د. إبراهيم علوش
يُنشر كل رئيس أمريكي، منذ رونالد ريغان في عام 1987، “تقرير استراتيجية الأمن القومي” الذي يمثل رؤية الفرع التنفيذي لحكومة الولايات المتحدة، وهذا التقرير عبارة عن بيان شامل يجسد المصالح والأهداف العالمية للولايات المتحدة التي تعدّها مهمة لأمنها، كما يطرح التقرير الخطوط العريضة للسياسات الأمريكية الواجب اتباعها لتحقيق أمنها القومي على ضوء تلك الرؤية. وقد قرأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 18 كانون الأول 2017 نص “تقرير استراتيجية الأمن القومي”، المؤلف من 60 صفحة تقريباً، وهو أمر غير مألوف لم يسبق له أن حدث من قبل، مع أنه ليس كاتبه، بل الدكتورة ناديا تشادلو، مساعد رئيس قسم استراتيجية الأمن القومي في مجلس الأمن القومي، ولعله أراد من وراء ربط نفسه إعلامياً بهذا التقرير، وهو يرطن مطولاً بمسائل استراتيجية الأمن القومي، التي لا يفهم معظمها على الأرجح، أن يمحو بعضاً من انطباعات الجمهور عنه كطبل أجوف.
بجميع الأحوال، لا يصدر هذا التقرير كل عام بالضرورة، بل جرت العادة أن يصدر مرة كل أربعة أعوام منذ عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عام 2002، وكان يصدر سنوياً في عهد الرئيس بيل كلينتون قبل بوش، ما عدا في العام 1999، وكان يصدر بشكل شبه سنوي قبل كلينتون، وهو تقرير عام يُقدم للكونغرس الأمريكي، على أن تتبعه مجموعة من التقارير التفصيلية تترجم التوجهات العامة المتبناة فيه إلى خطط عمل، منها مثلاً “الاستراتيجية العسكرية القومية”، وغيرها.
وقد تميز “تقرير استراتيجية الأمن القومي” الذي ألقاه ترامب هذه المرة بتركيزٍ عالٍ على مواجهة التحديات الثلاث المتمثلة أولاً بـ”الطموحات الرجعية لروسيا والصين”، وثانياً بـ”الدولتين المارقتين إيران وكوريا الشمالية”، وثالثاً بـ”الإرهاب والجماعات الإرهابية”. ويلاحظ في هذا السياق أن الخطاب التصعيدي إزاء روسيا و”طموحاتها” و”انتهاكاتها لسيادة الدول” وضرورة مواجهتها يعبر عن “الدولة العميقة” الأمريكية أكثر مما يعبر عن نهج ترامب التصالحي مع روسيا والتصعيدي مع الصين منذ حملته الانتخابية.
أما بالنسبة للصراع العربي-الصهيوني، فقد جاء “تقرير استراتيجية الأمن القومي” ليعبر عن توجه صهيوني عند إدارة ترامب أكثر وضوحاً مما كانت عليه الحال عند أي رئيس أمريكي آخر، لتتخلى الولايات المتحدة بهذا عن أي إيحاء بالتوازن في الموقف معتبرةً أن أساس مشاكل المنطقة لا ترتبط بالصراع العربي-الصهيوني، بل “بالتطرف الإسلامي والعنف، والتهديدات من المنظمات الإرهابية الجهادية ومن إيران”. وهنا يصبح من الواضح أن الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني يستفيدان من الإرهاب، لا سيما التكفيري منه، للتعمية على حقيقة الصراع في المنطقة كصراع ضد الهيمنة الغربية والاحتلال الصهيوني ومظاهرهما.
وتحت العنوان الفرعي “الاستراتيجية في السياق الإقليمي، الشرق الأوسط” (الصفحات 48-50)، يقول التقرير: “تنشد الولايات المتحدة شرقاً أوسطَ لا يكون ملجأً آمناً أو أرضاً خصبة للجهاديين الإرهابيين، ولا يكون مُهيمناً عليه من قبل أي قوة معادية للولايات المتحدة، ويسهم في سوق طاقة عالمية مستقرة”. إذاً من غير المسموح أن توجد قوة معادية للولايات المتحدة في بلادنا، هكذا قرر العم سام!
وفي مسعى واضح لخلط الأوراق بين ما يشكل نضالاً وجهاداً مشروعاً ضد الهيمنة والاحتلال من جهة والإرهاب من جهة أخرى، يضيف التقرير: “لا تزال المنطقة موطناً لبعض أخطر المنظمات الإرهابية، فـ”داعش” و”القاعدة” تنموان بفضل عدم الاستقرار، وتصدران الجهاد العنيف. إيران، الراعي الأول للإرهاب في العالم، تنتهز عدم الاستقرار لتوسيع نفوذها من خلال الشركاء والوكلاء، ولنشر الأسلحة، والتمويل، وهي تستمر بتطوير قدرات استخبارية وصواريخ بالستية أكثر قدرةً، كما أنها تتولى نشاطات افتراضية خبيثة. وهذه النشاطات مستمرة من الصفقة النووية عام 2015. إيران تستمر بإدامة دورة العنف في المنطقة، مسببةً ضرراً جسيماً للسكان المدنيين”. فإذا كان إيران “الراعي الأول للإرهاب في العالم”، ألا تصبح “أكثر خطراً” من “أخطر المنظمات الإرهابية”؟!
يتابع التقرير بصدد رؤيته لمصدر مشاكل المنطقة: “على مدى أجيال، تم فهم النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين باعتباره العامل الرئيس الذي يمنع السلام والازدهار في المنطقة. أما اليوم، فإن التهديدات من المنظمات الجهادية الإرهابية والتهديد من إيران باتت تخلق الوعي بأن إسرائيل ليست سبب مشاكل المنطقة. وثمة دول باتت تجد بصورة متزايدة مصالح مشتركة مع إسرائيل في مواجهة التهديدات المشتركة”. ومثل هذا الكلام يكشف بوضوح أن المطلوب هو جعل التناقض الرئيسي في المنطقة مع إيران، لا مع العدو الصهيوني، وحتى كلمة “المنظمات الجهادية الإرهابية” تشمل في القاموس الأمريكي تلك التي تقاوم الاحتلال الصهيوني…
في الجانب العسكري والأمني يقول التقرير: “سوف نحتفظ بالتواجد العسكري الأمريكي الضروري في المنطقة لحماية الولايات المتحدة وحلفائنا من الهجمات الإرهابية وللحفاظ على ميزان قوى إقليمي مؤاتٍ… سوف نعمل مع الحلفاء لتحييد نشاطات إيران الخبيثة في المنطقة”. وهنا يوجد تأكيد على بقاء القوات الأمريكية في المنطقة بذريعة مواجهة إيران.
مقابل مثل هذه اللهجة التصعيدية في الموقف من إيران، نلاحظ أن حدة الخطاب ضد القيادة السورية قد خفتت كثيراً، وهو ما يعكس إدراكاً متزايداً بالضرورة عند الدولة العميقة الأمريكية بحقيقة الوقائع الميدانية والسياسية في الميدان السوري، مع التأكيد سلفاً أن عداء الإدارة الأمريكية لسورية قديم، وأن عدم وجود هجمة معلنة لا يعني البتة عدم وجود نيات خبيثة سبق أن عبرت عنها الإدارة الأمريكية على مدى سني الأحداث في سورية، وقبلها. المهم، وردت بضع إشارات عابرة إلى سورية في “تقرير استراتيجية الأمن القومي” المعلن عنه مؤخراً، وهي تتمحور حول التأكيد أن “داعش” و”القاعدة” كسرت الولايات المتحدة وحلفاؤها ظهرهما ولكنهما لم تهزما في سورية بعد، والأهم هو الجملة التالية: “سوف نسعى لتحقيق تسوية للحرب الأهلية السورية تضع شروطاً لعودة اللاجئين إلى منزلهم وأن يبنوا حياتهم بأمان”، وهذا يمثل بالضرورة تراجعاً كبيراً عن هراء “إسقاط النظام” و”تغيير النظام” وما شابه.. لكن الجملة التي تلت ذلك مباشرةً هي: “سنعمل مع الشركاء لقطع كل الطرق على النظام الإيراني للوصول إلى سلاح نووي ولتحييد التأثير الإيراني الخبيث. وسنظل ملتزمين بالمساعدة على تسهيل الوصول لاتفاق سلام شامل يكون مقبولاً لدى الإسرائيليين والفلسطينيين”. وما يمكن أن نفهمه من مثل هذا الكلام هو الإقرار بميلان كفة الميزان لمصلحة سورية وحلفائها، مع محاولة إدخال شروط ذات طابع إقليمي في نسيج التسوية السياسية.
لكن باب “فتح الملفات” يظل قائماً، ففي الجزء المتعلق بأسلحة الدمار الشامل يقول التقرير: “يتزايد الخطر من اللاعبين المعادين، من دولٍ وغير دول، الذي يحاولون الحصول على أسلحة نووية وكيميائية وإشعاعية وبيولوجية. واستخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية ضد مواطنيه يقوض المعايير الدولية ضد هذه الأسلحة الشنيعة، مما قد يشجع المزيد من اللاعبين على الحصول عليها واستخدامها. و”داعش” استخدمت الأسلحة الكيميائية في العراق وسورية، والمجموعات الإرهابية لا تزال تحاول أن تحصل على مواد مرتبطة بأسلحة الدمار الشامل”. ومن الواضح في نص التقرير هنا أنه يقر باستخدام الجماعات الإرهابية لأسلحة الدمار الشامل في العراق وسورية، ولكنه يعد ذلك “ردة فعل” على “استخدامها من قبل النظام السوري أولاً”، وهو تبرير سخيف فعلياً لما تقوم به الجماعات الإرهابية، لا سيما أن استخدامها لمثل تلك الأسلحة ثابت ومؤكد، فيما ما يوجه للدولة السورية من تهم سخيف وملفق ومفتعل.
تشرين 27 كانون أول 2017
http://tishreen.news.sy/?p=128890
للمشاركة على فيسبوك:
سورية واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في عهد ترامبد. إبراهيم علوشيُنشر كل رئيس أمريكي، منذ رونالد ريغان في عام…
Geplaatst door إبراهيم علوش op woensdag 27 december 2017