في تعريف التطبيع

August 11th 2010 | كتبها

د. إبراهيم علوش

 

السبيل 12/8/2010

 

يشيع بعض المصطلحات أحياناً إلى درجة بات يعني معها كل شيء، وبالتالي لا شيء، بل قل بات يعني أشياء مختلفة للناس المختلفين، انطلاقاً من انتماءاتهم ورؤاهم السياسية والاجتماعية المختلفة.  فمصطلح “الإرهاب” مثلاً لا تعريف موحداً له، وكذلك تعابير “التطرف” و”الاعتدال” و”الولاء والانتماء”، وعشرات التعابير غيرها، التي يفسرها كلٌ على هواه فعلياً… فما يلي محاولة لصياغة تعريف محدد لمفهوم “التطبيع”، خاصة بعدما دخلت على مقاومة التطبيع قوى وشخصيات ليست مناهضة للتطبيع من ناحية مبدئية.

 

التطبيع يعني جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، ولا يعني بالضرورة إعادة الأمور إلى طبيعتها كما يذهب البعض.  وفي علم الإحصاء وقواعد البيانات ثمة مصطلح علمي هو “تطبيع البيانات”، بمعنى جعل البيانات الإحصائية أكثر قابلية للاستخدام في البرمجة والتحليل (Normalization of Data) مما هي في حالتها الخام قبل تطبيعها.  بالتالي، لا ضرورة للإصرار على استخدام مقاومة الصهينة بدلاً من مقاومة التطبيع، باعتبار التطبيع يمثل “عودة مزعومة لوضعٍ معين كان يوماً ما طبيعياً”، كما يذهب بعض الأصدقاء والزملاء الكرام بكل حسن نية.  فالتطبيع هو جعل العلاقات طبيعية بين طرفين ليست العلاقات بينهما طبيعية حالياً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا… ولا حرج بالتالي من إطلاق تعبير “مقاومة التطبيع” على من يقاومون جعل العلاقات طبيعية بيننا وبين الكيان الصهيوني.

 

وفي اللغة تأتي لفظة تطبيع على وزن “تفعيل”، فهي عملية وصيرورة دائبة وصولاً لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة.  فالتطبيع نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو غيرها. 

 

لكن بغض النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحداً وهو جعل الوجود اليهودي في فلسطين أمراً طبيعياً، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنىً تطبيعياً. 

 

وهنا ندخل في صراع مبدئي فوراً مع من لا يرى في التواجد اليهودي في فلسطين مشكلة، متجاهلاً أنه احتلال وأنه يمثل التجسيد الديموغرافي للفكرة الصهيونية في فلسطين، فتراه  يعترف به، وبكل حماسة، تحت ستار مقولات مخترقة تطبيعياً بالتعريف مثل مقولة “الدويلة الفلسطينية” و”الدولة الواحدة” و”قرارات الشرعية الدولية” وما شابه، لأنها مقولات تتضمن قبولاً إما بالتواجد اليهودي في فلسطين، وإما بدولة “إسرائيل”، بشكلها الحالي، أو كدولة من المطلوب “إصلاحها ديموقراطياً وسلمياً من الداخل”…!!!!!!!!!

 

ويكثر مثل ذلك النوع من الهراء الاستسلامي عند كل الشعوب الواقعة في ظل احتلال في ظروف التراجع والجزر، أما في ظروف المد الوطني والتحرري، فإن مروجي مثل تلك المقولات يصنفون آلياً كخونة، ويتم التعامل معهم على هذا الأساس بلا أدنى تردد، حتى لو أقنعوا أنفسهم بأنهم يساريون إنسانيو النزعة، أو مؤمنون يرون في المحتلين اليهود في فلسطين “أهل كتاب”!

 

بالرغم من ذلك، ترى بين أنصار دويلستان أو “إسرائيل” لكافة مواطنيها، من يقاوم التطبيع في مظاهره وعوارضه، دون أن يرفض مبدأ التواجد اليهودي في فلسطين.  هذا النوع من مقاومة التطبيع طبعا يمثل استخداماً لمقاومة التطبيع لأغراض تكتيكية، وليس موقفاً مبدئياً رافضاً للتطبيع، ومع ذلك، يجب تشجيع كل موقف أو عمل مناهض للتطبيع، دون الوقوع ضحية للأوهام، ومع التنبيه، استباقاً للإحباط، أن مقاومة التطبيع من أجل المطالبة “بتطبيق قرارات الشرعية الدولية” كثيراً ما تدخلنا مواربةً في التطبيع…

 

ومن الضروري التأكيد هنا أن السجين لا يملك إلا أن يتعامل مع سجانه، لكن ضمن حدود وضوابط وشروط دقيقة، فأهلنا في الأرض المحتلة لا جناح عليهم في أمورهم المعيشية، أما الانخراط في الكنيست والمؤسسات الصهيونية فعمل تطبيعي من الطراز الأول ولا يمكن تبريره بأي شكل.

 

alloush100@yahoo.com

 

 

 

الموضوعات المرتبطة

جوائز نوبل هذا العام سياسياً وأيديولوجياً

  إبراهيم علوش  - الميادين نت برزت، إعلامياً، 3 أسماء لدى الإعلان قبل نحو أسبوعين عن الفائزين بجائزة نوبل لعام 2025: ماريا كورينا ماشادو، الفائزة بجائزة نوبل للسلام، لأنها زعيمة للحركة [...]

“الهوية اليهودية”: قومية أم دينية؟  

إبراهيم علوش – الميادين نت تاريخياً، نحا الخطاب المقاوم في فلسطين باتجاه تصنيف اليهود أتباعاً لديانة سماوية فحسب، لا مشكلة معهم جوهرياً بصفتهم تلك، وباتجاه تركيز بوصلة التناقض الرئيس نحو [...]

اليهودية، الصهيونية، ومسألة “إسرائيل الكبرى” عقائدياً

  إبراهيم علوش – الميادين نت تقبع، بين جولات الصراع مع العدو الصهيوني، مسألة جوهرية، يتحرج كثيرون من الخوض فيها، على الرغم من أنها تمثل رافعة أيديولوجية لزعزعة استقرار المنطقة من المنظور [...]

“إسرائيل الكبرى” بين الجغرافيا السياسية والأيديولوجيا

  إبراهيم علوش ربما تبدو مقولة "إسرائيل الكبرى" شطحة أيديولوجية تعتنقها قوى وشخصيات متطرفة تتموضع في أقصى يمين الحركة الصهيونية، وربما تبدو تلك المقولة نبتاً شيطانياً يرعاه أمثال "الحزب [...]

المنظومة الليبرالية في الغرب في مواجهة “أزمة غزة” داخلياً

  إبراهيم علوش – الميادين نت كان مهماً جداً الربط الذي أقامه المناضل جورج إبراهيم عبدالله، في حواره الخاص مع قناة الميادين في 3/8/2025، بين ظاهرة تصاعد الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية، [...]
2025 الصوت العربي الحر.