إبراهيم علوش – الميادين نت
على ضفتي سنة 2000، احتدم جدال في الساحة الفلسطينية، وبين المعنيين بالشأن الفلسطيني، بشأن العمليات الاستشهادية التي أثخنت الكيان الصهيوني رعباً وقتلى وجرحى. ولم يكن من المفترض أن يكون هناك جدل بشأن تلك العمليات، إذ إن أي عمل مقاوم يبرر نفسه بنفسه، وليس في حاجة إلى تبرير، فما بالكم إذا كان ذلك العمل مؤثراً وموجعاً مثل العمليات الاستشهادية؟!
في البداية، انقض مناهضو العمليات الاستشهادية على مشروعيتها، كونها تستهدف “مدنيين” بزعمهم، وأماكن مدنية في الأعم الأغلب، وأن ذلك يسيء للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال، ويوحد “المجتمع الإسرائيلي” ضدنا، وربما يصيب “يهوداً تقدميين”، في النسخة اليسارية من هذا الخطاب.
أما السلطة الفلسطينية فعدت العمليات الاستشهادية “مؤامرة” عليها وعلى جهودها التفاوضية للوصول إلى “دولة فلسطينية”، وعلى استراتيجيتها العبقرية لشق صفوف معسكر العدو بمبادرات السلام والتنسيق الأمني. وبلغ الأمر ببعض من يتبنون هذا الخط أنهم اتهموا منفذي العمليات الاستشهادية بالتنسيق مع حكومة نتيناهو في مواجهة حزب العمل (شمعون بيريز ثم أيهود باراك)، الأميل إلى التفاهم مع السلطة الفلسطينية!
ويغفل هذا الخطاب التآمري أن مجرد وجود شبهة من هذا النوع فوق رأس أي سياسي صهيوني سوف تسقطه مباشرة في “المجتمع الإسرائيلي”، وكان حزب العمل سيسارع إلى فضحه في جميع الأحوال. كما أن ذلك الحزب لم يكن بالضبط “حمامة سلام” عبر تاريخه، بل كان سلفه (الماباي) مؤسس الكيان على المجازر والدمار. وفي ضوء سجل حزب العمل المترع بالحروب والاغتيالات، سيكون من السذاجة بمكان أن نضيع الوقت في تصنيف القتلة، وأيهم أكثر إنسانية وميلاً إلى السلام.
المهم، كان رد مناصري العمليات الاستشهادية من شقين: أولاً، لا يوجد في الكيان الصهيوني “مدنيون”، إذ إننا نتعامل مع “مجتمع” استعماري استيطاني إحلالي، لا مع جيش احتلال أجنبي فحسب، فهو جيش يملك مجتمعاً، وليس مجتمعاً يملك جيشاً، و”إسرائيل” ليست سوى معسكر كبير. وبالتالي، فإن كل يهودي على أرض فلسطين هو موضوعياً جزءٌ لا يتجزأ من المشروع الصهيوني، بغض النظر عن توجهاته الحزبية أو حتى مستوى تسييسه.
وكان بعضنا، في الشق الثاني، يرد رداً سياسياً على مناهضي العمليات الاستشهادية: ما دام العدو الصهيوني يستهدف مدنيين، وسجله حافلٌ بالمجازر والاغتيالات منذ نشأ، وبتدمير البلدات والأحياء العربية، فإن العمليات الاستشهادية تمثل الرد العملي الممكن على استهداف الكيان الصهيوني للمدنيين في فلسطين وغيرها، أي أنها تمثل أداة ردع (ويبرز هنا نموذج اتفاق نيسان 1996 في لبنان لتحييد المدنيين في الجانبين من الصراع مثالاً بارزاً على ذلك التوجه).
عندما رجحت كفة مناصري العمليات الاستشهادية، وكان من الطبيعي أن ترجح، لأن الشعب لا يمكن إلا أن يكون مع المقاومة، انتقل مناهضو تلك العمليات إلى استراتيجية جديدة: التشكيك في حكمة العمليات الاستشهادية وجدواها سياسياً، بدلاً من التشكيك في مشروعيتها.
تجنّد لهذا الغرض مئات الكتاب وناشطي المنظمات غير الحكومية المموّلة أجنبياً (وهو تناقض في المصطلح، لأن التمويل الأجنبي غالباً ما يكون حكومياً) كي يدعوا إلى وقف العمليات الاستشهادية، حرصاً على عدم ربط النضال الفلسطيني بـ”الإرهاب” عالمياً، وخصوصاً بعد إعلان الإدارة الأمريكية ما يسمى “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001. وبالتالي، فإن الاستمرار بالعمليات الاستشهادية، بحسب هذه السردية، سوف يقلب “الرأي العام العالمي” ضدنا، وقد يستجلب عملاً عسكرياً غربياً مباشراً ضد المقاومة الفلسطينية بذريعة “محاربة الإرهاب”.
كأن العمل المقاوم في كل زمان ومكان لم يُرمَ بتهمة “الإرهاب” دوماً وأبداً، كأن الغرب قصّر تاريخياً في شن الحروب علينا وعلى كل شعوب الجنوب العالمي، وكأن العراق، الذي جرى غزوه واحتلاله تحت لافتة “الحرب على الإرهاب” سنة 2003، كان متورطاً في أحداث الـ 11 من سبتمبر، وكأن الغرب تأخر يوماً عن إمداد الكيان الصهيوني بكل دعم ممكن، استخبارياً وعسكرياً ومادياً، في مواجهة فصائل المقاومة، وكأن الإعلام العالمي “حر”، وكأن ما يسمى “الرأي العام العالمي” سوف يستفزه استهداف بضع عشرات من المستعمرين المستوطنين في فلسطين، لا استهداف شعب بأكمله بصورة يومية منذ نهاية القرن الـ 19.
كان لا بد من استرجاع هذا الحوار اليوم في ضوء حملة التشكيك الحثيثة التي تستهدف عملية “طوفان الأقصى” المجيدة، إذ إن ما جرى مع العمليات الاستشهادية قبل 25 عاماً يجري تكراره الآن مع عملية “طوفان الأقصى” المجيدة، لا من حيث مشروعيتها، لأن التشكيك في العمل المقاوم ساقط مبدئياً، بل من حيث حكمتها وجدواها سياسياً.
ولو اقتصر التشكيك في “طوفان الأقصى” على وسائل الإعلام والأنظمة والشخصيات المعروفة بعدائها للمقاومة، لما استحق ذلك مجرد تعليق، لأن العمل المقاوم أسمى وأعلى وأقوى من أي تخرصات وتلفيق ولغو يمكن أن يرميه أعداؤه بها. ومن يهاجم العمل المقاوم يدنْ نفسه فحسب، ويصطف في معسكر العدو.
لكنْ، تدرك أن لدينا مشكلة حين تسمع في صفوفنا من يردد بأن “طوفان الأقصى” ثبت بأنه “مؤامرة” على محور المقاومة، بدلالة الضربات الكبيرة التي تعرض لها ذلك المحور، في لبنان وسورية وإيران، على إثره، وأن المحور انجر إلى المشاركة في الحرب بخديعة، لأنه لم يكن في صورة موعد عملية “طوفان الأقصى”.
وقد تسمع في صفوفنا من يقول إن عملية “طوفان الأقصى” لم تكن عملاً حكيماً، أو مدروساً بعناية، بدلالة الدمار الشامل الذي تعرضت له غزة، وتصفية قيادة المقاومة فيها، على خلفية الـ 7 من أوكتوبر 2023.
يدخل في هذا الباب الكلام المنقول عن الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في 1/3/2025 في وسائل الإعلام، بناءً على مقابلة معه، والذي جاء فيه:
“أبدى دوغين استغرابه من الهجوم الذي شنته حركة حماس على “إسرائيل” في الـ 7 من أوكتوبر 2023، مشيراً إلى أنه لم يكن جزءاً من استراتيجية واضحة المعالم، بل جاء كمبادرة منفردة لم تتبعها أي خطوات سياسية أو عسكرية متماسكة.
ووفقاً له، فإن حماس لم تكن تمتلك خطة استراتيجية حقيقية، مما أدى إلى تداعيات كارثية على قطاع غزة. فقد استغلت “إسرائيل” الهجوم لتبرير رد عسكري واسع النطاق أدى إلى تدمير كبير للبنية التحتية في غزة، وسقوط آلاف الضحايا من المدنيين، إضافة إلى تصعيد عسكري ضد إيران وحزب الله وضربات موجهة لمحور المقاومة بأكمله.”
لا تعد روسيا ضمن محور المقاومة طبعاً، كما أن لديها تقاطعات مصالح كثيرة مع الكيان الصهيوني، وهذه ليست المرة الأولى التي يشكك فيها كاتب روسي في “طوفان الأقصى”، وكان أحدهم زعم أن الكيان الصهيوني سمح بحدوث الطوفان عمداً، وسبق أن جرى الرد عليه، إذ ليس من العقلانية بشيء أن يقدم العدو على خطوة تسهل انهيار منظومتيه الأمنية والعسكرية في ساعات، وتذله علناً، وتكشفه استراتيجياً في الأرض المحتلة عام 1948 عبر غلاف غزة، وتكشف حكومته سياسياً، وتعطل التطبيع مع السعودية، ضمن “مؤامرة” لا شك في أن خسائرها أكبر كثيراً من مكاسبها المتوقعة.
لكنّ دوغين بالذات يبرز بصفته شخصية مؤثرة في أوساط النخب المناهضة للهيمنة الأمريكية عالمياً، كما أن له وزنه بين النخب المقاوِمة عربياً، الأمر الذي يزيد من أهمية نقده للسابع من أوكتوبر.
يضاف إليه المشككون في حكمة “طوفان الأقصى” وجدواه، بأثر رجعي، على خلفية اغتيال كبار القيادات المقاوِمة من لبنان إلى غزة، وإطاحة القيادة السورية، والدمار الشامل من غزة إلى لبنان.
من البديهي إذاً أنه لم يكن ثمة داعٍ لكتابة هذه السطور لولا تسرب أثر التشكيك في عملية “طوفان الأقصى” الرائعة إلى ثنايا بعض حواضن محور المقاومة، ولولا أن أنصاراً للمقاومة، من أصحاب المواقف والسجلات المعروفة في دعمها، راحوا يرددون مفردات ذلك التشكيك وموضوعاته في مجالسهم، أو في ثنايا تعليقاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي أحياناً.
هذه دعوة مفتوحة للكتاب والمؤثرين المقاومين كي يتصدوا للتشكيك في أبدع عملية مقاوِمة منذ بدأ الصراع مع الحركة الصهيونية، ومن ثم، للتشكيك في حكمة انخراط حزب الله والمحور ككل في الطوفان. ولو كان السيد حسن نصرالله بيننا، لبدد الشكوك المثارة بشأن ذلك كله في بضع دقائق من أحد خطاباته. أما بعد، فإننا نحتاج اليوم إلى جيش من الإعلاميين والمثقفين ونشطاء وسائل التواصل من أجل التصدي لتلك الهجمة، وما يلي مساهمةٌ في ذلك الجهد.
من اللافت، أولاً، أن الطعن في عملية “طوفان الأقصى” يأتي في وقتٍ يلعق فيه الكيان الصهيوني جراحه العميقة من جرائها… وها هو إعلام العدو ينقل يومياً مقاطع من تقييم جيش الاحتلال والشاباك للثُغر المتعددة، أمنياً وعسكرياً ومفاهيمياً، التي سمحت لمأثرة السابع من أوكتوبر أن تحدث.
تتنحى رؤوس كبيرة في المؤسستين العسكرية والأمنية من جراء إخفاقات السابع من أوكتوبر، وثمة استقالات واعترافات بالتقصير بالجملة، ودعوات لتنحية نتنياهو وحكومته من جراء تلك الإخفاقات، ودعوات أخرى لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة فيها، وألا يقتصر التقييم على المؤسستين العسكرية والأمنية في الكيان الصهيوني.
تتمحور تلك الإخفاقات في 3 عناوين رئيسة:
أ – التقصير استخبارياً في معرفة نيّات المقاومين في غزة مسبقاً، والاعتماد المفرط على وهم التفوق الاستخباري “الإسرائيلي”، والتجاهل المتغطرس لعدد من المعطيات الاستخبارية بأن هجوماً يجري الإعداد له في غزة، وعدم القدرة على توقع هجومٍ بهذا الحجم حتى لو أخذت تلك المعطيات في الحسبان.