د. إبراهيم ناجي علوش
25/8/2012
نشرت الصحف ومواقع الإنترنت، في الأيام والأسابيع التي تلت وفاة المفكر والمناضل القومي ناجي علوش، عشرات المقالات التي تناولت جوانب مختلفة من حياته ونضاله وشعره وفكره، كانت أغلبيتها الساحقة منصفة، وحاولت بإخلاصٍ أن تقترب من حقيقة ذلك الرجل وكنهه، وأن تفيه حقه. لكن ما يذهل في تلك المقالات، لمن يستعرضها بالجملة وبالتتالي، أكثر مما حملته في الحديث عنه، هو الخلفيات المتنوعة، لا بل المتناقضة أحياناً، لمن كتبوها، وبالتالي للزوايا التي تناولوا الفقيد من خلالها. فكأنهم اختلفوا على كل شيء وأجمعوا على تقدير ناجي علوش واحترامه، وهو المنظار الذي لا غنى عنه لرؤية ذلك الشفاف الغامض كضوء القمر.
وها قد مضت سبعُ عشرة دقيقة وستُ عشرة ساعة وأربعة أيامٍ وثلاثةُ أسابيع، عند الشروع بكتابة هذه السطور، منذ توفي ناجي إبراهيم سالم علوش قبيل فجر نهار الأحد الموافق في 29/7/2012… ولا زلت أتأمل كرسيه المتحرك وفراشه الفارغ اللذين تحيط بهما رفوف الكتب إلى السقوف كجدران حصنٍ منيع لا تزال ترفرف في فضائها روح الجاحظ والمتنبي القومية العربية أبداً ودوماً ولسان حالها يقول: “خيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ”…
ولا يزال هنالك من يرسل فيه شعراً أو نثراً أو سطراً من الذكرى… بعضهم أحبه كإنسان دمثٍ رقيق، وبعضهم عرفه كمناضل شرس، وبعضهم عرفه كقائد أو كمقاتل مقدام، وبعضهم ارتبط به كبعثي أو كفتحاوي سابق، وبعضهم تلقح بفكره القومي اليساري، أو بنزعته الثورية الرافضة أبداً للمهادنة مع أعداء الأمة، وبعضهم رافقه في سنوات “حركة التحرير الشعبية العربية” وعرف معه المطاردة والعمل السري واستهداف الرفاق بالقتل والسجن والاضطهاد، وبعضهم قدره كرمز ثقافي أو كمجدد شعري، أو كرئيس لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، أو كمدافعٍ حقيقي عن الديموقراطية والحريات لدى الأنظمة الوطنية والقومية والممانعة، وعند نقيضها، وداخل التنظيمات الثورية نفسها، وبعضهم احترمه وزامله كرمز قومي جذري، أو كأحد رعاة التحالف القومي-الإسلامي المدافعين عن المقاومة في التسعينات، وبعضهم لم يعرفه، إنما أحس به، أو سمع عنه أو قرأه، فتلهف له قلبه، وحزن عليه، أما كاتب هذه السطور، فقد أدرك شيئاً من ذلك كله، لذا رأى أن من واجبه أن يحاول للتاريخ أن يرسم ملامح هذا الهرم الثوري الذي نبت من رحم تربة بلادنا كسنبلة القمح وشجرة الزيتون، والذي تصاعد وعلا حجراً حجراً من خلال قدرته الخلاقة على إدراة متلازمات جدلية ما برح يوصلنا فهمها بشكل مبتسر وأحادي إلى الانحراف ذات اليمين أو ذات اليسار.
وما كان من الممكن لناجي علوش أن يحيط بكل تلك المتلازمات، وبحلولها الجدلية، وأن يحافظ على ثباته وتوازنه في المستنقعات الضحلة والرمال المتحركة لو لم يكن هرماً عملاقاً متماسكاً بكل ما للكلمة من معنى، لا كالصنم، فقد كان يحتقر الأصنام، بل كان هرماً من إنسان، لم تحوله كل الخطوب والخيانات والممارسات الانتهازية التي تعرض لها إلى حجر، ولم يحوله حلمه القومي أو إنجازاته إلى متعالي، وقد كان إحساسه بالآخرين أصيلاً لا مفتعلاً، وكان وظل متواضعاً، لأنه نبت من أعماق الأرض، وعجن بزيت الزيتون، وعرف معاناة الفقراء حتى شبابه، فتقمصتها روحه، وحولته إلى هرمٍ من إيثار.
كلنا يجتذب من هم مثله، وإن الطيور على أشكالها تقع… أما ناجي علوش فقد كان يسرق قلب الخصم حتى والخصم يعاديه… فيكرهه خصمه أكثر بسبب تلك “السرقة”، وهو يتمنى لو لم يعرفه، أما من احبه فقد كان يتمنى لو أنه انسل إلى أعماق قلبه فنُسي هناك.
ولد ناجي علوش لعائلة فلاحية بسيطة في قرية بئرزيت في فلسطين المحتلة، وبقي يحتفظ بطيبة الفلاح وببساطته في التعامل مع الناس، لكنه اختلف عن غيره ممن ولدوا وعاشوا في نفس الظروف أو أحسن منها، بقدرته على تجاوز الصغائر، عادة بالعفو عن حقه الشخصي، وبقدرته على التطور والارتقاء، لا على صعيد الفكر فحسب، بل على صعيد نمو الشخصية وتطورها، وكأنه مثال آخر على ما جاء في القرآن الكريم في سورة إبراهيم: “كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ”.
كانت تلك إحدى الثنائيات الفذة التي تميز شخصية ناجي علوش. فقد كان بسيطاً مركباً، بسيطاً في التعامل مع الناس، مركباً في تفهمه العميق للحالات الإنسانية والاجتماعية والعاطفية، وفي استيعابه للشخصيات الصعبة، وفي قدرته على لمس الأوتار الحساسة في شغاف القلب، أو في سبر كنه أكثر النوازع المظلمة استتاراً في شخصيات السياسيين أو المثقفين غير الثوريين.
وسنمر هنا لماماً على بعض تلك الثنائيات في شخصية ناجي علوش، دون أن نتمكن من تغطيتها كلها، إنما تأتي هذه السطور للتعريف بشخصية الرجل وبأساس خطه السياسي. أما فكره السياسي، فيحتاج لكتابٍ منفصل، وكذلك سيرته الذاتية، التي تحتاج لكتابٍ بدورها، ونعد بإعداد كلا الكتابين إن اسعف العمر، أما تجربته الشعرية ودراساته الأدبية، فنأمل أن نتعاون فيهما مع من يجد في نفسه القدرة والرغبة والاستعداد للإخلاص لسيرة الرجل وموقفه وتجربته.
قلنا أن ناجي علوش نشأ في بيئة فلاحية فقيرة، وكان جدي إبراهيم، بسبب قلة حجم أرضه، يعمل في أرضٍ الفلاحين الموسرين في بناء “السناسل” الحجرية وتطعيم الأشجار المثمرة، وسنمر على هذا الجانب بتفصيلٍ أكبر في الكتاب الذي يتناول سيرة ناجي علوش. إذن بقي بسيطاً في تعامله مع الناس العاديين، لكن عقله المتعطش أبداً للمعرفة، والذي اصطدم مع عالمٍ متغير في أوائل الخمسينات، جعله في سنوات المراهقة، بالإضافة لتعلم عشق اللغة العربية في تلك الفترة مع عمي المرحوم جميل، يسارياً، مبهوراً بخطاب اليسار الذي يتبنى قضايا الكادحين. وكانت علاقته السياسية الأولى مع أحد الشيوعيين في القرية، حتى بدأ الأخير يهاجم من يتحدثون عن الوحدة العربية ويدعون لها، وهي الفكرة التي اجتذبت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، كما اجتذبت أبي أيضاً. فلما زجره صديقه الشيوعي عن هذا قائلاً أن تلك “أفكار أيتام هتلر”، سأله أبي: “ومن هؤلاء؟”، فأجاب: “البعثيون!”، فقرر أبي أن يبحث عن البعثيين وانضم إليهم على خلفية حسه القومي المرهف الذي كان قد نماه فيه جدي الفلاح الذي لم يكن قد دخل المدرسة في حياته إلا ثلاثة أشهر، وعلم نفسه القراءة، بالرغم من ذلك، وكان يقرأ الشعر القديم والقرآن الكريم، كما أخبرني أبي، في تسجيل بصوته أعددناه خلال فترة مرضه لكتابة سيرته.
المهم أن الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي، بقوة الحس القومي، لم ينسه حسه الاشتراكي، وبقي أبي اشتراكياً حتى وفاته، وهي الثنائية الأخرى التي أود الإشارة إليها. فقد كان قومياً عروبياً حتى النخاع، وكان قومياً أولاً، قبل أن يكون أي شيء أخر، لكنه لم يكن قومياً تقليدياً، فقد كان عقله الباحث عن العلم والمعرفة لا يفتأ يبحث عن القوانين التي تحكم حركة التاريخ والسياسة والمجتمع، وكان حسه الكادح لا يدفعه للتقشف فقط في حياته (ولم يكن يستعرض تقشفه بالمناسبة بالأسمال أو قلة الذوق في التصرف، بل كان أنيقاً على تواضع… أناقة من يتسرب الحس الجمالي من سلوكه وذوقه المرهف لا من ماله)، بل كان حسه الكادح حساً جمعياً، يجعله يفكر بالفلاح والعامل والموظف والطالب والجندي، ويجعله يشعر بالسليقة بتأثير أي سياسة أو بنية اقتصادية-اجتماعية على عامة الناس، وكان ذلك الحس العفوي أساس اشتراكيته، قبل النظريات الاشتراكية التي أفنى سنواتٍ طوال في دراستها وفي الكتابة فيها، ومن هنا بعض عناوين كتبه مثل “الماركسية والمسألة اليهودية” أو “الطبقات والصراع الطبقي في الوطن العربي” وغيرها.
المهم أن ناجي علوش كان ينفر من “الفذكلة” النظرية لبعض الاشتراكيين والماركسيين، ومن استعراض المفردات الأجنبية والسلوك الغريب عن مجتمعنا باسم “الاشتراكية”، ولذلك كان يحب ماوتسي تونغ من كل قلبه، كما أحب هوشي منه، وكما أحب تشافيز خلال سنوات مرضه. فقد كانت الاشتراكية بالنسبة له إحساساً وموقفاً قبل أن تكون نظرية، مع أنه بلور توليفة قومية يسارية متماسكة، بعد خروجه من حزب البعث، الذي اصبح فيه الأمين القطري للحزب في الكويت عام 1959، قبل أن يتركه على خلفية الصراع بين ميشيل عفلق وعبدالله الريماوي (مع أن الوالد لم يكن ريماوياً). وقد نمت تلك التوليفة القومية اليسارية التي أصبحت أساساً لفكر ناجي علوش من خلال التفاعل مع نفس المدرسة التي اشترك فيها ياسين الحافظ والياس مرقص اللذين فتح لهما ناجي علوش أبواب نشر فكرها عبر “دار الطليعة” التي كان يديرها في بيروت خلال الستينات. وقد وجهت تلك المدرسة نقداً نظرياً وسياسياً حاداً للشيوعيين العرب بسبب موقفهم آنذاك من الوحدة العربية وتحرير فلسطين، سوى أنها تمسكت، بالرغم من ذلك، بالمنهج العلمي في التحليل، وبطرح برنامج قومي يستند إلى الطبقات الشعبية العربية، أي يستند لرؤية طبقية.
وبالنسبة لناجي علوش بالذات، اقترن ذلك بممارسة العمل المسلح في صفوف الثورة الفلسطينية، وقد نتجت عن ذلك دراسات وكتب مهمة نظرت لتجربة الثورة الفلسطينية ونقدتها، وشكلت لفترة من الزمان حصناً فكرياً منيعاً في مواجهة التيار التسووي في حركة فتح خاصة وفي منظمة التحرير الفلسطينية عامة. وكانت الثنائية هنا مزج النظرية بالممارسة، وهو الأمر الذي أشار له أكثر من كاتب تناول ناجي علوش بعد وفاته، ولذلك لن نتوسع فيه هنا.
لكن النقطة الأخرى التي ميزت فكر ناجي علوش هنا كانت علاقته الوجدانية بالشعب والناس، لا السياسية فحسب، ولذلك فقد احترم ثقافة الشعب وتشربها غريزياً، وعندما كان يتحدث عن معارك العرب ضد الغزاة، خاصة معارك سيف الدولة الحمداني ضد الروم وكيف وحد العرب حوله، أو عن الثقافة العربية والإسلامية، عن إنجازات العرب الحضارية في الإندلس مثلاً، فقد كان يتحدث بشغف، قومي أساساً، ينبثق من حس الناس، كان يؤاخذه عليه كثيرٌ من المنظرين القوميين واليساريين. ولم يجد أبي وأمي غضاضة في إرسالنا، عندما أغلقت المدارس في بيروت بسبب الحرب الأهلية، لمدرسة المقاصد الإسلامية في صيدا في جنوب لبنان لنقيم فيها، ونحن لا نزال صغاراً.
كان أبي لا يشرب الخمر ولا يدخن ولا يسمع الموسيقى ولا يشاهد الأفلام أو المسلسلات أو المباريات الرياضية، وكان قد قال لي مرة، فيما بيننا، أن الرجل الذي لا يستطيع أن يمر يومه دون احتساء القهوة أو الشاي مدمنٌ يقلل إدمانه على المنبهات منه. ولكن ناجي علوش، على الرغم من زهده بالحياة، كان رقيقاً دمث الخلق واجتماعي الطبع، وهنا الثنائية الأخرى الجذابة في شخصيته، فلم يكن قاسياً أبداً في الحكم على الناس، بل كان ديموقراطياً متفهماً إلى أبعد الحدود، ومتقبلاً لمن لا يوافقه، ولم يكن ليؤذي الناس بكلامٍ جارح أو سلوكٍ متشدد، ولم يكن ليقاطع من لا تروق له عاداتهم، بل لم يكن ليشعرهم برأيه فيما يفعلونه، إلا عندما تسنح له الفرصة، وبرفقٍ شديد. والكلام يدور بالطبع، حول السلوك الشخصي، لا حول الموقف السياسي الذي لم يهادن فيه ولم يساير ولو على قطع رأسه، حتى لا يؤول الرجل بشكل ليبرالي رث، فذلك رجلٌ كان يعرف أين تكمن أولوياته في الحياة.
ولعل أكثر ما كان يجتذب الناس لناجي علوش هو حرصه الشديد على كرامة الإنسان، حتى أعدائه، فلم أسمعه يوماً يشتم أحداً بكلمة نابية حتى عندما كان يسيل الدم وينطلق الرصاص والقذائف وتحل حجة القوة محل قوة الحجة وتذر الحرب قرنها، فتلك هي القوة التي لا أدعيها والتي لم أرها في غيره أبداً. لم يضربني مرة، بل كان يعتمد وسيلة الحوار والإقناع، والهيبة، وعندما ألقت الوالدة القبض عليّ مرة وأنا أدخن في سنوات المراهقة، وشكتني للوالد، وكان آنذاك يعيش متخفياً متشرداً بين البلدان بعد أن حكم عليه ياسر عرفات بالإعدام وطارده وأعدم عدداً من رفاقه، تم الترتيب للقائي به في العراق، وحدثني عن مساوئ التدخين طويلاً، ثم قال لي: “لن أمنعك إذا قررت التدخين، ولا تكن جباناً فتخفي الأمر كاللص، بل دخن أمامي”، ولم اصدقه، فأمسكت بسيجارة واشعلتها، ولم يفعل شيئاً سوى أنه أشاح بوجهه عني، وكان شعوري أنني قطعت حبل الود كافياً لكي اطفئها…
ذلك هو الرجل الذي كان يعود من خطوط القتال ببدلته العسكرية ليضع بندقيته ومسدسه جانباً (“إبراهيم لا تلعب بالكلشن بالبيت”)، وليساعد المرحومة الوالدة سميرة عسل (أم إبراهيم) بجلي الصحون أو تنظيف المنزل، ليعود بعدها إلى قراءة المتنبي ليرتاح قليلاً قبل أن يأخذ قسطاً من النوم ليعود لمواقع القتال، وهذا وهو يحتل موقعه كرئيس لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين! أي مثقفٍ عربيٍ كبيرٍ هذا! ومن مثله؟! لقد كان نسيج وحده. كان فلاحاً من بيرزيت قرر أن الرجولة لا تمارس على الزوجة والابنة والأخت، بل على من يحتلون الوطن ويضطهدون الشعب… وهي ثنائية أخرى وددت لفت النظر إليها.
أما بعد، فقد كان خمر ابي هو دواوين الشعر، وكنت أتعجب كيف “يرتاح” من جلسة متواصلة تمتد ما بين اثنتي عشرة وثماني عشرة ساعة من القراءة والكتابة، بقراءة دواوين الشعر القديم، خاصة المتنبي الذي عشقه وكتب عنه دراسة متميزة. وكان ذلك المقاتل الشرس… مرهف الحس، وكان يتأثر بشدة في حضرة الشهداء، ولكنه لم يكن شاعراً وطنياً فحسب، أو ملتزماً، بل كان قبل كل ذلك إنساناً، وقد كتب مرة:
غيري يمنّي من يحب بالنجوم
أما أنا، فليس عنديَ غيرُ بعض الشعر
حصادُ رحلتي وغربتي
عزيزتي، هذا الذي لدي…
فهل تراه يستحق الذكر؟!
ولم يسعى ناجي علوش يوماً لمالٍ أو أملاكٍ أو رفاهية، وعندما أصيب بالجلطة الدماغية بعد عودته من الحدود الأردنية-السورية صبيحة يوم 25/11/1997، عدت من الولايات المتحدة لأجد في حسابه ستمئة دينار أردني فقط، وكان منذ ترك بيرزيت في أواسط الخمسينات يسكن بالإيجار، ومات وهو لا يملك باسمه قرشاً واحداً، ولا شقة ولا أصول، إلا ما ورثه وأخوته عن جدهم في أرض بيرزيت، وهو بضع دونمات، وقد عمل في الكويت تسع سنوات في بداية شبابه، كان يرسل خلالها معظم ما يجنيه لأهله. وقد ترك لنا الوالد سمعةً طيبةً وتراثاً نفتخر فيه وعلماً نافعاً وسيرةً عطرة… وآلاف الكتب. اما مكتبته في بغداد، فقد تبرع بها لبيت الحكمة، وتم إحراقها يوم احتلال بغداد في 9 نيسان 2003 ، من قبل الرعاع الذين جاؤوا مع الاحتلال، مع بقية مكتبة بيت الحكمة، وهو ما حز في نفسه كثيراً. أما مكتبته الكبيرة في دمشق، فقد تبرع بها لمكتبة جامعة بيرزيت، في فلسطين المحتلة، وهذا غير مئات الكتب التي توزعها الاصدقاء في لبنان، أما مكتبته في عمان، فهي ما تبقى منه… وقد بقي الرجل مصراً على التعاطي مع الورق، صحفاً وكتباً، ورفض التعاطي مع الإنترنت بشكل مطلق، وكان يطلب مني أن أقرأ له أي خبر أو موضوع مهم أجده، أو أن اطبعه على الورق… فناجي علوش كان يعشق الورق.
قلت أنني أصف شخصية ناجي علوش البسيطة المركبة من خلال توليفة الثنائيات الجميلة التي تكونت منها، فليس المقصود هنا هو السرد فحسب، ولذلك فإن ما يتمم خاصية التقشف عند ناجي علوش، ما عدا في اقتناء الكتب، هو الفرص الكبيرة للفساد التي أتيحت له، حتى دون أن يساوم على مبادئه. وأذكر هنا ما جرى عندما كان مديراً لدار الطليعة في بيروت، يتلقى راتباً من بضع مئات الليرات اللبنانية، أنه أشرف على عملية ترجمة الأعمال الكاملة للزعيم الكوري الراحل كيم إيل سونغ، وبعد تهيئة فريق المترجمين والقيام بالتدقيق والطباعة الخ… كان والدي سعيداً بالإنجاز، وجاء إلى المنزل بعد الدوام ليتناول الغداء، وهناك أخبر والدتي بالإنجاز، ومن ثم عبر لها عن استغرابه لأن الكوريين أحضروا له شيكاً بخمسين ألف دولار مكافأة له على جهوده في إدارة المشروع، وكان ذلك في بداية السبعينات، فسألته ماذا فعل بالشيك، فأجابها أنه رفضه وأعاده إليهم طبعاً… واعتقد أن والدتي، ضمن وضعنا آنذاك، لم تكن سعيدة جداً بقراره، لكنها عادت ودعمته وأيدته وافتخرت بما قام به وظلت تسوقه مثالاً على نزاهة زوجها. وهذا مجرد مثال صغير، ولن أخوض في الأمثلة الأخرى المستقاة من الثورة الفلسطينية أو غيرها، وفرص الفساد الكبيرة التي كانت متاحة له فيها لو خالطه فساد.
وبالعودة لتجربة المطاردة والعيش تحت الأرض، أذكر أنه اضطر للاختفاء بعد مداهمة قوات فتح للقواعد التي أقامها هو وأبو داوود في الجنوب اللبناني بعد احتلال الشريط الحدودي من قبل الكيان الصهيوني في 15/3/1978. وكان ياسر عرفات قد اعتبر أن توصل فيليب حبيب، المبعوث الأمريكي آنذاك، لاتفاق معه حول وقف إطلاق النار وإدخال القوات الدولية – والشريط الحدودي محتل – يمثل اعترافاً أمريكياً ودولياً بمنظمة التحرير مما يمهد لدخولها في التسوية!!! وقد رفض ناجي علوش وأبو داوود هذا المنطق وأصروا ومن معهم على ممارسة العمل المسلح ضد العدو الصهيوني ما دام الشريط الحدودي محتلاً، مما استتبع هجوماً ضارياً من قبل القيادة على التيار الذي يقودانه في فتح.
وكان في الدامور، على الساحل الذي يصل بيروت بالجنوب، قاعدة من أهل مخيم تل الزعتر المهجر يقودها أبو أحمد وأبو عماد بطلا الصمود في مخيم تل الزعتر، وكان أبو أحمد وأبو عماد يرتبطان تنظيمياً بالوالد وبأبي داوود، فتمت دعوتهما لاجتماع، كان في الواقع كميناً، وتم اختطافهما وإعدامهما من قبل محكمة صورية أسسها ياسر عرفات في منطقة الفاكهاني، وكان 120 مقاتلاً فتحاوياً من القواعد المداهمة في الجنوب لا يزالون في سجون أمن فتح بتهمة تهديد أمن العدو الصهيوني، والسعي للإخلال بقرار وقف إطلاق النار، وقد تم الإفراج عن معظمهم بعد حوالي شهرين، وبقي 16 من قادتهم أكثر من سنة ونيف في السجن، وخلال ذلك انطلقت في فتح حملة اجتثاث لتيارها المعارض أو تركيعه، ممن ارتبطوا بعلاقة تنظيمية مع ناجي علوش بالأخص، كانت حملة اجتثاث وتنكيل في الواقع… وهكذا صدر الحكم بإعدام الوالد وبالبحث عنه لاعتقاله وتنفيذ ذلك الحكم.
وكانت تلك لحظة فاصلة، فقد انفض قادة التيار المعارض في فتح عن مشروعهم، وتراجعوا عن مواجهة ياسر عرفات، إلا الوالد، الذي رفض أن يخضع للترهيب أو أن يعلن الولاء، أو أن ينحني أمام الموجة، وثمة الكثير من التفاصيل المرتبطة بتلك المرحلة التي سأتجاوز عنها هنا… بل سنتركها للسيرة. ما يهمنا هنا هو انتهاء علاقته بحركة فتح فعلياً، وللأبد، مع أنه كان عضواً في مجلسها الثوري. وقد انتهت علاقته حتى مع حلفائه السابقين فيها، على خلفية تلك الحملة الاجتثاثية بالذات، وانفضاضهم عنه، بسبب تمسكه بالأمر حتى النهاية، والمقصود هنا بالطبع أمر مواجهة العدو الصهيوني، ومن ثم مواجهة ياسر عرفات بعد حملة التصفية والتنكيل التي أطلقها، وهي حملة طالت حتى عام 1979، ولم تكن بلا سوابق، ومنها اعتقال الوالد عام 1974، وتضمنت فيما تضمنته محاولة اغتيال فاشلة لمؤسس إعلام فتح حنا مقبل (أبو ثائر) في بيروت من قبل ياسر عرفات أمام مكتب القدس برس، الذي عاد ليستشهد عام 1984 في قبرص على يد أبو نضال…
ما يهمني شخصياً هنا هو الفرصة التي أتيحت لي لاحتكار الوالد بعيداً عن كل شيء أخر، وأنا لا أزال في الرابعة عشرة من عمري وقتها، وكان قبلها لا يأتي للبيت إلا للزيارة، منذ اغتيال الكيان الصهيوني للقادة الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في 10 نيسان 1973. وهنالك كثيرٌ من الناس لا يفهمون أن المناضل لا يملك نفسه، ولا تملكه عائلته، فيصبح الأب عندها كنزاً مفقوداً. ولكن في نيسان 1978، وبعد اشتداد حملة التصفية والاعتقالات، تم اتخاذ قرار بنزول عدد من الرفاق تحت الأرض، وتم اتخاذ قرار بإخفائي مع الوالد.
وقد تنقلنا بين أماكن متعددة في تلك الفترة، وحملات المداهمة والتفتيش على أشدها، ولكن أجمل ما في تلك المرحلة بالنسبة لي كان الفترة التي سكنا فيها وحدنا في منزل معروض للإيجار في أحد أحياء بيروت الغربية، لم يكن يفترض بسكان العمارة أن يعرفوا أن هنالك من يقطنه، فكنا لا نشعل النور عندما يحل المساء، ونبقي دفتي خشب النوافذ مغلقتين، ولا نشغل تلفزيوناً، ولا نفتح مياه الحمامات في الليل، ولا نحدث صوتاً ولا جلبة لأي سبب، خاصة في الليل.
وكان المنزل لمغتربين أقرباؤهم مع تيار الوالد في فتح، وقد وضعوا إعلاناً لتأجير البيت، وكانوا يأتون مرة أو مرتين في الأسبوع، وهم يحملون لنا أكياساً فيها صحف وطعام ورسائل، ويخرجون بنفس الأكياس وهي فارغة، وكانوا يأتون أحياناً ببعض الزوار “الراغبين باستئجار البيت”… وقد كانت تلك المرة الأولى، بعد بدء إدراكي السياسي للعالم، التي سنحت لي للعيش مع الوالد بشكل متواصل، طبيعي، هو في الواقع غير طبيعي على الإطلاق. وكانت فرصتي لكي اتعلم منه وأفهم بالضبط كل ما أريد أن أعرفه. كانت ذئاب الأمن تبحث عنه على مدار الساعة، وكان ينام ويصحو وسلاحه (الشتاير) بجواره، لكنني كنت سعيداً به جداً وكان كعادته مستغرقا بالقراءة والكتابة، ولم استطع ان أجاريه، فقد كانت المدة القصوى التي استطعت القراءة فيها بشكل متواصل وقتها لا تتجاوز أربع إلى ثماني ساعات، كنت بعدها أزعجه وأتحرش به لمناقشة أي موضوع، من الصراع الصيني-السوفييتي إلى جذور خلافه السياسي مع خالي منير شفيق إلى تقييم الدور السوري في لبنان الذي تحول في تلك الفترة إلى صراعٍ حادٍ مع الكتائب اللبنانية… وكانت فرصة ذهبية لا تعوض لكي أغرف من ذلك البحر وحدي دون بقية الرفاق، لمدة تجاوزت الشهر ونصف الشهر.
ولكنه كان، في أقسى حالات الوحدة والمطاردة الدموية، ينشغل في الليل بشيءٍ لا يملكه إلا من كان في حالة سلام تام مع ذاته. فقد كنا نذهب في الليل إلى الغرفة الوحيدة في المنزل التي لا يطل عليها أي مبنى مجاور، وكان يشعل شمعة، ويجلس على الأرض، وخشب النافذة مغلق، وينشغل بكتابة قصيدة… وهناك ولدت قصيدته “حوار مع أبي الطيب المتنبي” (المهداة لوالدتي “الرفيقة سميرة”) والتي أكملها لاحقاً في فيتنام، ومطلعها:
لليل رهبتهُ
وبي شوقٌ إلى سفرٍ طويل
امتد فيه حيث لا تصل
العيون الزئبقية
لأحط في حدق الرفاق المولعين
بطلعة النجم البهية
والساهرين على السبيل
لليل رهبتهُ
وبي شوقٌ إلى سفرٍ طويل.
وأذكر يوماً بعدها أن مرافق والدي جاء ليبلغه على عجل في جوف الليل بأن أحد زواره من الأيام السابقة ثمة شكوك ومؤشرات، حسب رأي بعض الرفاق في الخارج، بأنه “تساقط” أو تم اختراقه أمنيا. في تلك اللحظة اتخذ القرار بتغيير مكان إقامتنا فوراً. وبعد أن لملمنا بعض الحاجيات على عجل، نزلنا بالمصعد، وعلى مدخل العمارة مباشرة فوجئنا، ونحن نغادر مدخل المبنى، بدورية لأحد أجهزة أمن فتح تقابلنا وجهاً لوجه، وكادت تحدث مجزرة: السلاح ملقماً بمواجهة السلاح، والمسافة لا تزيد عن مترين إلى أربعة أمتار.
في مثل تلك اللحظات تُعرف معادن الرجال، لا من حيث الشجاعة والجبن بالضرورة، ولكن من حيث رجاحة العقل والقدرة على التصرف ورباطة الجأش، و”الرأي قبل شجاعة الشجعان”… كانت أقل من لحظة صمت قد مرت، بفعل المفاجأة الرهيبة على الجهتين، فقد جاؤوا ليكسروا الباب ومفاجأتنا… عندما سمعنا والدي يأمر الجميع: الكل ينزل سلاحه! مشيراً بيده اليسرى إلى أسفل… مخفضاً سلاحه باليد اليمنى. لم أصدق كيف يقول ذلك… ولم أصدق أكثر عندما رأيت عناصر الدورية التي أتت لمداهمته يخفضون سلاحهم… ثم اندفع الملازم قائد الدورية فجأة لمعانقة والدي وتقبيله… وأنا ومرافقه، وعناصر الدورية المقابلة، جميعاً، كالمشدوهين. وهمس الرجل شيئاً في أذن والدي، ثم انصرفنا بسرعة. لقد أخطأ من أرسل ذلك الملازم الفتحاوي الأصيل لاعتقال ناجي علوش لأن الرجل كان قد خاض أكثر من معركة إلى جانبه، وكان يدين له بالولاء، وكان ما همسه في أذنه: لا تذكر أنك قابلتنا. سنقول أننا لم نجدك…
أين سنذهب الآن؟!! لم يكن الرفاق قد أعدوا مكاناً آمناً بعد… وكانت ثمة آلية محددة للاتصال لتفعيل المكان البديل، وكان الوقت يتجاوز منتصف الليل، ونحن ندور بالسيارة بعيداً عن الطرق الرئيسية. كان الوضع خطراً جداً، خاصة ونحن غير متأكدين مما سيرشح عن عناصر الدورية التي كدنا نشتبك معها لقيادة الأمن، وهنا جاء القرار الأخر الذي أذهلني وأذهل مرافق والدي: اذهب إلى منزلنا (المعروف للقاصي والداني، في حي زريق في المزرعة، وهو أحد أحياء بيروت الغربية المعروفة). المرافق: أبو إبراهيم… أبي: اذهب هناك، فهو أخر مكان سيتوقعوننا فيه.. وهكذا ذهبنا، ونمنا هناك حتى الصباح، وكنا قد تركناه قبل أشهر… وكانت المرحومة والدتي مصرة أن تبقي منزل ناجي علوش مفتوحاً متحدية قيادة فتح أن يأتوا لاعتقالها، فبقيت فيه وحدها مع رفيقة، ووضع الأمن سيارة تراقبه على مدار الساعة حوالي شهر ونصف، ثم تعبوا، فصاروا يأتون لماماً، ومن هنا نشأت الثغرة التي تسللنا عبرها، وفي اليوم التالي انتقلنا إلى مكان آمنٍ في منطقة الشوف في جبل لبنان بقينا فيه فترة مع عائلة صديقة.
استمرت هذه الحال، ونحن نتنقل من مخبأ آمن إلى آخر كل أسبوعين أو ثلاثة، حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، أي حوالي ستة أشهر، قرر والدي بعدها التسلل إلى العراق، وهكذا كان… ومن المهم أن نذكر هنا تلك الخلفية التي أدت لانتقاله للعراق وبدء صفحة جديدة بالعلاقة مع إبي نضال.. وكانت الخلافات تستعر داخل التنظيم في العراق، وهو ما جعل شراكة الوالد المباشرة مع أبي نضال لا تستمر أكثر من عام، انتهت بالانفصال، وبإعلان تنظيم جديد هو “حركة التحرير الشعبية العربية” عام 1979، وهو التنظيم الذي تم حله رسمياً عام 1992. وقد شارك عناصر ذلك التنظيم مع جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في إطلاق المقاومة ضد العدو الصهيوني بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، وقدموا الشهداء والكثير من التضحيات التي تبقى صفحاتها مطويةً حتى الآن إلا على قلة، كما شاركوا بمجموعتين في بيروت في مواجهة الاجتياح الصهيوني للبنان في صيف عام 1982 من خلال مواقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان كاتب هذه السطور أحد عناصر تينك المجموعتين اللتين بقيتا على خطوط التماس مع العدو الصهيوني من 6 حزيران حتى 11 آب 1982.
وهي قصة أخرى سنتركها للسيرة أيضاً، سيرة ذلك التنظيم، لا سيرة الوالد فحسب. لكن الثنائية الجدلية هنا التي تضيف لجاذبية أبي إبراهيم هي أنه كإنسان ثوري آمن بالعمل المسلح، كان يراه منبثقاً من خط سياسي والتزام أخلاقي، وكان يراه موجهاً ضد أعداء الأمة من قبل تنظيم شعبي ثوري، ولم يكن ليرضى، بالرغم من تصفية عرفات لكثيرٍ من رفاقه، ومحاولة قتله شخصياً، أن يتحول العنف المسلح إلى عنف إرهابي يقوم على الاغتيالات الفردية ضد عناصر فتح التابعين لياسر عرفات أو لأبي نضال نفسه، وقد مارس أبو نضال القتل ضد الفئتين، على أساس الشك في معظم الأحيان، ومن ثم ضد عناصر حركة التحرير الشعبية العربية نفسها، وهي المعادلة التي لم يفهمها الأحمق باتريك سيل في تناوله السطحي للوالد في كتاب “بندقية للإيجار” عن تنظيم أبي نضال…
وكان من الذين اغتالهم أبو نضال من حركة التحرير الشعبية العربية مسؤول إقليم أوروبا في التنظيم نبيل عرنكي، الذي اغتاله أبو نضال في مدريد في إسبانيا… وكانت الكثير من خلايا أبي نضال مخترقة للموساد ولأجهزة مخابرات عربية مختلفة، كما اكتشف أبو نضال بنفسه لاحقاً، وعرف الوالد بعدها من قيادات الصمود الفلسطيني في السجون الصهيونية أن من اغتال نبيل عرنكي من خلية أبي نضال في إسبانيا أدين بالتعامل مع العدو الصهيوني… وقد رثا الوالد نبيل عرنكي، الذي كان يحبه كثيراً، ورأيته يبكي بكاءً مريراً على فراقه، في قصيدة “عن الدم الذي يزهر في كل المواسم” من ديوان “الزهر والنار”:
قلت للمهرة هذا البرق لاحْ
من ثنايا الغيم في الأندلسِ
فالمسي صدري الذي
ناشته آلاف الرماحْ
وانظري:
هذا دمي المنذورُ من
وجهي يسيلْ
واعرفي القاتل
إن الومض أعطاني
تقاسيم القتيلْ
ها هو النجم على الأفق
يميلْ
ها هو النجم على الدرب هوى
هل رأيت الوجه والقامة
والرمح الطويلْ؟
آه عفواً يا نبيلْ
إن أصابتنا سهام العسسِ
والميادين تنادينا إلى عرسٍ جليلْ
آه عفواً
إن تلهى بالسيوف القتلة
وانتشى الأوباش من خمر الجراح
يسرح الخفاش في عتمته
عفو الجناح
وتباهي في العراء الحجلة.
نصل هنا إلى الثنائية الأخيرة في هذه المعالجة في شخصية ناجي علوش وخطه السياسي. فقد اختار البعض أن يركزوا بشكل أحادي على اهتمامه بالحريات الديموقراطية، وحقوق الإنسان، في داخل الأنظمة القومية والممانعة عندما لم يكن أحد يجرؤ أن يثيرها، وله في ذلك مواقف مشهودة، وليس فقط ضمن تنظيم أبي نضال.
وسأقتبس هنا فقرة أو فقرتين من مذكرات ناجي علوش غير المنشورة: “لم أقم علاقة مع نظام عبر جهاز أمني، وكانت علاقتي تمر دائماً عبر الرئيس… ولم أقم بالترويج لنظام معين، كتابةً أو شفوياً، ولم أدافع عن الإجراءات التعسفية، وكنت على علاقات دائماً بالمعارضات للأنظمة، وكانت علاقاتي هنا علنية ومكشوفة. حتى أنني كنت مرة في بغداد، وسمعت أن الحزب الشيوعي العراقي أخذ قراراً بالعودة إلى الاختفاء، فقررت زيارة مقر الحزب، فاتصلت وأخذت موعداً، وذهبت في الليل، وكان مكتب الحزب وسط بستان… كان الصمت رهيباً… دخلت فوجدت ماجد عبد الرضا، وجلسنا وتحدثنا…”.
الحديث طبعاً عن زيارة مقر الحزب الشيوعي العراقي في بغداد… ولكن، عام 1979، تم طرد الجبهة الشعبية والديموقراطية … وحركة التحرير الشعبية العربية (تنظيم الوالد) من العراق، وتم إبلاغ قيادة التنظيم بمنع نشاط حركة التحرير الشعبية العربية في العراق إلا على الصعيد الفلسطيني. فهل كان موقفه، من جراء ذلك، انتقامياً؟ لا طبعاً، تشرد الوالد في أوروبا الشرقية حتى عام 1981، ورأسه مطلوبٌ لياسر عرفات وأبي نضال في آنٍ معاً، ولم تكن العلاقة مع القيادة السورية جيدة بعد. وبالرغم من ذلك، عندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية، لم يتردد لحظة في الاصطفاف مع العراق، فالموقف الديموقراطي عنده محكومٌ بسقف السيادة الوطنية، وهذا ما علمنا إياه. وقد جن جنونه عندما اقتربت القوات الإيرانية من البصرة عام 1986. ولنلاحظ جيداً أنه عبر عن ذلك الموقف علناً وهو يقيم في دمشق منذ عام 1981، وقد استدعاه الرئيس حافظ الأسد للحوار مراراً، وهو ما لم يكشفه لي إلا قبل عام…
وعلى كل حال، إليكم هذه الفقرة من مذكراته غير المنشورة: “غادرت في اليوم التالي إلى براغ، بدعوة من منظمة الصحفيين العالميين I.O.J، فوجدت اثنين من كوادر الحزب الشيوعي العراقي ينتظران الطائرة، فسلما علي، وتناقشنا ونحن وقوفٌ بشأن الحرب مع إيران… وكان الرفيقان يعتقدان أن الحرب مع إيران ستسقط النظام.. فقلت لهما: لا اعتقد أنكم تعرفون النظام. النظام قوي ومستعد. على كل حال، ومهما كانت الظروف، فأنتم في مأزق… اقترح أن تعودوا إلى بلادكم وأن تقاتلوا مع النظام، لأنكم إذا انتصر النظام ستعاقبكم جماهيركم، وإن هزم ستعاقبكم. فسأل أحدهما: هل تعتقد أن النظام سينتصر في الحرب مع إيران؟ فقلت: هنالك إمكانية كبيرة، ولكن أي شرف ستكسبون إذا انهزم وديس شعبكم وبددت ثرواتكم؟”.
ويضيف لاحقاً: “لكن الذين لم تحقق لهم إيران مناهم عادوا وطلبوا النجدة من الولايات المتحدة الأمريكية.. وسقط النظام، فدفع شعبهم ثمناً باهظاً… وليس هناك دلائل على وجود مستقبل مطمئن وكرامة واستقلال. الوضع يتشظى ويتفتت، والحرب الأهلية تأخذ أشكالاً متعددة، وكل شيء في العراق يتآكل”.
ونرجو أن لا يبتسر أحدٌ هذه الملاحظات خارج سياقها، فالسياق هنا هو الحرب العراقية-الإيرانية، (لا الدعم الإيراني لسورية اليوم مثلاً!)، وقد زار والدي إيران بعد مرضه، في نيسان عام 2001، للمشاركة في مؤتمر هناك، وزار العراق في عام 2002، ولا تزال الأختام موجودة على جواز سفره القديم.
وفي صفحةٍ أخرى من مذكراته غير المنشورة بعد: “كنت معارضاً دائماً لأسباب جوهرية منها: 1) أن النظام العربي قطري وأنا وحدوي، 2) النظام العربي استبدادي، وأنا ديموقراطي مع الديموقراطية وحقوق الإنسان، 3) النظام العربي يتواءم أو يسعى إلى التطابق مع الإمبريالية وأنا معادٍ للإمبريالية، 4) النظام العربي مع الاستسلام للعدو الصهيوني، وأنا معادٍ للكيان الصهيوني، مع المقاومة المعادية له، ومع محاصرته ومقاطعته، ومع الإعداد للمقاومة. ولذلك كنت اقترب من الأنظمة بمقدار اقترابها من هذه الاعتبارات، وابتعد عنها بمقدار ابتعادها عنها. ولكنني كنت أحرص دائماً على عدم اعتبار الدول الكبرى مساندة للحرية والديموقراطية، وأرفض دعوتها أو قبول تدخلها بحجة حماية الحرية أو تمويل النشاطات من أجلها. وكنت أؤكد دائماً أن حريتنا وديموقراطيتنا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حاجات الشعب الأساسية، وأن تأخذ باعتبارها حاجة الأمة لقيام الوحدة العربية، وإلى تحقيق التحرر من الاستعمار والنفوذ الإمبريالي ورفض استخدام دعوات الحرية والديموقراطية لتفكيك مجتمعاتنا كما يجري الآن“.
العبرة من مثال العراق أعلاه أن الدعوة الديموقراطية محكومة بالضرورة بالسيادة الوطنية وبالمصلحة القومية، وهي الثنائية المركزية في فكر ناجي علوش القومي الديموقراطي، التي يسعى البعض لتشويهها ولما يبرد التراب على قبر الوالد بعد. والعبرة من الفقرات الأخيرة واضحة لا تحتاج إلى تفسير، فالمعيار الأول لتقييم الأنظمة العربية هو موقفها من الوحدة العربية، والمعيار الثاني هو موضوعة الحريات، والثالث هو موقفها من الإمبريالية، والرابع هو موقفها من الصهيونية، ولا يجوز أن نأخذ المعيار الثاني وحده، وبشكل يتعارض مع المعايير الأخرى، لمن يريد أن يستشهد بناجي علوش. وقد كان هذا أساس موقفه ضد التدخل الأجنبي مؤخراً في سورية وليبيا، ودعمه بالاسم لقيادتيهما، كما جاء في التسجيل المصور الذي قام به في 7/9/2011 والموجود على اليوتيوب تحت عنوان “طلقة تنوير”.
يا أيها الفذ الفريد في كل المواضع، لقد مضت خمسٌ وأربعون دقيقة وخمسة أيامٍ وثلاثة أسابيع منذ غادرتنا، وهيهات أن نجد مثلك، أو أن يملأ فراغ عقلنا وقلبنا بعدك أمرؤٌ بحجمك.
*********************************************
للمشاركة على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=232383583550351&id=100000217333066¬if_t=like