العوامل التي أفضت إليه. [...]
إبراهيم علوش – الميادين نت
في التوقيت، والجغرافيا السياسية، والأدوات، وتقاطُعِ الأهداف والمصالح، كشف هجوم المجاميع الإرهابية المسلحة في الشمال السوري الصلة العضوية بين رعاته، أي بين [...]