دخلت اللغة العربية بلاد الشام قبل الإسلام بقرونٍ طويلة، ولم تأتِ مع الغساسنة الذين يقول البعض أنهم وطئوا الشام من جهة الصحراء في القرن الثاني أو الثالث للميلاد، ويقول البعض الآخر إنهم قدموا إليها في القرن الخامس.
وليس هذا الخلاف بشديد الأهمية في الواقع إذ أن الغساسنة ملكوا جنوب بلاد الشام وشرقها (من فلسطين والأردن حتى العراق) من قبائل الضجاعمة من آل سليح، الذين ملكوها بدورهم من التنوخيين، الذين جابوا بادية الشام وجنوب بلاد الشام وغرب العراق وشمال الجزيرة العربية في القرن الأول قبل الميلاد.
الفرع الآخر من التنوخيين بالطبع هو المناذرة الذين حكموا في العراق لمصلحة الفرس، فيما حكم الغساسنة جنوب وشرق بلاد الشام لمصلحة البيزنطيين كما استقرت عليه الحال قبيل الفتح الإسلامي.
ويقول هذا المرجع(1) أن التنوخيين استعملوا حرفاً نبطياً كتبوا اللغة العربية به، ومن المعروف أن النبطية هي أبجدية قريبة جداً للآرامية كُتبت فيها اللغة العربية، وحالة الأنباط (من القرن الرابع قبل الميلاد حتى بداية القرن الثاني الميلادي) في جنوب بلاد الشام هي حالة نموذجية حيث اتسموا بازدواجية اللسان، فتحدثوا العربية وكتبوها بالحرف الآرامي، كما تحدثوا لكنة آرامية خاصة متأثرة بالعربية، ثم انتقلوا تدريجياً منذ القرن الرابع الميلادي من التحدث بالآرامية إلى التحدث بالعربية(2).
الغساسنة بدورهم جاءوا إلى بلاد الشام عرباً بالكامل، لكنهم سرعان ما انتقلوا إلى حالة ازدواجية اللسان فراحوا يتحدثون بالعربية والآرامية، وكانت مراسلاتهم بالحرف الآرامي، بحسب هذا الموقع السرياني(3) الذي يقول أيضاً إن العرب (يقصد البدو) شدتهم الأراضي السورية الخصبة منذ القرن الثاني الميلادي. فأنشأوا امارات في حمص وتدمر والبتراء وفي لبنان وجنوبي الشام وفي أرض حوران.
وليس هذا بالأمر المفاجئ بالطبع بالنظر إلى علاقة القربى الوطيدة بين العربية والآرامية، وبالنظر للوحدة الحضارية للمنطقة، مع التذكير أن الآراميين هم بدورهم بدوٌ من شمال الجزيرة العربية سبقهم العموريون لبلاد الشام الذين سبقهم إليها أيضاً الكنعانيون، وكلهم بالأساس بدو من الجزيرة العربية.
من المعروف طبعاً أن الآرامية هي أم السريانية، وأن العربية والآرامية أختان، وأن كلاهما ارتبط بعلاقات تفاعل ونسب مع اللغات العربية القديمة الأخرى، ولذلك تجاورتا وتفاعلتا على مدى قرون في بلاد الشام وفي المنطقة ككل، كما استمرت السريانية إلى جوار العربية، ولو بشكلٍ متناقص، بعد قرونٍ من دخول الإسلام إلى بلاد الشام، لا سيما في القرى، إلى العهد المملوكي في القرن الثاني عشر الميلادي، وإلى القرن الثالث عشر الميلادي في العراق الأوسط(4).
بالمناسبة، لم يُضعف اللغة الآرامية في بلاد الشام إلا دخول اللغة اليونانية، التي بقيت لغة الحكم البيزنطي لأكثر من سبعة قرون، حتى أن الخلافة الأموية لم تبدأ بتعريب دواوين الخراج إلا في عام 65 للهجرة، في عهد عبدالملك بن مروان، وكانت دواوين الخراج باليونانية في بلاد الشام ومصر، وبالفارسية في العراق.
باختصار، العربية تواجدت مع الآرامية في بلاد الشام وغيرها على مدى قرون، أساساً في جنوب بلاد الشام وشرقها، ولكن أيضاً في المدن بفعل التأثير التجاري والثقافي والاجتماعي المتبادل، وعندما تحولت الآرامية إلى سريانية، ظلت السريانية مستخدمة للتخاطب في بلاد الشام وقسمٍ من العراق حتى القرون الوسطى، حتى حلت العربية محلها تماماً مع العهد المملوكي تقريباً.
إذاً اللغة العربية أصيلة في بلاد الشام، ولم تأتِ مع “الغزو العربي” كما يزعم البعض، وليست العروبة في بلاد الشام غزواً، ولا العربية دخيلة، ولذلك ليس من المستغرب أن تتداخل تعابير اللغتين، وقواعدهما، وأن نجد الكثير مما يعتبر “عامياً” في بلاد الشام من أصولٍ آرامية-سريانية هي والعربية أختان في النهاية.
إبراهيم علوش
للمشاركة على فيسبوك:
العربية والسريانية في بلاد الشام: أختان لا عدوتاندخلت اللغة العربية بلاد الشام قبل الإسلام بقرونٍ طويلة، ولم تأتِ مع…
Geplaatst door إبراهيم علوش op Maandag 27 mei 2019
1.
Irfan Shahid (2010). Byzantium and the Arabs in the Sixth Century, Volume 2, Part 2 (illustrated ed.). Harvard University Press.
2. Cantineau, J. Le Nabatéen. Paris: Librairie Ernest Leroux, 1930.
3. http://www.karozota.com/2011/sidor/110627Alberabona.html
4. سوريا صنع دولة وودلاة أمة، وديع بشور، دار اليازجي، دمشق 1994، ص.136