يفترض تعبير “بترودولار”، كما توحي الكلمتان اللتان يتألف منها، وهما: بترو، بمعنى نفط، ودولار، أن البترودولار هو ببساطة عائدات بيع النفط، سواء من أعضاء أوبك، منظمة الدول المصدرة للنفط، أو من غيرها. لكن القصة ليست بتلك البساطة، ففنزويلا تصدر النفط، وكذلك كندا، ناهيك عن روسيا والنرويج وغيرها من الدول، مثل إيران، ورغم ذلك، لا تتبادر أي من تلك الدول إلى الأذهان عندما يُستخدم تعبير “بترودولار”.
التعريف الرسمي للبترودولار، بحسب كل المصادر الموثوقة، هو عائدات بيع النفط التي يتم إيداعها في بنوك الدول الغربية التي اشترته، أو في البنوك العالمية عامة، وهو أصل ما يسمى ب”الصناديق السيادية” لدى الدول المصدرِة للنفط التي تدير عبرها ثروتها كمحفظة استثمارية موزعة إلى أسهم وسندات ومعادن ثمينة الخ… وتصل قيمة بعض تلك الصناديق إلى مئات مليارات الدولارت، بحسب “معهد صناديق الثروة السيادية”، أهمها صندوق سلطة أبو ظبي الاستثمارية الذي تأسس العام 1976 والذي بلغت قيمة موجوداته 773 مليار دولار، وشركة سما الأجنبية القابضة (الصندوق السيادي السعودي التابع للبنك المركزي السعودي) الذي بلغت قيمة موجوداته حوالي 672 مليار دولار، وسلطة الاستثمار الكويتية التي بلغت قيمة موجوداتها 592 مليار دولار، وسلطة الاستثمار القطرية التي بلغت قيمة موجوداتها 256 مليار دولار.
تعود هذه الأرقام، بحسب موقع “معهد الصناديق السيادية”، لشهر حزيران 2015، ولا تمثل كل موجودات الدول الخليجية من احتياطيات العملة الأجنبية، بل الصناديق المتخصصة بالاستثمار الخارجي فحسب. وثمة صناديق سيادية لدى العديد من الدول، لكننا نركز هنا على الصناديق السيادية المرتبطة بالبترودولار، وهناك صناديق سيادية أخرى أصغر حجماً في الإمارات والسعودية وعُمان والبحرين غير المذكورة آنفاً.
خارج الدول الخليجية، نجد “سلطة الاستثمار الليبية” وحجمها 66 مليار دولار، الذي يمكن ضمه لفئة البترودولار بعد عام 2011، مع سقوط ليبيا في براثن حلف الناتو وأذنابه، وهنالك “صندوق تنظيم العوائد” الجزائري وحجمه خمسون ملياراً من الدولارات، “وصندوق التنمية الوطنية” الإيراني وحجمه 62 ملياراً، و”صندوق الاحتياطي الروسي” وحجمه 66 ملياراً، وجميعها صناديق استثمار سيادية تستند لعوائد الثروة النفطية، ولكن يصعب اعتبارها جزءاً من “البترودولار” بمقدار ما تتحكم تلك الدول بطريقة استخدام عائداتها النفطية، مثل فنزويلا وروسيا وإيران، والتي تعيد توجيهها ضمن خطة خاصة بها، فلا تتركها في البنوك الغربية لتوجهها على هواها، لا يُشار لعائداتها من النفط كبترودولار، إلا على سبيل التعميم، ومن قبل غير المتخصصين.
البترودولار إذن هو الدولار النفطي الخارج عن طوع السيادة والقرار الوطني المستقل. والحال أن العائدات النفطية الضخمة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات تم توجيهها من قبل البنوك الغربية كقروض للدول النامية، خاصة تلك المستوردة للنفط، مما أوقعها بعبودية المديونية الخارجية التي فرضت وصاية المؤسسات الاقتصادية الدولية عليها، فكسبت البنوك الغربية من جهتين: الفوائد الرهيبة على البترودولار، وإخضاع دول العالم الثالث المستوردة للنفط بالجملة، مما أسهم بضرب مشروعها الوطني التنموي المستقل، أو “مشروع باندونغ” كما يسمى أحياناً. ومن هنا نشأ مصطلح “إعادة تدوير البترودولار” في الاقتصاد السياسي، أي إعادة تدويره من قبل البنوك الغربية لاستعباد العالم الثالث اقتصادياً.
نستنتج من هذا أن الدول التي تحاول استخدام عائداتها النقدية من بيع النفط بشكل يتعارض مع مصلحة البنوك والشركات الغربية الكبرى تدخل في صراع ضارٍ على استقلالها وسيادتها مع حلف الناتو، الجناح العسكري لرأس المال المالي الدولي. ونسوق هنا مثالين: 1) محاولة ليبيا استخدام عائداتها النفطية لتأسيس “صندوق نقد أفريقي” ليكون بديلاً لصندوق النقد الدولي في القارة السمراء، وشروعها بتأسيس قمر صناعي أفريقي ليكون بديلاً عن القمر الصناعي الأوروبي الذي تعتمد عليه الدول الأفريقية للبث الفضائي مقابل مبالغ طائلة سنويا، 2) إصرار العراق تحت الحصار عام 2000 على تقاضي ثمن نفطه باليورو، وهو ما اعتبره بعض الكتاب مثالاً ساطعاً على ما أسموه ب”حروب البترودولار”، وأحد الأسباب الحقيقية للعدوان على العراق، وكان أحد أهم القرارات التي اتخذها الاحتلال بعد سيطرته على العراق تقاضي ثمن النفط العراقي بالدولار، كما ذكرت الفايننشال تايمز البريطانية في 5/6/2003. وقد كان لقرار إيران عام 2006 التحول لتقاضي ثمن النفط الإيراني باليورو دوراً في تصاعد الصراع بينها وبين الولايات المتحدة بالضرورة.
نقول “البترودولار”، لا “البترويورو” أو “البترو ين” (نسبة للين الياباني) أو “البتروفرنك” (نسبة للفرنك السويسري مثلاً)، لكون النفط يباع عالمياً ويسعر بالدولار، إذ تنقل النشرة الاقتصادية سعر برميل النفط بالعقود الآجلة مثلاً بعد ثلاثة أشهر بالدولار، لا بأية عملة أخرى. وهذا مهمٌ جداً لأن تسعير النفط وتقاضي ثمنه بالدولار، يعني زيادة الطلب العالمي عليه، والحاجة لإبقاء احتياطي كبير منه في البنوك المركزية، خصوصاً في الدول المستوردة للنفط، لكي تغطي وارداتها النفطية. فلو تم تقاضي ثمن النفط (والغاز) بغير الدولار، فإن ذلك سيعني انخفاض الطلب عليه وانخفاض سعره مقابل العملات الأخرى، خصوصاً أن الولايات المتحدة هي أكبر مستورِد في العالم. ومن هنا أهمية “الهيمنة العالمية للدولار”، الذي يشكل “البترودولار” أحد دعاماته، إذ لا يزال الدولار مسيطراً، في التبادل التجاري العالمي واحتياطيات البنوك المركزية في العالم، ولكن إلى متى؟
المهم أن “البترودولار” مشروع سياسي تابع للإمبريالية، لا مجرد عوائد مبيعات النفط بالمجرد. وما يجرى في الوطن العربي من قفز “بترودولاري” على المشهد الإعلامي والسياسي والانتخابي العربي هو وظيفة أخرى للبترودولار، فـ”البترودولار” يتم توظيفه سياسياً منذ الخمسينيات والستينيات بشكل محسوب لضرب حركات التحرر الوطني وكل مشاريع النهضة القومية، وقد كان أهم شكل لاستثماراته السياسية خلال السنوات الأخيرة: 1) نشر الفكر الوهابي، 2) دعم الحركات التكفيرية وتمويلها، 3) السعي للإمساك بالمشهد الإعلامي والثقافي والفني العربي.
إبراهيم علوش
البناء 16/12/2015
للمشاركة على فيسبوك: