العمل القومي: لا نجاح من دون التعلم من التجارب الفاشلة

May 30th 2020 | كتبها

إذا كانت التجارب القومية العربية خلال القرنين الأخيرين قد انكسرت أو فشلت، فإن ذلك لا يعني سقوط الفكرة القومية، كما أن سقوط السلطنة العثمانية لا يعني انتهاء مشروع الإسلام السياسي، وسقوط الاتحاد السوفييتي السابق لا يعني سقوط الفكرة الاشتراكية، سوى أن السلطنة العثمانية والاتحاد السوفياتي تَقَوّضَا من الداخل، تحت وزن عوامل الفشل الداخلية أساساً، أما كل تجربة قومية عربية خلال قرنين فقد تمّ تقويضها من الخارج، تحت وزن العوامل الخارجية أساساً، من دون أن ننفي وجود عوامل تدخل خارجية في الحالة الأولى، وعوامل ضعف داخلية في الحالة الثانية، إنما العبرة في الوزن النسبي لكلٍ منهما. وإذا وضعنا الاستهداف المباشر للأنظمة والتجارب القومية قديماً وحديثاً، وأخذنا تجربة الوحدة المصرية-السورية (1958-1961) نموذجاً لما قد يعتبره البعض تجربة وحدوية طوعية “فاشلة”، فإننا نذهب مع ياسين الحافظ إلى أنها اغتيلت اغتيالاً، ولم تفشل أو تسقط من تلقاء ذاتها، ومن ثم فقد تمّ استخدام ذلك الاغتيال لتعهير الفكرة الفكرة الوحدوية نفسها: “في 28 أيلول 1961 قُتلت وحدة العام 1958 بين مصر وسورية، أول وحدة في تاريخ العرب المعاصر. لكنّ عملية القتل هذه لم تنهِ المسألة: حقاً أن الوحدة-الجسد، الوحدة-الكيان قد اغتيلت، لكن الوحدة-الفكرة، الوحدة-المثل، الوحدة-الطوبى ما تزال قائمة. والمطلوب هو دفن الأخيرة عن طريق تعهير الأولى، التي تُلاحق بعد قتلها أكثر مما لوحقت في حياتها” (ياسين الحافظ، “في المسألة القومية الديموقراطية””، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الثانية، 1997، ص 110).

إنّ الفكرة القومية تبقى إذن ضرورة موضوعية في زماننا المعاصر لأن ظروف واقعنا العربي تبقيها معاصرة، أما هذه التجربة القومية العربية أو تلك فتبقى مجرد محاولة على طريق تحقيق تلك الفكرة التي لا خيار سواها. فهي ليست تجربة مهدورة إلا إذا لم نتعلم دروسها وتعاملنا معها كقضاء وقدر ليس إلا…

بالتحديد أكثر علينا أن نسألَ أنفسنا: ما هي الشروط التي لم تُستكمل لنجاح أي واحدة من تلك التجارب القومية العربية؟ أين أخفَقنا؟ وأين نجحنا؟ وكيف نحقق شروط النجاح في التجربة المقبلة بالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية؟ ذلك هو التحدي الذي يواجهنا. ولو بقينا نحاول ونفشل قرنين آخرين، فإنّ نجاح المشروع القومي لن يتحقق بالأماني أو عن طريق محاسن الصدف، ولن ينجح حتى نحقق شروطه الملموسة. فإن لم ننجح، فإن ذلك يعني أننا ما زلنا نرتجل، لا نتعلم من التجارب السابقة، ولا نقرأ الواقع وتناقضاته جيداً، وهذا لا يعني بتاتاً أن الفكرة القومية التي ترشح بديهياً من ظروف الواقع العربي في مرحلة التحرر القومي، هي فكرة بائدة لا فائدة ترجى منها، بل يعني أننا معشر القوميين لم نكن بمستوى التحدي.

وكما لا يتوقع العالِم أن تنجح محاولته في المختبر من التجربة الأولى، أو أن تنجح بقوة دفع حسن النوايا فحسب، كذلك علينا أن ندرك جيداً أن تعقيد ظروف الواقع العربي المعاصر يتطلب منا أن نحقق شروطاً أصعب وأكثر تعدداً وتفصيلاً من أي تجربة وحدوية أخرى، فإذا كانت الصين قد احتاجت لسبع عشرة محاولة لكي تتوحد، وإذا كانت إيطاليا قد احتاجت لأكثر من 350 عاماً كي تتوحد، على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ تحقيق شروط المشروع القومي العربي يتطلب منا لا أن ندرس قوانين التجارب الوحدوية العالمية في العصر الحديث فحسب، كما دأب الدكتور نديم البيطار على مطالبة القوميين، بل أن ندرسها لنتعلم القوانين العامة للوحدة، ومن ثم أن نشتق فوقها قوانين المشروع القومي الخاصة بنا. فإذا كانت تجربتنا أصعب، فلأن جائزتها أكبر، وعواقب الفشل فيها أخطر، ومخاوف أعدائنا من نجاحها أدهى وأمر، ولأن قدرنا أن نكون الأولين أو الآخرين لا توسّط عندنا، نعيش في القبر أو نرتقي إلى الصدر، وكما قالها أبو فراس الحمداني:

ونحنُ أناسٌ لا توسطَ عندنا

لنا الصدرُ، دون العالمين، أو القبرُ

د. إبراهيم علوش

للمشاركة على فيسبوك:

العمل القومي: لا نجاح من دون التعلم من التجارب الفاشلةإذا كانت التجارب القومية العربية خلال القرنين الأخيرين قد انكسرت…

Geplaatst door ‎إبراهيم علوش‎ op Zaterdag 30 mei 2020

الموضوعات المرتبطة

تفكيك الهوية والجغرافيا في مصطلح “الشرق الأوسط” ومشتقاته

  إبراهيم علوش – الأسبوع الأدبي* نشأت مصطلحات الشرق الأدنى، والأوسط، والأقصى، في مطابخ الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر في سياق الصراع الدولي آنذاك بين الإمبراطورية البريطانية [...]

استمرار الحرب يُدخِل الاقتصاد “الإسرائيلي” في دورة تآكل

    إبراهيم علوش – الميادين نت من انخفاضٍ معدلات نمو الاقتصاد، وارتفاعٍ العجز الحكومي والدين العام وتكاليف الحرب ذاتها، إلى شلل الشمال و"إيلات" اقتصادياً، إلى إفلاس آلاف الشركات [...]

تناقض ترامب مع مشروع العولمة هو ما دفع الدولة العميقة إلى السعي لتصفيته

الشأن الاقتصادي في ميزان الانتخابات الأمريكية المقبلة    إبراهيم علوش – الميادين نت 12/7/2024 تقول استطلاعات الرأي إن المسائل الاقتصادية تتبوأ مراتب أعلى في سلم اهتمامات الناخب العادي [...]

قراءة في خلفيات الانتخابات الأمريكية المقبلة وآلياتها

  إبراهيم علوش – الميادين نت يمثل تاريخ الـ 5 من تشرين الثاني / نوفمبر المقبل لحظةً مفصليةً للتيارات المتصارعة في إطار النظام السياسي الأمريكي، فهو التاريخ الذي يجري فيه انتخاب رئيس [...]

هل ستشتعل جبهة لبنان، وكم سينخرط الأمريكي فيها؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت     أكدت الإدارة الأمريكية، مجدداً، لوفدٍ زائرٍ من كبار مسؤولي الكيان الصهيوني، بأنها مستعدة بالكامل لدعم حليفتها في حال اندلاع حرب شاملة على الجبهة [...]
2024 الصوت العربي الحر.