د. إبراهيم علوش
21/10/2012
مأساة مدينة بني وليد الصامدة اليوم أنها تقع في شمال غرب ليبيا، لا في شمال غرب سورية… ولهذا تتجاهلها وسائل الإعلام العربية والعالمية، وإذا غطت أخبارها، فإنها تفعل ذلك بشكل يخفي الحقائق الدموية المرة في بني وليد عن أسماع وأعين الناس.
فبني وليد المحاصرة منذ عدة أسابيع يمنع إدخال الطعام والدواء والوقود إليها، وأحياؤها تتعرض للقصف العشوائي الذي يودي بحياة مدنييها يومياً، وهي محاطة بقطعان “ثوار الناتو” الذين يتحرقون شوقاً لاستباحتها مجدداً، وهو ما دفع منظمة العفو الدولية لإصدار بيان في 8/10/2012 يدعو لرفع الحصار عنها والسماح بإدخال المؤن والوقود والأدوية إليها، معتبرةً أن محاولة إلقاء القبض على من اختطفوا عمران شعبان، أحد قتلة القذافي، قد تحولت إلى شكل من اشكال العقاب الجماعي ضد مدينة بأسرها، وتضيف المنظمة في التقرير نفسه على لسان أحد مسؤوليها: “بينما يمكن اعتبار إطلاق سراح الأشخاص المعتقلين بشكل غير قانوني في بني وليد خطوة إيجابية، فإن السلطات الليبية تحتاج أيضاً لمعالجة وضع آلاف الأشخاص المعتقلين عبر ليبيا بلا تهمة أو محاكمة، ولوضع حد لعمليات الاختطاف المستمرة للأشخاص بلا مذكرة جلب من قبل مليشيات مسلحة، ولإغلاق مراكز الاحتجاز غير الرسمية المنتشرة عبر البلاد”، كما جاء على موقع منظمة العفو الدولية على موقعها بالإنكليزية.
وقد عوقبت المدينة وسكانها الذين يزيدون عن ثمانين ألف نسمة أول مرة عندما دمرتها طائرات الناتو عام 2011، قبل أن تتم استباحتها من قبل “ثوار الناتو”، لكي يختفي المئات من شبابها في سجون “الحرية والديموقراطية” للنظام الجديد، مع الآلاف من أبناء الشعب الليبي ممن يتعرضون منذ عامٍ ونيف لأبشع صنوف التعذيب والانتهاكات الوحشية حسب تقارير منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس واتش.
ولم تكن بني وليد يوماً من المدن الخانعة التي تقبل الذل، فقد كانت من أشرس قلاع المقاومة للاحتلال العثماني والاحتلال الإيطالي من بعده، وكانت من المدن الأخيرة التي بقيت تقاوم التدخل الأجنبي في ليبيا عام 2011، وفي 24/1/2012 تناقلت وسائل الإعلام خبراً بعنوان “أنصار القذافي يسيطرون على بني وليد بالكامل ويرفعون العلم الأخضر فوق أبنيتها” وهو الخبر الذي نفاه “المجلس الوطني الانتقالي”، وعزاه البعض إلى صراع على النفوذ بين أجنحة الدولة المفككة، ولم يعفي ذلك بني وليد من التعرض للحصار والتنكيل ولعمليات الاختطاف العشوائي مجدداً ضد شبابها… لكنه قدر الأحرار.
لكن مأساة بني وليد اليوم ليست فريدة من نوعها في ليبيا ما بعد “الثورة”: مليون ونصف المليون لاجئ ليبي في دول الجوار من أصل ستة ملايين مواطن ليبي لا يثير أحد قضيتهم، آلاف المخطوفين والمعتقلين الذين يموتون يومياً تحت التعذيب في سجون غير رسمية على امتداد البلاد لا يعرف أحد عددهم بالضبط، ويقول أنصار القذافي أنهم عشرات الآلاف، بنية تحتية مدمرة لا يعرف أحد متى ستتم إعادة بنائها إذا تعلمنا من تجربة تدمير العراق شيئاً، حالة من الفوضى والفلتان الأمني و”خروج المليشيات عن السيطرة” حسب تعبير منظمة العفو الدولية في تقريرها الذي تداولته وسائل الإعلام في 16/2/2012، والأهم انحلال السلطة المركزية، كما حدث في الصومال والعراق بعد التدخل الأجنبي، وازدهار دعوات تفكيك ليبيا، تحت شعار “الفيدرالية”، إلى ثلاثة أقاليم هي: برقة في الشرق، وطرابلس في الغرب، وفزان في الجنوب. ولا حاجة لإعلان استقلال الأقاليم رسمياً في الحقيقة، ما دامت ليبيا مفككة في الواقع إلى عشرات الإقطاعيات التي تحكمها مليشيات مختلفة… وليتعظ دعاة التدخل الأجنبي في سورية وفي غيرها.
الشيء الوحيد الذي يعمل بشكل جيد في ليبيا اليوم هو إنتاج النفط الذي بشرتنا وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير لها يوم 19/10/2012 أنه عاد لمستواه الإنتاجي قبل “الثورة” بفضل جهود شركات نفط غربية، مثل توتال الفرنسية وإيني الإيطالية وريبسول الإسبانية وووايترشال الألمانية وأوكسيدنتال الأميركية، حيث أغفلت الجزيرة نت في تقريرها عن عودة إنتاج النفط الليبي إلى مستواه السابق ما جاء في التقرير الفرنسي الأصلي عن امتلاك بعض تلك الشركات النفطية الغربية العاملة في لييبا أجهزتها الأمنية الخاصة لحماية آبار النفط التي تديرها، خاصة في المناطق البعيدة عن المدن، ويمكن إيجاد النسخة الإنكليزية من ذلك التقرير كما نشرته صحيفة دايلي ستار اللبنانية على موقعها في 20/10/2012.
وقد آثرنا أن نعتمد أعلاه على مصادر لا يملك خصومنا أن يجادلوا بمصداقيتها لأنها ساندتهم في كل حراكهم الموالي لحلف الناتو…
المهم، تدفع مدينة بني وليد الآن ثمن تمردها على واقع ليبيا ما بعد الغزو الأجنبي، وهي تتعرض اليوم لحصارين في آنٍ معاً: حصار جرذان الناتو من جهة، والحصار الإعلامي الذي تمارسه وسائل الإعلام العربية والأجنبية على حصارها من جهةٍ أخرى، وهو حصار ربما تشذ عنه قناة “روسيا اليوم” وبعض المواقع الصغيرة على الإنترنت.
بني وليد مدينة تستحق منا أن نسلط الضوء على معاناتها، وأن نقدم لها كل الدعم الذي يليق بها، خاصة في ضوء المبالغات والأكاذيب التي تطلقها وسائل الإعلام البترودولارية والإمبريالية عن حصار وقصف بعض المدن والبلدات السورية. فحصار بني وليد، بشكليه، هو بالمحصلة حصار سياسي.
بني وليد تدفع إذن ثمن هيمنة المليشيات “الخارجة عن السيطرة” على البلاد، سوى أن تلك المليشيات ليست خارجة عن السيطرة على الإطلاق، لأنها تلعب الدور المرسوم لها بالضبط، وقد كان حلف الناتو هو من سهل لها أمر السيطرة على ليبيا، تحت برنامج العولمة، أي برنامج الشركات متعدية الحدود الاستراتيجي، وهو برنامج تقويض سيطرة الدولة والسلطة المركزية، خاصة في الدول العربية المنتجة للنفط، وتحويل كل حقل نفطي إلى إمارة “مستقلة” يسهل على أية شركة أمنية أن تديرها.
ويشير ما سمعناه من بني وليد حتى الآن إلى تمسكها بالوحدة الوطنية للشعب الليبي، وحرصها على تجنيب البلاد الحرب الأهلية، خاصة أن مثل تلك الحرب ستأخذ طابعاً قبلياً سيعيد ليبيا إلى ما قبل الجاهلية. لكن للصبر حدوداً، وإذا فرضت الحرب على بني وليد، فلتكن حرباً لاستعادة ليبيا من أذناب التدخل الأجنبي ولاستعادة السلطة المركزية، لا حرباً قبلية تفكك البلاد، ولتكن بني وليد، رغم جراحها، مهد التحرير الحقيقي لليبيا من براثن الهيمنة الخارجية والتبعية للناتو، وبؤرة مقاومة في المغرب، إلى جانب سورية في المشرق، لإيقاف تغلغل الهيمنة الإمبريالية في الوطن العربي تحت عنوان ما يسمى “الربيع العربي”.
رحم الله الشهيد القذافي، فها قد انكشفت الأوراق أخيراً، وبات ملايين العرب يدركون، ممن أقنعتهم قوى الهيمنة الخارجية في غفلةٍ من الوعي بأن التدخل الأجنبي في ليبيا كان “ثورة”، بأن الثورة لا تكون حقيقية إلا إذا كانت أولاً وقبل كل شيء ضد قوى الهيمنة الخارجية. وإذا كانت ليبيا هي المكان الذي انقلب فيه مفهوم “الثورة” على رأسه، فلتكن ليبيا المكان الذي يعيد فيه الليبيون الأحرار وضع ذلك المفهوم على قدميه: من يضع يديه بيد حلف الناتو وهو يغزو بلاده لا يمكن إلا أن يكون مرتزقاً. والثائر الحقيقي هو من يحرر بلاده من الهيمنة الخارجية.
============================
ضحايا حملة الخير الني يقودها مجرم الحرب المقريف ضد المدنيين في بني وليد
http://www.youtube.com/watch?v=TfJrOwhNKME