عروبة سورية ضمانة أمنها واستقرارها

October 17th 2016 | كتبها

إبراهيم علوش

الدولة المركزية القوية، بالنسبة للأقطار العربية المحورية، مثل مصر والعراق وسورية والجزائر، وبالنسبة لدولة الوحدة العربية عندما تقوم، ليست خياراً يمكن أن نمضي فيه أو بشكل آخر للحكم غيره، إنما هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يحقق المصلحة القومية اذا أراد الشعب أن يحافظ على وجوده واقتصاده وأمنه واستقراره.

ويوثق كتاب “الجيوبولتيك” الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية في دمشق في العام 2008، نقلاً عن عدد من الباحثين الروس قبل حوالي قرن أن مساحة روسيا الشاسعة، والكثافة السكانية القليلة، والخطر الدائم للاعتداءات الخارجية من كل حدب وصوب، اشترطت تاريخياً قيام دولة مركزية قوية في روسيا للحفاظ على وجود المجتمع الروسي وأمنه واستقراره.

وهي الفكرة نفسها المطروحة في الفصل الثالث من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي” الصادر في العام 2008 في سياق شرح قانون النهوض العربي باعتباره متلازماً تاريخياً وبالضرورة مع قيام دولة مركزية قوية للأسباب نفسها.

ويقول “سالونيفيتش” أن الشعب الروسي لم يمتلك يوماً الحرية (الفردية) مثلما يمتلكها الشعب الأمريكي أو الشعب الإنكليزي لأن أمن الإنكليز والأمريكان من التهديدات الخارجية كانت تضمنه تاريخياً المحيطات والبحار والمضائق، أما أمن الشعب الروسي فلا يضمنه إلا التجنيد الإجباري! (ص. 20)

العبرة بالنسبة لسورية تحديداً، الواقعة في الجغرافيا السياسية بين قطب إقليمي عثماني وقطب إقليمي صهيوني، في ظل منظومة تجزئة قطرية تبعثر طاقات الأمة العربية، وتحِول كل قطر لتهديد لغيره، أن إضعاف الدولة المركزية القوية يؤدي فوراً لتهديد قدرة الشعب على الحياة على أرضه، وضرب الاقتصاد، وتعطيل عمل المؤسسات، وزعزعة الأمن الداخلي، وانكشاف الحدود للتهديدات الخارجية، كما نرى بأعيننا اليوم، وهو الدرس الجغرافي السياسي الذي ينطبق على العراق، كما رأينا أيضاً، وعلى ليبيا، كما ينطبق على مصر والجزائر.

الدولة المركزية القوية طبعاً تقوى، ولا تضعف، بمحاربة الفساد، وبتطبيق حكم القانون على الجميع كأسنان المشط، وبتفعيل آليات المحاسبة والمشاركة الشعبية، فهذا لا غبار عليه، أما أي مشروع “إصلاحي” يضع نصب عينه إضعاف مركزية الدولة وصلاحيات مؤسساتها السيادية ويجعلها مكشوفة للمؤسسات الدولية وخاضعة لها، فإنما هو مشروع انتحار وطني، لا مشروع إصلاح، ومن واجب الدولة، حفاظاً على الأمن الوطني، أن تجهضه.

أما في لحظة الأزمة واشتداد المخاطر الخارجية والاختراقات، فإن المصلحة العامة لا تحتمل إلا استراتيجيتين لا ثالث لهما: إما مع الدولة وإما مع الدولة… والبقية تأتي لاحقاً.

 

وثمة خلل جوهري في المنظومة الإقليمية اليوم وهو أن ميزان القوى يميل لغير مصلحة الدول العربية مع العدو والصديق.  ومع أن الفرق ببن الاثنين يجب أن يكون واضحاً وجلياً، لأن الخلط بين الحليف الذي لا يطابقنا تماماً وبين العدو الذي يعادينا تماماً يودي بنا إلى كوارث استراتيجية، فإن الحقيقة تبقى أن غياب ثقل عربي وازن في العداوات والتحالفات يضعفنا في الحالتين.  وسبب ذلك الضعف هو عدم وجود كتلة عربية وازنة.  وسبب عدم وجود مثل تلك الكتلة هو غياب المشروع القومي عن الميدان.

الهوية القومية العربية ليست خطاباً إنشائياً فحسب أو مجرد واجهة إعلامية للصراع، إنما هي محور المعركة في سورية والعراق وليبيا واليمن.  فعندما يُهاجم أقطاب العروبة بإسمها ينتصر أعداؤها.

كل ما يضعف الدول العربية المحورية يضعف العروبة، وكل ما يقويها في الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة يقوي العروبة.  وسورية ليست استثناء لهذا القانون.  وفي اللحظة التي تدور فيها المعركة حول عروبة سورية بالذات، فإن دعوات خروج سورية عن عروبتها بذريعة تغول عربان البترودولار على الجامعة العربية هو نصرٌ على الدور العربي لسورية بالذات.

يوجد عربٌ مع سورية كما يوجد سوريون ضد بلادهم، إنما العبرة في المشروع القومي الذي يشكل تخلي السوريين عنه نصراً لمشروع تحجيم سورية عربياً.  وفي الوقت الذي تسمسر فيه قوى مختلفة لنزع سورية عن عروبتها، فإن الضمان الحقيقي لرسالة سورية الجغرافية السياسية، أي لمشروعها العروبي الخالد، يبقى الجيش العربي السوري، والدولة السورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد.

 

سورية والهوية العربية القومية

عندما يتم اقتطاع محافظة من قطر مركزي لتصنع منه دولة، كما اقتطع لبنان والأردن وفلسطين من الشام، يصبح هم الجزء أن يثبت وجوده ومشروعيته وأصالته إزاء الكل الذي انفصل عنه، لذلك فإنك تجد هويته الجديدة قلقة، متوترة، نزقة، وانفعالية، تتوه بعيداً في إبراز أتفه التفاصيل لتثبت تميزها عن المركز الذي انشقت عنه، لأنها في 99% من الحالات تمايزات ثقافية مفتعلة يصعب ألا تجدها في محافظات المركز.

أما الهوية العربية الشامية فتجدها مرتاحة، مستقرة، رحبة، وواثقة بلا ضجيج، إلا عندما يتعلق الأمر بقوى الهيمنة الخارجية، الإمبريالية والصهيونية تحديداً، والآن الوهابية، لأن الإناء الكبير يعرف أنه يستوعب الإناء الصغير، فإذا أراد أن يثبت ذاته انطلق للأعلى والأوسع، باتجاه الوطن العربي الكبير، ليصبح دولة أموية أو مشروعاً قومياً عربياً…

فالهوية العربية الشامية تستوعب الفلسطيني والأردني واللبناني كتحصيل حاصل، والعكس ليس صحيحاً.  والشام تبتسم وتتسامح إزاء استفزازات وولدنات بعض أخوتها الصغار، إلا عندما يضعون يدهم بيد قوى الهيمنة الخارجية طبعاً. فذاك خط أحمر.

والشام بالذات تعرف بالحدس والوعي، أن أمنها الوطني عصب الأمن القومي العربي، وأنها لا تنتقل من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم إلا تحت راية مشروع قومي عروبي لم يبق في الميدان غيرها ليعيد إنتاجه سياسياً أو فكرياً أو ميدانياً على الرغم من كل الجراح، جراح الأخوة وجراح الأعداء، وجراح الأخوة أصعب.

 

وفي السياق ذاته، خلال فترة تحسن العلاقات السورية-التركية قبل سنوات خلت، وخلال فترة رئاسة الدكتورة نجاح العطار لوزارة الثقافة السورية تحديداً، وصل وفد تركي رفيع المستوى إلى دمشق والتقى بالسيد الرئيس ثم بمعالي الوزيرة العطار وكان ذلك الوفد يحمل في جعبته مطلباً أوحد: إزالة أي إشارة سلبية لسلاطين آل عثمان من المناهج الدراسية السورية… وكان الرد: وهل أزلتم الإشارات السلبية لنا في مناهجكم والتي تمس سيادتنا؟!! فرد الاتراك: كلا، لكننا في طور القيام بذلك… فردت الوزيرة: عندما تفعلون، يمكن أن نتناقش بالأمر..

كذلك لا ينتبه كثيرون لأحد بنود المطالب التي وضعها كولن باول أمام السيد الرئيس بشار الأسد بعيد احتلال العراق في العام 2003، وكان على رأسها بنود شهيرة مثل إغلاق مكاتب وقواعد منظمات المقاومة الفلسطينية، وقطع العلاقة مع حزب الله، وتحجيم العلاقة مع إيران، إلخ… وهي المطالب التي تحمل في باطنها تهديداً عسكرياً واضحاً في ظل التواجد العسكري الأمريكي الضخم في العراق.  وكان الموقف المفصلي آنذاك للرئيس بشار الأسد هو رفض مطالب/تهديدات باول بكل هدوء أعصاب، فيما كانت تصطك ركب كثيرين في المنطقة… وكان الرد الميداني بتقديم الدعم العملي للمقاومة العراقية.

ما لا يجوز أن ننساه هنا هو مطلب باول الآخر بشطب مساقات مادة “الثقافة القومية” من المناهج الدراسية السورية، وهو ما لا يقل أهمية عن المطالب الأمريكية الأخرى.

وفي الحالتين التركية، المتعلقة بعصور الظلام العثمانية، والأمريكية، المتعلقة بمساق الثقافة القومية، نلمس أن أعداء سورية والأمة العربية يدركون ما لا يدركه كثيرون بيننا: أن تقويض الحس القومي المقاوم، وتقويض الهوية العربية السورية، يتطلب بالضرورة استهداف التثقيف القومي وشطبه، وإعادة كتابة التاريخ، وتغيير المناهج الدراسية بما يتلاءم مع مصالح قوى الهيمنة الخارجية ورؤاها.

إنها منهجية تزييف الوعي التي تقف لها القيادة السورية بالمرصاد.  وسورية، التي يشكل التثقيف القومي والخطاب القومي هويتها، تدرك جيداً أن ذلك أحد أهم أسباب استهدافها، وأنها بدفاعها عنه تدافع عن كيانها.

سورية عرين العروبة، وحدها، تدافع بالدم عن حقها وواجبها في صياغة مناهجها الدراسية، وخطابها، على أساس قومي مقاوم، رغم أنف الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية.

فأين غير سورية منها على مقياس العروبة؟!

 

للمشاركة على فيسبوك:

 

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1493170067366566&id=185865588097027

 

 

الموضوعات المرتبطة

التقاطع التركي-الصهيوني في معركة الشمال السوري

إبراهيم علوش – الميادين نت في التوقيت، والجغرافيا السياسية، والأدوات، وتقاطُعِ الأهداف والمصالح، كشف هجوم المجاميع الإرهابية المسلحة في الشمال السوري الصلة العضوية بين رعاته، أي بين [...]

ماذا بعد تعثر حملة الاحتلال البرية في جنوب لبنان؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت تَغِيب أو تُغَيّبُ، بالتدريج، مجريات عمليات قوات الاحتلال البرية جنوبي لبنان عن وسائل الإعلام الغربي الرئيسة منذ شهرٍ تقريباً، ويبدو أن إبعادها عن بؤرة [...]

الاقتصاد “الإسرائيلي” ينزف، ولكن

    إبراهيم علوش – الميادين نت كانت التقديرات الأولية قبل عامٍ تقريباً تشير إلى أن كلفة الحرب على غزة سوف تحمّل الموازنة العامة في الكيان الصهيوني نحو 50 مليار دولار من التكاليف. لكن [...]

لماذا خسر “الديموقراطيون” الناخب الأمريكي في الانتخابات الأخيرة؟

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان الجمهوريون، عند لحظة كتابة هذه السطور، يعززون تقدمهم على "الديموقراطيين" في مجلس النواب الأمريكي، بـ 211 مقعداً في مقابل 199 للديموقراطيين (أصبحت الآن 212 [...]

أزمة الطرف الأمريكي-الصهيوني على الجبهة اليمنية

إبراهيم علوش – الميادين نت من بين كل جبهات القتال المرتبطة بمعركة "طوفان الأقصى"، لا يوجد ميدان ينخرط فيه البنتاغون والغرب الجماعي بصورةٍ عسكريةٍ مباشرةٍ إلى جانب العدو الصهيوني أكثر من [...]
2024 الصوت العربي الحر.