كرة القدم

June 16th 2010 | كتبها

د. إبراهيم علوش

 

السبيل 17/6/2010

 

مباريات كرة القدم باتت أفيون الشعوب.   ومباريات كأس العالم اليوم باتت وريثاً شرعياً للألعاب التي كان يقيمها قياصرة الروم في الملاعب العامة لإلهاء الشعب عن قضاياه الحقيقية، قضايا ثروات الأمة وحقوقها وسيادتها وأراضيها المحتلة وفقرها وبطالتها الخ… 

 

هذا الهوس اللاعقلاني بمشاهدة المباريات، وتشجيع الفرق، ورفع الأعلام بحماسة من على شرفات المنازل والسيارات، وهذا الانجراف الأهوج في المجادلات حامية الوطيس – و”طوش الضرب” أحياناً – ، تعصباً لهذا الفريق الرياضي أو ذاك، لا يمكن أن نصفه، لو شئنا استخدام مصطلحات علم النفس وعلم الاجتماع، إلا كشكلٍ من أشكال “الهستيريا الجماعية” المعولمة التي تتبدد فيها العقول والقلوب والطاقات والمشاعر والأنظار في النهاية في مجاري الصرف غير الصحي لعدمية السخافة وخواء اللاانتماء.

 

أحد عشر رجلاً يطاردون قطعة من الجلد مليئة بالهواء هو الشكل الفيزيائي المحض لفريق كرة قدم، يقابلهم أحد عشر رجلاً غيرهم يلبسون ألواناً مختلفة ويسعون خلف نفس قطعة الجلد المملوءة بالهواء – الكرة – فيضعون الخطط، ويوزعون الأدوار، ويلهثون خلف تلك الكرة في أسوأ الأحوال الجوية أحياناً.  وإلى هنا لا مشكلة طبعاً، فهذا شأن يخصهم، وتلك حرية شخصية لا يؤذون بها أحداً.  لا بل أن لعبة كرة القدم شكل من أشكال الرياضة، والرياضة منافعها الجسدية والمعنوية والصحية لا تعد ولا تحصى.  ولا يجوز الاستنتاج من هذه الكلمات أبداً أننا ضد الرياضة، على العكس تماماً، يدور الحديث هنا بالضبط عن عدم ممارسة الرياضة، والتحول، عوضاً عن ذلك، إلى بشر غير فاعلين يتسمرون أمام الشاشات متفرجين مصفقين أو بكَّائين، إلى متحمسين متعصبين لفرق رياضية لا تمس حياتهم بشيء، ولا تغير فيها شيئاً، لا للأحسن ولا للأسوأ، حتى على صعيد الفوائد الشخصية لممارسة الرياضة.

 

وتلك منافذ آمنة سياسياً للحراك الجماهيري في كل العالم لا تؤثر على السياسات الداخلية أو الخارجية، ولا على موازين القوى، ولا حتى على المجال الحيوي لذبابة، ولذلك تفضل الحكومات أن تركب موجتها، خاصة أنها تؤدي وظيفة التنفيس، بعد أن يتوهم مئات ملايين المشاهدين حول العالم أنهم أنجزوا شيئاً ما، أو “مروا بالكثير”، وانتصروا أو انهزموا، بعد مشاهدتهم الحثيثة لمباريات كأس الهبل.

 

هل حرر منتخب إيطاليا لكرة القدم الأراضي العربية المحتلة حتى نرفع الأعلام الإيطالية بهذا الشكل؟  هل وحد منتخب البرازيل لكرة القدم الأمة الممزقة أجزاؤها؟  هل نهض المنتخب الفرنسي لكرة القدم بالأمة اقتصادياً واجتماعياً؟  لا بل أن بعض تلك الأعلام هي لدولٍ استعمارية لها تاريخٌ قذر معنا ومع كثير من شعوب العالم الثالث!!  فليس من المفهوم أبداً أن نتحمس لها أو أن نشجعها، خاصةً أن التشجيع والتأييد الشعبي ألأحمق هنا يتحول إلى تأييد سياسي مجاني غير عقلاني بكل المقاييس.     

 

وعندما ترى كيف كاد يتحول ذاك التعصب اللاعقلاني إلى حرب بين بلدين عربيين، وكيف تكاد تتحول المباريات الرياضية بين فرق كرة القدم الأردنية إلى مراجل للفتنة الأهلية، فإنك لا تملك أن تقول إلا: أعوذ بالله من مباريات كرة القدم وبطولاتها الوهمية السخيفة.

 

وكل ما سبق لا يتطرق لقضية مهمة جداً وهي كيفية تحول لعبة الرياضة إلى تجارة صرف، إلى دولارات ويوروات ودنانير، وإلى مصدر للأرباح الخيالية لمالكي الفرق وبائعي حقوق عرض المباريات ومالكي حقوق بث المباريات على الشاشات، أي إلى وسيلة لعصر جيوب الناس في النهاية، وليس فقط لتسخيف عقولهم وصرفهم عن شؤونهم العامة المهمة.

 

وبمقدار ما أحب الرياضة، افتخر بهذه المناسبة بأنني لم أتابع يوماً مباريات كرة القدم، ولا حتى أنواع السيارات الرياضية، فكلها هدرٌ للإنسان ولوعيه، وانحدارٌ للغرائز المريضة، وأطالب من على هذا المنبر كل المثقفين والكتاب وصناع الرأي وخطباء المساجد وأساتذة الجامعات وكل حريص على هذه الأمة أن يشنوا هجوماً معنوياً معاكساً على هذه الهستيريا الجماعية المسماة مباريات كأس العالم.  فالجمهور ليس دوماً على حق!  

 

alloush100@yahoo.com

 

الموضوعات المرتبطة

لعبة “الشرطي السيئ، والشرطي الأسوأ” في الضربة الصهيو-أمريكية على إيران

  إبراهيم علوش – الميادين نت لا يمكن القول إن الضربة الكبيرة التي شنها الكيان الصهيوني على إيران فجر الجمعة كانت غير متوقعة، لا بسبب التهويل والتهديد المستمرين، فهذان كان يمكن تصريفهما في [...]

سيناريوهات حرب أوكرانيا بين الاستنزاف المطول والحل التفاوضي

  إبراهيم علوش – الميادين نت على إيقاع هجمات متبادلة تزداد ضراوةً وعمقاً، يمكن وصف مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف بأنها مسرحية تؤدى لعيون ترامب فحسب، بطلاها خصمان لدودان لا يطيق أحدهما [...]

مفهوم “السياسة الصناعية” وموسم العودة إلى فريدريك لِست Friedrich List

  إبراهيم علوش – الميادين نت لم يستفز الاستراتيجيين الأمريكيين شيءٌ مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة عشرية أطلقت سنة 2015 أيضاً لتطوير عشرة قطاعات تصنيعية صينية، من بينها الذكاء [...]

الصراع الصيني-الأمريكي من أجل إعادة صياغة المنظومة الدولية

  إبراهيم علوش – الميادين نت كثيراً ما يستفز "برود" الصين، في مواجهة التغول الأمريكي، أنصار التعددية القطبية ودعاة التحرر من الهيمنة الأمريكية حول العالم. فالصين، ثاني أكبر اقتصاد [...]

حصاد زيارة ترامب الخليجية: صفقات كبرى، ومنافسة الصين

  إبراهيم علوش – الميادين نت يصر تقرير في موقع "مجلس الأطلسي" (Atlantic Council)، في 13/5/2025، بشأن زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بأن هدف الزيارة يتلخص بأمرين: أ – عقد صفقات تجارية [...]
2025 الصوت العربي الحر.