بين روسيا وأوكرانيا وفنزويلا وسورية… عالمٌ جديدٌ يولد من قلب الدمار

March 19th 2014 | كتبها

 


 

لم ينشا، هذه المرة، كثيرٌ من اللغط بين مناهضي الإمبريالية عربياً وعالمياً حول إذا كان ما يجري في أوكرانيا أو فنزويلا “ثورة شعبية ضد نطام ديكتاتوري” أم تدخل أجنبي، إمبريالي تحديداً، بأدوات “الثورات” الملونة.  فقد ارتسمت معالم المعسكرات ابتداءً من ليبيا وانتهاءً بسورية، وكان هوغو تشافيز زرقاء اليمامة، إذ طرح تساؤلات سهلة ممتنعة حول بعض جوانب “الربيع العربي” منذ ما قبل 17 شباط 2011 في ليبيا. 

 

لقد بات من الواضح الآن أن الإمبريالية امتلكت في مرحلة ما بعد “الحرب الباردة” أدوات “القوة الناعمة” القائمة على اختراق العقول والقلوب وتوظيف الحراك الجماهيري في خدمة أهدافها ومشاريعها.  وفيما كانت الثورة وتصديرها والتبشير بها ودعمها في خضم “الحرب الباردة” لعبة اليسار المناهض للإمبريالية وديدن حركات التحرر الوطني والقومي حول العالم، في مواجهة دول وأنظمة مدعومة من الإمبريالية، غدت لعبة “الثورة” وتصديرها وتبنيها مشروع واشنطن ولندن وباريس والشركات الكبرى متعدية الحدود، إنما لتهديم الدول المستقلة وتفكيك المجتمعات وكنس كل آثار التحرر الوطني والقومي، فانقلبت الأدوات، ولم تنقلب الأهداف، وصارت روسيا والصين والدول المستقلة معنيةً بإلزام واشنطن باحترام سيادة الدول الوطنية، مما عنى أن روسيا والصين لا يمكنهما أن تقدما الذريعة للدول الإمبريالية من خلال دعمهما لحركات التحرر الوطني، وهو ما لم تفهمه كثيرٌ من حركات التحرر الوطني حول العالم، لأن قوانين لعبة الصراع الدولي والإقليمي في مرحلة ما بعد “الحرب الباردة” اختلفت كثيراً، فعنوان الثورة المضادة للتحرر الوطني والتنمية المستقلة هو التدخل الإمبريالي عبر الحدود تحت اقنعة “الحرية” و”الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”، بينما عنوان سياسة روسيا والصين الخارجية هو دعم الدول، دون الحركات، المستقلة، باعتبارها علاقة رسمية ضمن إطار القانون الدولي ما بين دولتين، ودعم سيادة الدول في مواجهة التدخل الخارجي!

 

كشَف استخدام أدوات “القوة الناعمة” في أوكرانيا وفنزويلا ضد رئيسين منتخبين ديموقراطياً تكرار مسلسل “الحراك الشعبي” المدعوم إمبريالياً، وسقوط قتلى بأيادٍ غامضة بين المتظاهرين، وإطلاق النار على رجال الأمن من بين المتظاهرين، وقفز الإعلام الغربي على حالات “الشهداء العزل” من أجل “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”، أن كتيب “الثورة المضادة” الذي تم تدريسه في معاهد “جين شارب” وأمثاله هو المرجع المعتمد عالمياً من قبل الإمبريالية مع تطبيقات خاصة على توظيف التدين إمبريالياً في الحالة العربية والإسلامية كما رأينا في خضم ما يسمى “الربيع العربي” سواء عبر التوظيف المدني أو الإرهابي للجماعات المتأسلمة التي قادها هنري برنار ليفي في ليبيا مثلاً.

 

ليكن واضحاً بالطبع أن ما سبق لا يجوز على الإطلاق أن يقود لإدانة أي حراك جماهيري في زماننا. على العكس تماماً، نقول بأن أي حراك جماهيري أو غير جماهيري لا ينطلق من مناهضة الإمبريالية والصهيونية وتبني مشروع التخلص من التبعية ومشروع التنمية المستقلة، ناهيك عن تلقيه دعم الإمبريالية وأدواتها، هو حراك مشبوه أو ضال أو مخترق.

 

بلى، يتحمل القوميون واليساريون والإسلاميون المتنورون مسؤولية تقدم الإمبريالية عليهم في مجال التغلغل بالشارع والعقل والوجدان، وفي ما يفترض أنه القواعد الجماهيرية والمدنية لهم، لكن هذا ليس موضوعنا الآن.  موضوعنا هو أن ما تقوم به الإمبريالية في أوكرانيا وفنزويلا تحديداً، بالتلازم مع ما تقوم به في سورية وغيرها، اي القتال بأدوات غير مباشرة عسكرية ومدنية مدعومة من الإمبريالية، هو الشكل الحقيقي للمشروع الذي تبنته إدارة أوباما كبديل لمشروع “الضربة الاستباقية” و”التدخل العسكري المباشر” و”العمل المنفرد” الذي تبنته إدارة بوش الابن فاثبت فشله وعلو تكلفته.  وكان خطاب أوباما في العام 2009 في جامعة القاهرة الإشعار الرسمي بإطلاق المشروع الذي تضمن في بلادنا إعادة إحياء تحالف مرحلة “الحرب الباردة” ما بين الإمبريالية والحركات المتأسلمة، وإطلاق احتجاجات الانتخابات الإيرانية في العام 2009.

 

اليوم، في منتصف الفترة الرئاسية الثانية لباراك أوباما، تشن الإمبريالية هجوماً على فنزويلا رافعة انفلات أمريكا اللاتينية من هيمنة اليانكي، وتحاول الإمبريالية أن تخلق أفغانستان سوفييتية جديدة على حدود روسيا الغربية، فالمليشيات والعصابات المسلحة الأوكرانية كانت جاهزة مباشرة بعد الحراك الجماهيري المزعوم. 

 

ثمة تكهنان متداولان حول عواقب تورط روسيا بمعركة أوكرانيا: الأول، أن تقايض روسيا سورية بأوكرانيا، الثاني، أن تؤدي معركة أوكرانيا لتصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا إلى حرب باردة جديدة تقود إلى تعزيز وضع سورية.  لكن وضع المسالة بهذه الصورة المبتسرة يقيد تحليل المشهد إلى ومضات إعلامية  هي عوارض فحسب.  فلا بد أولاً من فهم طبيعة الصراع في عالمنا المعاصر.  فروسيا لا تملك أن تتراجع في سورية مقابل أوكرانيا لأن من يثير “ثورة” ملونة في أوكرانيا يعمل أيضاً على إثارتها في روسيا نفسها، ومن يتساهل مع “ثورة” مدعومة إمبريالياً في سورية سيكون قد استقدمها عبر تركيا نفسها إلى منطقة القوقاز، ومن يتحدث عن دعم العصابات المسلحة في أوكرانيا عسكرياً هو نفسه جون ماكين الذي تبنى العصابات ذاتها في ليبيا وسورية.

 

نحن في عالمٍ جديدٍ إذن عنوانه الصراع ما بين الدول المستقلة من جهة والإمبريالية وأدواتها من جهة أخرى، ولا نملك أن نكون محايدين في صراعٍ من هذا النوع.   فإما مع الإمبريالية أو ضدها… إما مع الدول المستقلة عن الإمبريالية أو ضدها… ولا منزلة بين المنزلتين في ظل مثل هذا التناقض الرئيسي الذي يحكم عالمنا في هذه اللحظة التاريخية بالذات: إما مع أوباما أو مع بوتين، وإما مع نتنياهو أو مع بشار الأسد، وإما مع العولمة المتوحشة أو مع مشروعِ عبد الناصر تشافيز. 

 

والعالم يولد من جديد من رحم سورية…

 

إبراهيم علوش

البناء 19/3/2014

 

للمشاركة على الفيسبوك:

 

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=841541079196462&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=1&stream_ref=10

 

 

الموضوعات المرتبطة

لعبة “الشرطي السيئ، والشرطي الأسوأ” في الضربة الصهيو-أمريكية على إيران

  إبراهيم علوش – الميادين نت لا يمكن القول إن الضربة الكبيرة التي شنها الكيان الصهيوني على إيران فجر الجمعة كانت غير متوقعة، لا بسبب التهويل والتهديد المستمرين، فهذان كان يمكن تصريفهما في [...]

سيناريوهات حرب أوكرانيا بين الاستنزاف المطول والحل التفاوضي

  إبراهيم علوش – الميادين نت على إيقاع هجمات متبادلة تزداد ضراوةً وعمقاً، يمكن وصف مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف بأنها مسرحية تؤدى لعيون ترامب فحسب، بطلاها خصمان لدودان لا يطيق أحدهما [...]

مفهوم “السياسة الصناعية” وموسم العودة إلى فريدريك لِست Friedrich List

  إبراهيم علوش – الميادين نت لم يستفز الاستراتيجيين الأمريكيين شيءٌ مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة عشرية أطلقت سنة 2015 أيضاً لتطوير عشرة قطاعات تصنيعية صينية، من بينها الذكاء [...]

الصراع الصيني-الأمريكي من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية

  إبراهيم علوش – الميادين نت كثيراً ما يستفز "برود" الصين، في مواجهة التغول الأمريكي، أنصار التعددية القطبية ودعاة التحرر من الهيمنة الأمريكية حول العالم. فالصين، ثاني أكبر اقتصاد [...]

حصاد زيارة ترامب الخليجية: صفقات كبرى، ومنافسة الصين

  إبراهيم علوش – الميادين نت يصر تقرير في موقع "مجلس الأطلسي" (Atlantic Council)، في 13/5/2025، بشأن زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بأن هدف الزيارة يتلخص بأمرين: أ – عقد صفقات تجارية [...]
2025 الصوت العربي الحر.