معركة سرت وضرورة إسقاط فكرة “الأقاليم الثلاثة” في ليبيا

August 6th 2020 | كتبها

هل هي مصادفة جغرافية فحسب أن تكون سرت هي “خط الموت” الذي وضعه الشهيد القذافي بحرياً عام 1986، وأن تكون هي ذاتها “الخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس السيسي برياً عام 2020؟

فيما تقف معركة سرت على الأبواب، تدخلت الإدارة الأمريكية في “مبادرة” تقضي بانسحاب الجيش الليبي من سرت والجفرة، وبالسماح لمؤسسة النفط الموالية لحكومة الوفاق الإخوانية في طرابلس استئناف عملها في سرت والجفرة، على أن تبقيا منزوعتي السلاح، وهو ما يمثل “مراضاة” أمريكية للنظام الأردوغاني فعلياً، على حساب ليبيا ومصر والعرب والثروات العربية فعلياً، كالعادة.

ليكن واضحاً، منذ البداية، أن مجرد مقارنة مصر والجيش المصري بقوات الغزو التركي في ليبيا أو غيرها، إن كان يدل على شيء، فإنما يدل على فقدان الحس الوطني والانتماء القومي ومصادرة العقل عثمانياً، فليست مثل هذه المقارنة الجوفاء موضع نقاش هنا، وليبيا بصفتها عربية هي شأن عربي أولاً، وشأن عربي قريب بالنسبة لدولٍ عربية مركزية مثل مصر والجزائر، وبالنسبة للشعب العربي عموماً.

وفي ظل مشروع تمدد عثماني سافر كشر عن أنيابه بوقاحة من شمال العراق وسورية إلى اليمن إلى المغرب العربي، فإن المصير العربي المشترك يستصرخ من يتصدى لهذا المشروع، تماماً كما يستصرخ من يتصدى لمشاريع الهيمنة والتفكيك الغربية والصهيونية في المنطقة.

المشكلة أن المبادرة الأمريكية الأخيرة بصدد سرت والجفرة، كما وردت في بيان وزعه مستشار الأمن القومي الأمريكي، روبرت أوبريان، من البيت الأبيض أمس، تظهر أكثر وأكثر مدى عداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة للمصالح العربية، ولمصر تحديداً، فلا يمكن للإدارة الأمريكية أن تكون طرفاً “محايداً” في ليبيا بالذات وهي التي لعبت دوراً مشهوداً في العدوان عليها عام 2011، وفي دعم العصابات الإرهابية والتكفيرية التي عاثت فيها فساداً بعد عام 2011.. وهي اليوم بمبادرتها الجديدة حول سرت والجفرة تحاول وضع مصر في الزاوية سياسياً ودبلوماسياً بعد إعلانها رسمياً أنهما خطٌ أحمر، لا سيما بعد بدء إثيوبيا بملء سد النهضة.

هنا لا بد من العودة خطوة للوراء لكي نتساءل: ما هو المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، هذا المشروع الذي يمكن القول إنه مشروع أمريكيٌ-صهيونيٌ كما ظهر من خلال السياسات التي اتبعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في ليبيا والعراق وسورية والسودان واليمن وبقية الأقطار العربية؟

إن مشروع الأمن القومي طويل المدى بالنسبة للكيان الصهيوني ومنظومة الهيمنة الغربية هو مشروع تفكيك المنطقة ومحو هويتها المشتركة. وقد تجلى هذا المشروع بوضوح في كتابات المستشرق الصهيوني برنار لويس، ووثيقة كيفونيم (1982)، ووثيقة كارينجا (1957)، ومشاريع تقسيم العراق والسودان وسورية وغيرها…

تتخذ هذه المشاريع اليوم قوالب جذابة من نوع “الفيدرالية” و”الأقاليم”، مثل مشروع الأقاليم الستة في اليمن، و”الحكم الذاتي للأقليات”، إلخ… ومن المهم جداً التنبيه إلى أن المستهدف الأول من هذه المشاريع هو الدول العربية المركزية، وعلى رأسها مصر.

عليه، حان الوقت لكي تدخل مصر المشهد العربي من أوسع أبوابه، أي من المدخل القومي العربي، بصفتها قُطراً عربياً مركزياً، إن لم نقل القُطر العربي المركزي، أما التوهم أن العلاقة مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، أو السعي لمراضاته بشكلٍ أو بآخر، أو مسايرة مخططاته، يمكن أن يشكل غطاءً لممارسة دور إقليمي ما، هو في الواقع دفاعٌ عن الذات، فها هي الوقائع تثبت يوماً بعد يوماً، كما نرى اليوم في ليبيا، أنه ليس مجدياً على الإطلاق، إن لم نقل إنه وهمٌ ضارٌ جداً، لا سيما في ظل التأييد الأمريكي المعلن والمتكرر للتدخل التركي في ليبيا ولحكومة الوفاق الإخوانية، فالمبادرة الأمريكية الأخيرة بصدد سرت والجفرة لا تخرج عن ذلك السياق، بل تمثل نهجاً أمريكياً عاماً واضحاً، ولا حاجة لخداع النفس حول هذا الأمر.

ابتداءً، بما أن المشروع الأمريكي-الصهيوني هو مشروع تفكيك، فإن ذلك يعني في الحالة الليبية تفكيك ليبيا إلى ثلاثة أقاليم (برقة في الشرق، وطرابلس في الغرب، وفزان في الجنوب)، وبالتالي فإن ما تضمنته المبادرة المصرية حول “الحل السياسي” المستند أولاً إلى فكرة الأقاليم الثلاثة في ليبيا، والمستند ثانياً إلى الوصاية والإشراف الدوليين، هو ضد مصلحة مصر أولاً، قبل أن يكون ضد مصلحة ليبيا والأمة العربية، فمشروع الشرذمة والتفكيك الذي ينطلق من العراق وسورية واليمن والمغرب العربي لا بد له من أن يصب في مصر في المحصلة، وعليه فإن مثل هذا المدخل بالذات للحل السياسي في ليبيا غير موفق بتاتاً، لأنه يتعارض مع المصلحة الوطنية المصرية والمصلحة القومية العربية في منع التقسيم أولاً، ومنع عودة الانتداب الأجنبي ثانياً، وقد رأينا كيف أسهمت الوصاية الدولية في يوغوسلافيا في تفكيكها.

ليست هناك مشروعية تاريخية أو قانونية لتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم، وهي التي بقيت موحدة تاريخياً، حتى في ظل الاحتلال العثماني، حين كان يحكم الشرق والجنوب والي طرابلس الغرب، أما مشروع الأقاليم الثلاثة فهو مشروع استعماري عرضه وزيرا خارجية إيطاليا وبريطانيا عام 1949، يقضي بوصاية بريطانيا على الشرق، وإيطاليا على الغرب (الذي ما تزال تدعمه الآن)، وفرنسا على الجنوب. ويستطيع كل من ينظر للخارطة المفتعلة بين الأقاليم الثلاثة أن يلاحظ الخط العامودي المصطنع الذي يفترض أن يفصل بين الشرق والجنوب مرسوماً بمسطرة، كخط فاصل بين مناطق نفوذ فعلياً، من دون أي أساس تاريخي.

سرت التي استشهد فيها العقيد القذافي وصحبه عام 2011، والتي انكسرت في خليجها الغطرسة الأمريكية عام 1986، يمكن أن تكون مفتاحاً لهزيمة المشروع التركي، الذي تقف الإدارة الأمريكية والحركة الصهيونية العالمية من خلفه، ولكن ذلك يتطلب مبادرة مصرية تقف على قدمٍ ثابتة تستعيد النفس العربي القومي وتتظلل بمشروعيته، وتلقي بمشروع الأقاليم الثلاثة في سلة المهملات حيث ينتمي، وهو ما يتطلب التواصل مع الكتلة الأهم في ليبيا التي يمكن أن تحمل مثل هذا التوجه، وهي التيار الأخضر، ضمن أفق مشروع مصالحة وطنية عامة، وهي الكتلة التي لم يتم التواصل معها مصرياً حتى الآن للأسف، وفي ضوء هجمة عثمانية غاشمة، فإن ذلك يمثل تعطيلاً لاحتياطي استراتيجي مهم في ليبيا يمكن أن يلعب دوراً حقيقياً في مواجهة مشروع التمدد العثماني.

د. إبراهيم علوش

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=347107276691365&set=a.108373647231397&type=3&theater

الموضوعات المرتبطة

ماذا تعني دعوة القوى الدولية لـ”حماية الأقليات” السورية؟

إبراهيم علوش – الميادين نت كفى بالمرء دليلاً على وجود نخبة عالمية متنفذة تُؤرجِحُ خيوط المشهد من خلف الستائر ومن أمامها أن يتزايدَ الانفتاحُ، دولياً وعربياً وإسلامياً، على النظام الجديد [...]

هل طوفان الأقصى “مؤامرة” على محور المقاومة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت على ضفتي سنة 2000، احتدم جدال في الساحة الفلسطينية، وبين المعنيين بالشأن الفلسطيني، بشأن العمليات الاستشهادية التي أثخنت الكيان الصهيوني رعباً وقتلى وجرحى.  [...]

ترامب يجابه الدولة العميقة على صعيدي المساعدات الخارجية وأوكرانيا

  إبراهيم علوش – الميادين نت لأن أي تحول جوهري في بنية المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، وبالتالي في توجهاتها، تنعكس ظلاله بالضرورة على مصفوفة العلاقات الدولية، وبالتالي على مسار [...]

هل يصمد وقف إطلاق النار في غزة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان لافتاً ضغط ترامب على نتنياهو للقبول باتفاق وقف إطلاق نار في غزة.  بات واضحاً أنه الاتفاق ذاته الذي عملت إدارة بايدن على صياغته في أيار / مايو الفائت، [...]

مسألة هوية “سوريا الجديدة”: برميل بارود برسم الانفجار

  إبراهيم علوش – الميادين نت يبدو أن هناك تواطؤاً سورياً عاماً، من جراء إرهاق الحصار ربما، ووطأة سنوات القتال، على تمرير "المرحلة الانتقالية"، ريثما تتضح معالم ما يسميه البعض "سوريا [...]
2025 الصوت العربي الحر.