من المؤسف أن نضطر لتبيان الفروق بين الإرهابي التكفيري والمقاوِم الوطني، لكن صور التفجيرات العشوائية وقطع الرؤوس والتفنن في أساليب القتل واستباحة ال والأوطان، والخطاب الطائفي المسعور، وممارسات الإقصاء والتهجير والتدمير، وكل ممارسات التكفيريين الهمجية الموجهة بمعظمها ضد المواطنين العرب أساساً، راحت تدفع ببعض المواطنين للتساؤل: ما هو الفرق بين كل هذا، من جهة، وبين الخطاب المعادي لليهود الغزاة في فلسطين؟! ألا ينم كلاهما عن عقلية ومنهجية مشتركة، خصوصاً عندما لا يتم الفصل بشكل واضح بين ما هو وطني وما هو ديني؟ ألا يفترض أن تدفعنا مجازر السنوات الست الماضية وجرائمها ومآسيها لإعادة النظر بموقفنا من مجتمع الغزاة اليهود في فلسطين، والنظر إليهم كبشر، وإدانة أي استهداف لهم، خصوصاً لـ”مدنييهم”؟!
للمتأثرين بعقابيل “الربيع العربي”، يكفى لكي تنجلي آثاره الخبيثة عن الوجدان أن نلحظ أنه دفع قطاعات من شعبنا لخلط الأوراق ولإذابة البون الشاسع في الأذهان ما بين الإرهابي التكفيري والمقاوِم الوطني، ككرنفال من الأقنعة المزركشة والوجوه المستعارة التي أسهمت وسائل الإعلام بتعميمها ليتحول الإرهابي إلى “مقاوِم”، والمقاوِم الحقيقي إلى إرهابي، وليتحول داعمو المقاومة إلى “داعمين للإرهاب”، وداعمو الإرهاب والتكفير الحقيقيون، من واشنطن إلى أنقرة، إلى “داعمين للثورات”، وليتحول الثوار الحقيقيون إلى “مرتزقة”، والمرتزقة الحقيقيون إلى “ثوار”، إلخ… كما تعرفون جيداً.
لكن مثل هذا الخلط للأوراق، وهذا الصهر المتعمد، بالحديد والدم، للفروق ما بين الإرهابي التكفيري والمقاوِم الوطني لم يحدث صدفة أو خبط عشواء. وكما أشرت في العدد 32 لمجلة “طلقة تنوير” المخصص لمحور “حروب الجيل الرابع”:
“عكف الاستراتيجيون الأمريكيون ملياً على استخلاص دروس حرب فيتنام وغيرها من حروب التحرير الشعبية في العالم الثالث التي فشلت فيها الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، أو تكبّدت وجيوشُ الأنظمة التي دعمتها خسائرَ غيرَ محتملة جعلت تحقيق تلك الأهداف غير مجدٍ، فقررت أن تسطو على خطاب واستراتيجيات وتراث العمل التنظيمي والجماهيري والنقابي للحركات القومية واليسارية المناهضة للإمبريالية، من جنوب شرق آسيا إلى أمريكا اللاتينية مروراً بالوطن العربي وأفريقيا، لتوجهه الإمبريالية ضدّ خصومها. وهو ما بتْنا نرى ملامحه بوضوح من حولنا، من الحديث عن “المقاومة” في اليمن، المدعومة من العدوان السعودي، إلى الحديث عن “الثوار” في ليبيا وسورية المدعومين من حلف الناتو والأنظمة الرجعية العربية، إلى تبنّي الإعلام الإمبريالي والرجعي العربي لـ”الاحتجاجات الجماهيرية” ضدّ “الطغيان والاستبداد”!”
“هي ليست نظرية مؤامرة يا سادة… لكننا لا نقرأ! فهم يناقشون خياراتهم علناً في مجلّاتهم ومراكز أبحاثهم قبل أن تصبح سياساتٍ واسراتيجيات، أما خطط العمل التفصيلية فهي التي تبقى في حيّز السريّة. ونحن أمة اقرأ مشكلتنا أننا لا نستيقظ إلا بعدما تصيبنا مثل تلك الخطط التفصيلية في مقتل… مثلاً في عام 2006 توسّع العقيد في سلاح المارينز الأمريكي توماس هامز في شرح مفهوم حروب الجيل الرابع في كتابه الشهير “المقلاع والحجر”The Sling and The Stone . وهو كتاب يضع أسس نظرية الحروب اللامتناظرة، أو حروب الجيل الرابع، بقلم عقيد من قوات المارينز أسهَمَ منذ العراق بتدريب كثيرين على خوضها ميدانياً، شارحاً حدود القوة العسكرية التقليدية ونقاط ضعفها. وأهمية العقيد هامز أنه متخصص بحروب مكافحة التمرد Counter-insurgency warfare. وقد استخلص في كتابه “المقلاع والحجر” دروس الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987 ضدّ العدو الصهيوني، ووضع بناءً عليها مفهوم “قوة الضعف”، حيث يتم استخدام المتظاهرين العزّل مقابل قوة الدولة على مرأى من الكاميرات ووسائل الإعلام لإسقاط خطاب الدولة ومصداقيتها إعلامياً وسياسياً بصفتها “القوة الغاشمة التي تقتل الأطفال في الشارع” (درعا 2011 نموذجاً؟)! ومن الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000 ركّز هامز على دراسة “حملة العمليات الاستشهادية” التي اعتبر أنها تسقِط قانون “قوة الضعف” التي تحققت في انتفاضة عام 87، لتفتح مسار مواجهة عسكرية شاملة هي غير مباشرة بالتعريف. وبعد ذلك درس هامز وحلل تجارب مقاومة الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان، ومن ثم أدخل الإنترنت على المعادلة، معتبراً أنّ الشبكات الأفقية غير الهرمية وغير المركزية هي الأنسب لشنّ حروب الجيل الرابع.”
أي أنهم، باختصار، درسونا، ليوجهوا اسلحتنا ضدنا، وقد كانت تجربة الانتفاضات الفلسطينية المعاصرة مصدراً رئيسياً للدروس التي طبقتها الإمبريالية بشكل معكوس علينا، لكن ذلك لا يجوز أن يدفعنا للتخلي عن أسلحتنا لهم، بل يجب أن يدفعنا لتصعيد استخدامها ضد العدو الصهيوني، أي ضد المجتمع الصهيوني بكل مكوناته، وليس هناك وضع أفضل للعدو الصهيوني من الوضع الحالي الذي تتفجر فيه التناقضات الداخلية الطائفية والعرقية والمناطقية بأبشع طريقة دموية ممكنة، فيما هو بمنأى عما يجري، ليصبح التناقض الرئيسي بين السنة والشيعة، وليصبح هو “حليفاً موضوعياً” ضد بشاعة الإرهاب التكفيري الذي أسهم هو بخلقه ونشره، ولتصبح القضية الفلسطينية الضحية الأولى للربيع المزعوم.
في مثل هذا الظلام السياسي الدامس، تتلألأ شموعٌ اسمها المبادرات الفردية التي تستهدف العدو الصهيوني بكل مكوناته، حيثما استطاعت، لتؤكد أن التناقض التناحري هو مع المجتمع اليهودي في فلسطين، ولترسخ في وجه المحتل الغاصب برنامج الوحدة الوطنية الحقيقية الوحيد ذي المصداقية: ارحل!
إن مثل هذه المبادرات الفردية، خصوصاً منذ معاهدات السلام الخيانية، هي بمجموعها مبادرة شعبية جمعية لملء الفراغ في فلسطين المحتلة. وقوتها وضعفها نابعان من مصدرٍ واحد هو أنها مبادرات فردية، فهي لذلك تجعل من شبه المستحيل على العدو أن يتنبأ بها، ولذلك تضربه معنوياً وتفت في عضده كنملٍ ينخر الجبل، ولكنها تفتقد، بحكم كونها مبادرات فردية، للإمكانات والقدرة على التخطيط والتنفيذ المعقدين، وتكتفي بالهدف المتاح الذي قد يكون أي شيء يمكن الوصول إليه مهما كان بسيطاً، وهي أشبه بقطرات المطر، ربما تستهين بقطرة، لولا أنها تبشر بالطوفان…
الإرهابي التكفيري، بالمقابل، لا يقاتل احتلالاً أو إمبريالية أو تبعية أو استغلالاً، بل يقتل الناس (ومعظم ضحاياه من العرب السنة بالمناسبة)، وهو يدمر البلاد، ويستهدف الجيوش الوطنية، ويفرّق ما بين أبناء الشعب الواحد، ويستبيحهم جميعاً قتلاً وتهجيراً واغتصاباً وسطواً وإجراماً، إلا اليهودي الغازي في فلسطين المحتلة، فهو في أمانٍ منه، لا لأنه “يحترم الحياة” في هذه الحالة بالذات، بالرغم من حقيقة الاحتلال، بل لأنه جعل تناقضه الرئيسي مع الشيعة والمسيحيين واليزيديين إلخ… وعلى وجه الخصوص مع كل السنّة الذين يخالفونه في أي جزئية صغيرة من قناعاته المعتوهة.
المقاوِم الوطني، بالمقابل، فضلاً عن كونه يمارس عملاً مشروعاً في ظروف الاختلال الشديد في ميزان القوى العسكري والسياسي مع العدو الصهيوني، يقدم خدمة جلى للأمة العربية، في ظروف “الربيع العربي” بالذات، لأنه يعيد توجيه البوصلة الضالة باتجاه العدو الصهيوني ليذكر، عسى أن تنفع الذكرى: كل بوصلة لا تتجه للقدس… مشبوهة!
ثمة جهة محددة مستفيدة من خلط الأوراق وإذابة الجدران ما بين الإرهابي التكفيري والمقاوِم الوطني… نترك لكم أن تحددوا من هي… الإرهابي التكفيري يستهدفنا نحن، لمصلحتها، والمقاوِم الوطني يستهدفها لمصلحتنا كأمة، وهي جهة معادية، تمثل احتلالاً، بكل مكوناتها، وهي تضحك بملء شدقيها إذ ترانا نقتل بعضنا، فلا تدعوها تضحك مرتين وهي تراكم تدعون للتعامل معها بـ”إنسانية” بجريرة الإرهاب التكفيري الذي تستفيد منه هي!!
للمشاركة على فيسبوك: