إبراهيم علوش – الميادين نت
كشفت المنظومة الرسمية العربية، مجدداً، عجزها عن الدفاع عن الأمن القومي العربي، حتى بأدنى سقفٍ ممكن، أو عن تواطئها عليه، أولاً، كمنظومة تجزئة، صممت كي تترك الأمة العربية مكشوفةً أمام المخاطر التي تتهددها معاً أو تتهدد أجزاءها منفردة، وثانياً، كميزان قوى ضمن تلك المنظومة راح يميل بصورةٍ متزايدة نحو خيار الخضوع الذيلي للغرب الجماعي، خصوصاً مع انحسار الأنظمة ذات التوجه المستقل في المشهد الرسمي العربي، عدداً وأثراً، من الانقلاب الساداتي على الناصرية في مصر، إلى ما يسمى “الربيع العربي”، مروراً بالعدوان على العراق وحصاره واحتلاله ومحاولة تفكيكه.
لم يكن متوقعاً من المنظومة الرسمية العربية أن تجرد الجيوش لتحرير فلسطين، ولا أن تعلن الحرب على الكيان الصهيوني رداً على العدوان الهمجي على غزة، لكن التحولات في المشهدين الدولي والإقليمي كانت تشجع وتتيح القيام بأكثر من التفرج على المجازر والدمار.
كان الانضواء في منظومة البريكس، والتوجه نحو رفع أسعار النفط ضمن “أوبك+”، على خلفية العقوبات الغربية على روسيا ونفطها وغازها، والتقارب مع روسيا والصين، والشروع بفك الحصار الرسمي العربي عن سورية، والمصالحات الرسمية العربية مع إيران، على النقيض من التوجه الغربي والصهيوني في كل تلك الأصعدة، والثقل المتزايد الذي بات يشكله محور المقاومة ومكوناته إقليمياً، وانحسار الظل الأمريكي عن منطقتنا نسبياً، يوحي كله بانبعاث روحٍ جديدةٍ في المنظومة الرسمية العربية.
سبقت الإشارة في مقالاتٍ سابقة إلى أن ما دفع المنظومة الرسمية العربية بالاتجاه أعلاه كان فقدان الغطاء الأمريكي، خصوصاً بعد الانسحابِ من العراق وأفغانستان، وتركِ الأمريكيين حليفهم الأوكراني يقاتل وحده من دون غطاء رسمي من الناتو، وتقاعس الأمريكيين عن التصدي للصواريخ اليمنية التي تصول في منطقة الخليج، وتوجه إدارة بايدن للتفاهم مع إيران على خلفية العقوبات على روسيا وحرب أوكرانيا بالذات، وانشغال النخب الأمريكية بصورةٍ عامةٍ بأزماتها المستفحلة محلياً، مثل أزمة موازنتها ودينها العام والانقسام المجتمعي ومعاركها الانتخابية والقضائية، وتركيز قواها دولياً على مواجهة روسيا والصين، في محاولة لإبطاء أفول الولايات المتحدة الأمريكية اقتصادياً وسياسياً كقطب أوحد، الأمر الذي ترك المنطقة العربية في أدنى سلم الأولويات الأمريكية، بعد أوكرانيا وتايوان وكل مناطق الاحتكاك الأخرى مع روسيا والصين في الجغرافيا السياسية والاقتصاد الدوليين.
علامة مخالفة للتوجه الأمريكي لإهمال المنطقة العربية
تمثلت العلامة الفارقة عن التوجه الأمريكي لإهمال الملفات العربية بصورةٍ عامةٍ في السنوات الفائتة في الضغط الحثيث من طرف إدارة الرئيس الأمريكي بايدن على السعودية كي توقع اتفاقاً تطبيعياً، خصوصاً في الأسابيع السابقة لعملية “طوفان الأقصى” التي كثرت فيها التسريبات الإعلامية عن “قرب توقيع اتفاق إبراهيمي آخر” بين السعودية والعدو الصهيوني.
لم آخذ تلك التسريبات بجدية كبيرة آنذاك لأن الإعلام الأمريكي والصهيوني حفل بتقارير عن الدوافع الشخصية لكلٍ من بايدن ونتنياهو كي يحققا “إنجازاً شخصياً” يوظفانه لإنقاذ نفسيهما، بايدن قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام المقبل بعد تدني شعبيته بشدة، ونتنياهو لإنقاذ حكومته ومهنته سياسياً، وشخصه قضائياً. لذلك، كانا مستعدين لبذل أي وعود للسعودية لتحقيق اختراق تطبيعيٍ، بغض النظر عن جديتهما في تنفيذها، ما عدا تلك التي تضر بصورتهما سياسياً طبعاً، وبالتالي انتخابياً، هنا والآن.
من البديهي أن أي اختراق تطبيعي يعد انتهاكاً للأمن القومي العربي، وأن تمرير صورة تطبيع وشيك، حتى لو لم يتحقق، تمثل بذاتها اختراقاً إعلامياً، لا سيما عندما يترك الباب مشرعاً في وجهها سعودياً. لكنّ ما تحتاجه الآلة الانتخابية للحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة، حزب الرئيس بايدن، وحكومة نتنياهو في الكيان الصهيوني، كان قد تدنى من مستوى استراتيجية عليا إلى مستوى “إعلان اتفاق” يوظف في حملة علاقات عامة تروج لبايدن ونتنياهو شخصياً.
لم يخرج البعد التطبيعي في مشروع “الممر الهندي-الأوروبي”، الذي يمر بالخليج العربي والكيان الصهيوني، والذي أعلن عنه في قمة مجموعة العشرين في الهند في 9 أيلول / سبتمبر الفائت، قبل نحو شهر من عملية “طوفان الأقصى”، عن إبراز صورة تطبيع وشيك بين السعودية والكيان الصهيوني يصعب أن يتحول الممر إلى واقعٍ من دونه، على الرغم من تساؤلات كبرى ظلت تحوم فوق الممر تقنياً واقتصادياً جاعلةً جدواه مشكوكاً بأمرها، بعيداً عن بعده السياسي، والذي يتلخص ببعده الإعلامي حقيقةً في اللحظة الراهنة، سواء ترجم الممر إلى حقيقة أم لا.
الأهم أن “الممر الهندي-الأوروبي” يمثل من منظور الجغرافيا السياسية اصطفافاً مع الغرب الجماعي في مواجهة روسيا والصين، خصوصاً بعد انضواء ست دول في منظمة البريكس في شهر آب / أغسطس الفائت، كانت السعودية من بينها. هذا يعني أن منظور الصراع الدولي بات حاكماً في التعامل مع الجغرافيا السياسية للوطن العربي، وهذا أكثر أهميةً من تهميش الممر لإيران، لأن إيران محطة رئيسية في ممر شمال-جنوب الذي يربط الهند بروسيا، وخياراتها الاستراتيجية ترتبط بالشرق والجنوب العالميين، لا بتعزيز العلاقات مع أوروبا اقتصادياً وسياسياً، أي أن الضربة هنا للصين أساساً، ثم لروسيا.
عملية “طوفان الأقصى” تغير المعادلات الإقليمية
عززت الولايات المتحدة حضورها العسكري بحرياً في 7 آب / أغسطس الفائت بقطعٍ من الأسطول الخامس، تحمل قوةً تدميرية كبيرةً وآلاف الجنود الأمريكيين، في القوس الممتد من قناة السويس، مروراً بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب، إلى خليج عدن وبحر العرب، ومن ثم إلى خليج عُمان ومضيق هرمز فالخليج العربي. وفي 24/10/2023، أجرى الأسطول الخامس مناورات عسكرية في الخليج العربي.
كانت تلك رسالة لطمأنة الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، والساعية لإيجاد غطاء روسي-صيني بديل في العراء، وللتصالح مع إيران، بعد ما بدا انسحاباً أمريكياً من المنطقة وقلة اكتراثٍ بها. فها هي الولايات المتحدة إذاً تؤكد حضورها وتثبت غطاءها، وكان ذلك خلفيةً ضروريةً لإقناع السعودية بالدخول في المسار التطبيعي “الإبراهيمي”.
لكن التحول الكبير في التحشيد الأمريكي عسكرياً حدث بعد عملية “طوفان الأقصى”، فإذا كانت المياه العربية الممتدة بين البحر الأحمر والخليج العربي هي منطقة عمل الأسطول الخامس الأمريكي، فإن المياه العربية المحاذية للبحر المتوسط هي منطقة الأسطول السادس، وهو أسطولٌ سبق أن واجهه العرب مراراً، عندما دخل إلى لبنان خلال الأزمة الأهلية عام 1958، بناء على طلب الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون، وفي الحرب مع الكيان الصهيوني عام 1973، وكانت مهمته آنذاك إبقاء قناة السويس مفتوحة، كما دخل في مناوشات مباشرة مع السوفيات في تلك الحرب، وعندما قصف ليبيا عام 1986، وعندما قصفها بضراوة عام 2011.
لكن يبدو أن الحضور التقليدي للأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط لم يكن كافياً لشد أزر الكيان الصهيوني، بعد ضربة “طوفان الأقصى” التي دوخته، فأرسلت الإدارة الأمريكية لا مجموعة حاملة طائرات واحدة، بل مجموعتين، كانت أولاهما مجموعة حاملة الطائرات “جيرالد فورد” التي لحقتها مجموعة حاملة الطائرات “دوايت أيزنهاور”.
بيت القصيد هنا أن مثل هذا الحضور العسكري الأمريكي المتزايد في البحر المتوسط، تحت عنوان مواجهة إيران وحزب الله رسمياً، كان له أثر استعادة شيء من ثقة الأنظمة العربية التي راهنت على الإدارة الأمريكية فخذلتها، لكنها تشعر الآن بـ”دفء” الغطاء الأمريكي من جديد مع تأكيد الولايات المتحدة عملياً التزامها بحراسة المنطقة.
ونلاحظ أن لقاء “أوبك+” ذاته جرى تأجيله، كما أن الحديث عن عقد اتفاقية “إبراهيمية” تجدد. لكن إلى متى يمكن الرهان على التزام الولايات المتحدة عسكرياً في منطقتنا، بعيداً عن أولوياتها الاستراتيجية مع روسيا والصين؟ وإلى متى تبقى تعزيزات الأسطول الخامس في مياهنا بعيداً عن أولوية “الهادئ-الهندي” التي ثبتها البنتاغون عام 2018؟
كل ما جرى أن الكيان الصهيوني شعر بتهديد حقيقي وباختلال بتوازنه، فهرع الغرب الجماعي، وعلى رأسه الإدارة الأمريكية، كي يقدم له الدعم معنوياً وسياسياً وعسكرياً ومالياً. انكشفت حقيقة الصراع في فلسطين على الملأ بأنها صراعٌ مع الغرب الجماعي، والبعض يقول إن ذلك دليلٌ على أهمية “إسرائيل” كقاعدة للإمبريالية في الوطن العربي، ويقول البعض الآخر إنه دليلٌ على وزن اللوبيات اليهودية في مراكز القرار في الغرب الجماعي.
لكنّ وجهتي النظر محقتان في آنٍ واحد، فالعلاقة العضوية بين الغرب الجماعي والكيان الصهيوني تتجاوز تأدية دورٍ وظيفي كقاعدة للاستعمار في منطقتنا إلى اندماج النخب اليهودية في النخب الحاكمة في الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً، التي لا تتردد في معاقبة الفنانين والممثلين ورجال الأعمال والإعلاميين وأساتذة الجامعات الغربيين ممن “يشذون” عن خط المؤسسة الحاكمة في دعم الصهيونية، كما رأينا في الأسابيع الفائتة.
تراهن الأنظمة العربية، باختصار، على طيفٍ عابر سوف يغادر عندما تقرر الإدارة الأمريكية أن الخطر المحدق على الكيان الصهيوني زال. فإذا بقي ذلك الخطر مقيماً، وكان وجود الكيان الصهيوني ذاته مهدداً، فما الحكمة من مراهنة الأنظمة العربية على كيانٍ بات وجوده برسم الزوال؟